السورية ( زنوبيا ) ملكة تدمر ..
د.علي أحمد جديد
الملكة ( زنوبيا ) كانت ملكة المستعمرة الرومانية تدمر منذ عام 267م أو 268م، وحتى عام 272م ، واسمها بالآرامية هو (بات زباي) . كان زوجها أُذَينة (Odaenathuss) الحاكم المفوّض عن الإمبراطورية الرومانية في مملكة تدمر ، بعد أن استطاع إعادة المناطق الشرقية إلى سيطرة الأمبرطورية الرومانية بعد أن كانت جزءاً من الحكم الفارسي ، وكان ذلك قبل أغتياله هو وابنه (هيردوس) عام 267م أو 268م وهو ما جعل (زنوبيا) وصية على العرش لابنها الصغير (وهب اللات) الذي ورث ألقاب أبيه : “ملك الملوك ، وحاكم الشرق” .
وبعد أن تربّعت (زنوبيا) على عرش تدمر قرّرت الانفصال عن الإمبراطورية الرومانية إيماناً بهويتها السورية ، فاحتلت بجيشها كل المناطق الشرقية التابعة لروما وفرضت سيطرتها على مصر والأناضول ، وأعلنت استقلالها عن روما عام 269م .
لكن انتصارات ( زنوبيا ) لم تستمر طويلاً فقد هزم الإمبراطور (أورليان Aurelian) جيوشها في أنطاكيا وحمص ، وحاصر تدمر ، فيما حاولت تدمر الثورة على الحكم الروماني مرة أخيرة في عام 273م وذلك ما أدى إلى تدميرها من قِبلهم .
اختلف المؤرخون في كتابة نهاية (زنوبيا) بعد القبض عليها ، فكتب بعضهم يقول أنها كانت يوم عودتها محتفلة موكب النصر في روما ، وبعضهم رأى غير ذلك .
وُلدت (زنوبيا) ونشأت في تدمر في سوريا واسمها (لوليا أورليا زنوبيا Iulia Aurelia Zenobiaa) ، وكان والدها (زباي بن سالم Zabaii ben Selim) أو (يوليوس أورليوس زنوبيوس) ، شيخ القبيلة آنذاك ، واسم “أورليوس” يشير إلى أن أجداده كانوا مواطنين ينتمون إلى الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور الروماني (أنطونيوس بيوس Antoninus Pius) الذي حكم روما في الفترة الواقعة بين 138م-171م، أو في عهد الإمبراطور (ماركوس أورليوس Marcus Aurelius) الذي حكم بين 161م-180م ، أو (كومودوس Commodus) الذي حكم بين 180م-192م . ويُشار إلى أنّ اسم زنوبيا باللغة العربية هو
(الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع) ، و(الزباء) هو الاسم الذي أطلق عليها وعلى أمها ، فقد كان اسمها في الوثائق الرسمية (بنت الزباء) أيضاً وهي الكلمة التي تعني صاحبة الشعر الجميل والطويل ، وعُرِفَت الملكة (زنوبيا) ببشرتها السمراء وبعيونها السوداء ووجها الجميل وبشخصيتها الساحرة . وكانت تجيد العديد من اللغات (كالآرامية ، والأغريقية ، والمصرية ، واللاتينية) ، وعُرف عنها أيضاً حبّها للصيد ، واهتمامها بالتاريخ وقراءتها لأدباء ولفلاسفة أغريقيين عدّة كالشاعر هوميروس (Homer) ، والفيلسوف أفلاطون ، كما ذكرت بعض المصادر أنّها تقاوم ضغوطات من مستشاريها لدراسة الديانة اليهودية إثر سماح الإمبراطور الروماني (ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius) بممارسة طقوس عبادات الديانة اليهودية التي كان أسلافه قد منعوا ممارستها .
تزوجت (زنويبا) من ملك تدمر (أذينة سبتيموس Septimius Odaenathus) عام 258م ، ورافقته في قيادة الجيوش لتوسعة مملكة تدمر والعمل للحفاظ على المصالح الرومانية في المنطقة ، ممّا تسبب في المضايقات المستمرة للفارسيين الساسانيين التابعين للإمبراطورية الساسانية الفارسية ، كون تدمر تقع بين سوريا وبابل على الأطراف المحاذية للإمبراطورية الفارسية . كان (لأُذينة) ولدان اثنان ، الأول واسمه (حيران Hairan) الذي كان ابنه من زوجته الأولى الرومانية وكان ولي عهده ، والثاني هو (وهب اللات Vaballathus) الذي وُلد بين عامي 260م – 266م من زوجته الثانية (زنوبيا) ، وأصبح ولياً للعهد بعد اغتيال والده وأخيه وعمره سنة واحدة ، وصارت (زنوبيا) الأم وصية على عرش مملكة تدمر وذلك ما منحها لقب (أوغسطا Augusta) أي العظيمة ، وتمَّ منح ابنها وهب اللات لقب (أغسطس Augustus) أي العظيم .
وتذكر مراجع السِّيَر الرومانية أنّ (زنوبيا) ربطت نفسها بعلاقة قوية مع البلاطمة الذين حكموا مصر مثل (كليوباترا) ، في الوقت الذي ذكرت فيه مراجع أخرى كتلك التي كتبها الطبري أنّها من أصل سوري وليس إغريقياً ، ووافقته المراجع التاريخية المعاصرة بأنها من أصل سوري تدمريٍّ عريق ولم تكن يوماً من أصل بطلمي .
