كتبت لي (أحبك) ..
د.علي أحمد جديد
قصة واقعية تقول أحداثها ..
تعودت كل ليلة أن أتمشى قليلاً بعد تناول العشاء ، فأخرج وأتمشى في الشارع المقابل لمدة نصف ساعة ، ثم اعود أدراجي إلى البيت لأرتاح قليلاً وأنام . وفي خط سيري كل مساء كنت اشاهد طفلة لا تتعدى السابعة من عمرها وهي تلاحق فراشات تجتمع محلقةً حول أحد انوار الاضاءة المعلقة في سور الحديقة التي تتوسط المنازل …
لفت انتباهي شكلها وملابسها .. فقد كانت ترتدي فستاناً عليه كثير من الترقيعات الملونة ولم تكن تنتعل حذاء .. وكان شعرها طويلاً وعيناها خضراوين بجمال البراءة والبساطة . في البداية لم تكن تلاحظ مروري .. ولكنها مع مرور الأيام كانت تنظر إلي ثم تبتسم باستحياء بريء .. حتى استوقفتها مرة وسألتها عن اسمها ، فقالت وهي تتأمل قدميها الحافيتين بخجل :
– اسمي رغداء ..
سألتها عن موقع منزلهم وأين تقيم .. فأشارت إلى غرفة خشبية بجانب سور أحد المنازل الواقعة على امتداد طول الشارع .. وهي تقول بصوت هادئ وشجي :
– هذا هو عالمنا ، نعيش فيه أمي وأخي خالد وأنا ..
سالتها عن أبيها فقالت :
– ابي ، كان يعمل سائقا في إحدى الشركات الكبيرة .. ثم توفي في حادث مروري ومنذ وفاته لم يعد أحد يسأل عنا ..
ثم انطلقت تجري لما شاهدت أخاها الصغير خالد يخرج راكضاً الى الشارع .. ومضيت أنا في حال سبيلي ..
ويوما بعد يوم .. كنت كلما مررت استوقفها لنتجاذب اطراف الحديث .. فسالتها :
– ماذا تتمنين ؟
قالت لي بحماسة خجولة :
– كل صباح أخرج إلى نهاية الشارع لأشاهد دخول الطالبات إلى المدرسة .. أشاهدهن يدخلن إلى ذلك المكان من الباب الصغير ، وهن ترتدين زياً موحداً ، ولا أعرف ماذا تفعل كل البنات خلف هذا السور .. أمنيتي أن أصحو كل صباح .. لألبس زيهن الأنيق والنظيف .. لأذهب وأدخل من هذا الباب لأعيش معهن وأتعلم القراءة والكتابة ..
لا اعلم ما الذي جذبني في هذه الطفلة الصغيرة .. قد يكون تماسكها رغم ظروفها الصعبة ، وقد تكون عيناها .. وحتى الآن لا أعرف السبب . كنت كلما مررت في هذا الشارع .. أحضر لها معي شيئاً يفرحها .. حذاء و ملابساً .. ألعاباً وبعضاً من المأكولات التي يتهافت الأطفال على أكلها ، حتى قالت لي في إحدى المرات .. بأن خادمة تعمل في أحد البيوت القريبة منهم قد علمتها الحياكة والخياطة والتطريز .. وطلبت مني أن أحضر لها قطعة بيضاء من القماش وأدوات خياطة .. فأحضرت لها ما طلبت .. ثم طلبت مني طلباً رأيته غريباً بعض الشيء حين قالت لي :
– أريدك أن تعلمني كيف أكتب كلمة أحبك ..
ومباشرة جلسنا هي وأنا على الأرض .. ورحت أخط لها على الرمل كلمة ( أحبك ) تحت ضوء عمود الإنارة في الشارع .. كانت تراقبني أكتبها لها وتبتسم .. وهكذا ، وفي كل ليلة كانت تطلب مني أن أكتب لها كلمة ( أحبك ) حتى أجادت كتابتها وأتقنتها بشكل رائع .. وفي ذات مساء حضرت إليها كالعادة ، وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث .. قالت لي :
– أغمض عينيك ..
