مختارات ..
=-=-=-=-=-=
الأدب Literature ..
د.علي أحمد جديد
الأدب هو الكلام البليغ الذي يؤثر في المتلقي سواء كان شعراً أو نثراً . وكانت العرب في الجاهلية يُطلقون على الطعام الذي يدعون إليه الناس مأدبة ، ثم تحوّل المقصود بكلمة الأدب إلى مكارم الأخلاق ، عملاً بما جاء في الحديث النبوي الشريف :
“أدبني ربّي فأحسن تأديبي”
وفي العصر الأموي تطوّر مفهوم الأدب إلى التعليم فكان المُؤدِّب يقوم بتعليم الشّعر والخطابة وأخبار العرب وأنسابهم ، وفي العصر العباسي ألّف (ابن المقفع) رسالتيه “الأدب الكبير والأدب الصغير” وهما رسالتان تحتويان على العديد من الحكم والنصائح الأخلاقية الراقية ، وذلك يعني بأنّ مفهوم الأدب يشمل التهذيب والتعليم . ولقد أُطلق على مجموعة من الكتب في ذلك الوقت كتب الأدب ومنها :
– البيان والتبيين للجاحظ .
– الكامل في اللغة والأدب للمبرد .
– العقد الفريد لابن عبد ربه .
في العصر الحديث أصبح مفهوم الأدب يدلّ على معنيين اثنين : الأوّل معنى شامل وعام ويُدرِج جميع ما يُكتَب في اللغة من العلوم والآداب تحت مفهوم الأدب ، والثاني معنى خاص ويُقصد به أنّه لا بدّ أن يكون الكلام ذا معنى ويتّصف بالجمال . ولكي يكون التّأثير أدباً لابد وأن يشمل العديد من أساليب الكتابة كالشعر والنثر والمسرحيات والروايات والأمثال ، وحتى السيرة الذاتية والرحلات . وفي هذا يكون للعمل الأدبي شروطه التي تشمل كلاً من الشعور والتعبير والإيحاء ، وهو مايُفسّر على أنّ الأدب تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية ، إذْ لا يُمكن اعتبار الكثير من الكتب العلمية أو التّاريخية أو أي كتب مدوّنة تدويناً جميلاً على أنّها صنف من أصناف الأدب .
لأن الأدب هو مايُعبّر عن تجربة شعورية شخصية للكاتب تحتوي إحساسه وانفعالاته الشخصية ، وهي التجربة التي ينقلها المؤلف عبر الكتابة والتعبير عن هذه الانفعالات والأحاسيس في صور لفظيّة ذات دلالة لغوية . ولأن الأدب في حقيقته فنّ تعبيري يُعبّر به الإنسان عمّا يجول في خاطره من مشاعر وأفكار وخواطر وقضايا ، بأسلوب فنيّ يتميّز عن الكلام العادي في تركيبه وفي صياغته وجماليته ، وفي إيحاءاته ، وكلّما كان اسلوب التصوير لدى المؤلّف في عرض أفكاره وأحاسيسه إيحائيّة كلما كانت مؤثرة في نفس المتلقي ، وبهذا يتميّز الأدب عن الكتابة العلميّة البحتة التي تحتوي على الحقائق والنظريات كما هي دون أن تنقل تجربة إنسانية انفعالية .
ولأن الأدب انعكاس لصورة الواقع والإضافة إليه في تجاوز تحليله للواقع المعاش ، وإضافة القيمة إليه من خلال تقديم نماذج متباينة لآليات التفكير على صعيد الفرد والتي تنسحب فيما بعد على المجتمع ككل ، حتى يعادل أعلى فرص المعرفة و التعليم ، في اتاحة فرصة التعرف على العالم خارج الإطار المفروض على الفرد ليحظى بفرصة محاكمة الأشياء من خلال منظوره الشخصي للحياة .
يقدم الأدب المتعة العميقة في إغناء الحياة على الصعيدين المعنوي والروحي وإضفاء المعنى الشامل الذي يتجاوز التفاصيل اليومية من خلال استعادة قصص التاريخ والملاحم ، والكتب المقدسة والأعمال الروائية او المسرحية الكلاسيكية القديمة والحديثة ، في إطار الشكل الأدبي الذي يتضمن الإبداع في اللغة والثقافة وفي معرفة الحدث .
وقد خلّد التاريخ أعمالاً أدبية كثيرة ، ومنها أعمال (شيكسبير) مثلاً وأعمال الكاتب الروسي (ليو تولستوي) التي كانت المرشد الوجداني للمثل والقيم الإنسانية تتيح من خلالها للإنسان المتلقي أن يفهم حياته وحياة الآخرين ، كما تتيح له الفرصة لإلقاء النظرة العميقة على دراسة وجوه الحياة المختلفة . فيكون الأدب قادراً على تغيير رؤية الإنسان للحياة من خلال أعمال الأدباء وإنجازاتهم القيمة التي تساهم في الارتقاء بثقافة ومفاهيم المجتمع .