لم تستلم ( زنوبيا ) زمام الحكم إلّا بعد أن اغتيل زوجها (أذينة) على يد أحد أقاربه ، وكان (أذينة) يُعلن ولاءه للإمبراطورية الرومانية في الظاهر كونه الحاكم السوري المُوكّل بحكم تدمر ، وقد استطاع بقوة تخطيطه وتنظيمه أن يدحر الفرس إلى حدودهم بعد أن حاولوا السيطرة تدمر إثر هزيمة الامبراطور الروماني (فاليريان Valerian) عام 263م ، وذلك ما دفع الرومان إلى منحه لقب (حاكم الشرق) ، فيما لقّبه شعب تدمر بملك الملوك . ومع انتصارات (أذينة) وتزايد شعبيته بدأت تظهر نواياه بإنشاء مملكته السورية في المنطقة لنفسه وتكون عاصمتها (تدمر) الأمر الذي أصبح واقعاً والذي لم يستطع الإمبراطور (جالينوس بن فاليريان) الوقوف في وجهه . إلّا أنّ ذلك لم يتم بسبب اغتيال (أذينة) عند عودته من حملة عسكرية ضد (القوط Goth) الكوثيين ، كما هي تسميتهم في توراة العهد القديم من الكتاب المقدس ، ولم يبقَ بعد اغتياله سوى ابنه الصغير (وهب اللات) وأمه (زنوبيا) التي تسلًمت الوصاية على عرش تدمر ، فأنهت من فورها علاقة التبعية التي كانت تربط تدمر بالإمبراطورية الرومانية ، وحافظت على الحدود التي استعادها (أذينة) من الفرس ، بالإضافة لانتصارها على الإمبراطور (جالينوس) مما لم يُبقِ للإمبراطورية الرومانية إلّا الاعتراف بحكم (زنوبيا) لتصبح تدمر المملكة السورية المناوئة للرومان ، واستمرّت ( زنوبيا ) تتقدّم بجيوشها نحو مناطق السيطرة الرومانية ، حتى سيطرت على سورية وعلى معظم الأناضول بفطنتها وخططها . وفي عام 269م دخلت مصر وسيطرت على الإسكندرية ، فيما سيطرت على كل مصر عام 270م وأصبحت ثرواتها ومحاصيل حبوبها الوفيرة المموّنة لروما بين يديها . وبعد ذلك عمل الإمبراطور (أوريليانوس Aurelianus) إلى توحيد مناطق السيطرة الرومانية من جديد ، و ضمنها مملكة تدمر التي تحكمها (زنوبيا) بعد أن تمّت هزيمة (زنوبيا) عام 274م ، وانتشرت الأخبار في روما بأنّ (أوريليانوس) سيعيد (زنوبيا) إلى المدينة لتشارك بموكب الاحتفال بانتصاره الروماني . لكن ذلك لم يتم له بعد أن آثرت (زنوبيا) الموت على المشاركة باحتفال انتصار عدوها وأنهت حياتها بالسم .
وتبقى (زنوبيا) هي المرأة السورية الشجاعة المطبوعة في مخيّلة الغرب كما يتضح لدى الشاعر (بيترارك) وكذلك (جيوفاني بوكاسيو) في اعتبار الملكة السورية (زنوبيا) الأسطورة الآسرة ، ونسجا حولها القصة الأكثر تشويقاً عن العصور القديمة بعنوان “تاريخ الأباطرة” . وأصبحت الملكة التدمرية تجسّيدَ “المرأة الشجاعة”، التي تتحلى بمواصفات الأنوثة ، والزوجة ، المثالية ، والذكاء ، والإقدام والقدرة على تولي مقاليد الحكم ، وهي صفات عادةً لايتحلّى فيها الكثيرون من الرجال .
وبدءاً من القرن السادس عشر وحتى القرن السابع عشر ، وهي الفترة التي كانت فيها عدة ملكات يحكمن بلداناً أوروبية كبرى ، كانت (زنوبيا)ً مثالاً للمرأة الحاكمة الأبيّة والقويّة ، بعكس (كليوبترا) التي كانت ملكة مصر وفتحت بلادها ومخدع نومها للرومان كما يقول (بوكاسيو) في روايته ” تاريخ الأباطرة ” .
وقد ساهمت إعادة اكتشاف مدينة تدمر في نهاية القرن السابع عشر والدراسات العلمية الأولى التي نُشرت حولها ، بمضاعفة الاهتمام بتاريخ الملكة السورية (زنوبيا) وبشخصيتها .
وإن المزايا التي انطوت عليها شخصية الملكة السورية(زنوبيا) تتواصل حتى اليوم بعد أن حوّلتها الروايات إلى أميرة عربية التي أصبحت “ملكة تدمر” على الرغم من أنها لم تكن كذلك يوماً ، إذ يعود هذا الخطأ الأساسي في التأويل إلى (بوكاسيو) الذي فسَّر السبب وراء تصوير البعض الصراع الذي كان بين (أورليانوس) وبين (زنوبيا) صراعاً بعيداً عن صراعات السلطة في الامبراطورية الرومانية (وهو ما كان عليه فعلاً) ، وإنما كان عملاً تمرّدياً قامت به امرأة سورية تدمرية ضد قوة عالمية عظمى تتمثل بالامبراطورية الرومانية وهو ماجعل من (زنوبيا) مُؤسِّسَةَ أول امبراطورية سورية وقفت في وجه الحكم الاستعماري الروماني .