ولأن الأدب مرآة الزمان والمكان ، فإن نتاج ما كتبه ويكتبه المؤرخون يكون في الغالب من باب القوة السياسية الحاكمة وتوجهاتها في كتابة التاريخ ، ولكن الأدب يختلف على اعتبار أنه المرجع الأصدق والأغنى بمعرفة أحوال الناس وشؤونهم في مرحلة زمنية ما ، فيبقى محتوى الأدب أبعد من مضمونه الأدبي المرتبط بمعاني الكلمات وجمالية التعبير والصياغة ، لأن فيه الأسس التي تغني الحياة وتضيف لها توضيح الهدف لوجودها .
وإذا كان الأدب يضيف للحياة ، فهو ما تخشاه فئة كبيرة من المجتمع ، وترى فيه تهديداً للبنية الاجتماعية التقليدية ولمنظومة الأفكار التي يمكن أن تكتسبها الأجيال في طور نموها . لأن ترجمة هذه المخاوف من الأدب ، تعني التمييز أو الفصل بين الأدب الحقيقي وبين الكتب التي تتخذ مسارات مسطحة تهدف إلى التسلية السطحية في مخاطبة العاطفة وحدها ، وبعيداً عن ارتباطها بواقع الإنسان كالروايات الرومانسية وغيرها من الكتب التي يقتصر دورها على (دغدغة) المشاعر والحواس والغرائز ، بعيداً عن الهدف الإنساني للأدب المتمثل في استنهاض قِيَم المروءة والشجاعة والحكمة والإيثار ، والقدرة على اختراق المظهر الخارجي للشخصيات وتحليل الصراع الداخلي (المونولوج) لتعيشه بين العاطفة والعقل من جهة ، وبين قناعاتها والمحيط الخارجي من جهة أخرى .
وفي هذا الإطار ، فإن أدب الخيال يتجاوز بشخصياته – الأسطورية أو الخرافية – في حقيقتها ، فيُظهِر مصاصي الدماء بأنهم ليسوا مجرد وحوش مخيفة لأنهم يمثلون شريحة طفيلية من البشر تتصف بالأنانية وبالفساد ، وبرفض احترام كينونة الآخرين . ولم تكن شخصية (فرانكشتاين) مثلاً سوى حصيلة تجارب عالِمٍ دفعه الغرور إلى اختراع ما لا يقدر على مواجهته أو احتوائه . وكم – في الأدب – من أبطال تحولت مساراتهم من النضال الذي بدأ في سبيل الوطن ، إلى جشعٍ في السلطة والنفوذ ، وصاروا وبالاً على أمتهم بعدما كانوا من حماتها كما كانو يدّعون . وكم أدانت المجتمعات – دون رحمة – العديد من الخاطئين الذين دفعهم طيشهم اللحظي أو قسوة ظروفهم ، لارتكاب ما يخالف نواميسهم التي تربوا عليها ، وكان دور الأدب في رسم الصورة المتكاملة للحالة التي لم يكن الخاطئون فيها سوى ضحايا لمنظومة المجتمعات المحملة بالكثير من الخطايا التي تفوق ما أدين به أحد من هؤلاء !!.
ويمكن للأسرة أن تزرع في أبنائها حب القراءة والأدب لتحفيز أبنائهم على القراءة وتوضيح أهمية الأدب الذي لا يستوعبون قيمته ومنظوره الأوسع .
وحين نقرأ قطعة أدبية ، فإننا نقرأ تجاربَ حياتية من خلال منظور شخص آخر . وبذلك يتاح لنا معرفة وجهٍ لم نكن نعرفه عن الحياة . تماماً كمشاهدة فيلم عن ظروف مجتمع آخر له قصصه وأفكاره المختلفة عن عالمنا .
والكتاب الجيد يجعل الفرد ينطلق للتفكير خارج حدود عقله وتجاربه ، ويجعله يتعاطف مع الناس الذين خاضوا تجارب لم يكن يعرف عنها ، والتي تُعلِمُه أشياء لم يكن ليدرك وجودها أو التعرف عليها بعيداً عن الأعمال الادبية العظيمة التي تم إبداعها بصورة جيدة ، فتمنحنه الفرصة للشعور بمشاعر الشخصيات التي تصفها وتتيح اختبار الأفكار التي تطرح في عالم أدب الخيال .
ومن خلال هذا العالم نتعرف على معنى أن يكون الطفل فقيراً ، أو يتيماً ، أو محروماً من حقوقه في التعليم ، أو مسؤولاً عن توفير القوت اليومي لأسرته .
ويمكن من خلال الأدب ، الدخول إلى التاريخ بصورة شخصية ومكثفة . لأن قصص التاريخ تحكي أحداثاً يعرف الفرد من خلالها ماهية الشعور في أن يكون وسط معارك شهيرة ، أو مجاعة ، أو في زمن ركودٍ اقتصادي ، أو زمنٍ مزدهر ، أوالمعاناة الحقيقية في زمن الحروب .