وفاجأني إصرارها على ذلك ، فأغمضت عيني حتى فوجئت بها تقبلني ثم تجري راكضة .. وتختفي داخل الغرفة الخشبية .. وفي اليوم التالي كانت مهمتي في العمل تستوجب سفري خارج المدينة لمدة أسبوعين متواصلين ، فسافرت دون أن أراها .. رحلت وأنا أعلم أنها تنتظرني كل مساء .. وعند عودتي .. لم أكن مشتاقاً لشيء يقدر شوقي لرغداء .. وفي موعد تجمع فراشاتها تحت ضوء الإنارة خرجت مسرعاً ، وقبل الموعد المعتاد وصلت إلى المكان وكان عمود الإنارة الذي اعتدنا اللقاء تحته لا يضيء .. كان الشارع هادئاً جداً ، وانتابني إحساس غريب .. انتظرت طويلاً فلم تحضر .. فعدت أدراجي إلى البيت والضيق يحاصر أفكاري .. ولمدة خمسة مساءات متتالية .. كنت أحضر فلا أجدها . وعندها صممت على زيارة أمها للسؤال عن رغداء التي قد تكون مريضة . استجمعت قواي وذهبت إلى غرفتهم الخشبية .. طرقت الباب على استحياء ، ففتح اخوها خالد .. ثم أطلت أمه من بعده .. فصاحت عندما شاهدتني :
– يا إلهي .. لقد حضر .. وقد وصفتك لي رغداء كما أنت تماما ..
ثم أجهشت في البكاء ..
وعرفت حينها أن شيئا قد حصل ولكني لا أعرف ما هو !!! وعندما هدأت الأم وتوقفت عن النشيج سألتها :
– ماذا حدث ، أجيبيني أرجوك ..
قالت لي :
– لقد ماتت رغداء .. وقبل وفاتها .. قالت لي سيحضر أحدهم للسؤال عني فأعطه هذا ، ولما سألتها من يكون .. قالت لي : – – أعلم أنه سياتي .. سياتي لا محالة ليسأل عني ، أنت أعطه فقط هذه القطعة ..
سألت أمها :
– وكيف حدث ذلك ؟!!
قالت :
– توفيت رغداء بعد أن أحست بحرارة وبإعياء شديدين .. فخرجت بها إلى أحد المستوصفات الخاصة القريبة .. فطلبوا مني مبلغاً كبيراً مقابل الكشف والعلاج وأنا لا أملك شيئاً .. فتركتهم وذهبت إلى إحدى المشافي العامة ، وكانت حالتها تزداد سوءاً. فرفضوا إدخالها لعدم وجود ملف لها بالمشفى .. فعدت بها إلى المنزل أضع لها الكمادات في محاولة لتخفيض حرارتها المشتعلة في جسدها ، ولكنها كانت تحتضر بين يدي ..
ثم أجهشت في بكاء مرير وهي تردد وتقول :
– لقد ماتت .. ماتت رغداء ..
ولا أعلم أنا لماذا خانتني دموعي .. نعم لقد خانتني ولم استطع البكاء .. لم استطع التعبير بدموعي عن حالتي حينها .. ولا أعلم كيف أصف شعوري .. فأنا لا أستطيع وصفه لا أستطيع .. خرجت مسرعا واخذت أذرع الشارع ذهاباً وإياباً . فجأة ، تذكرت الشيء الذي أعطتني إياه أمها ففتحته لأجد قطعة القماش التي كانت قد طلبتها مني وقد نقش عليها بتطريز رائع كلمة ( أحبك ) ممتزجة بقطرات دم متخثرة … ياإلهي .. لقد عرفت سر رغبتها في كتابة هذه الكلمة .. وعرفت الآن لماذا كانت تحاول أن تخفي يديها عني في آخر لقاء .. وعرفت أن أصابعها كانت تعاني من وخز الإبرة التي كانت تستعملها للخياطة والتطريز .. كانت أصدق كلمة حب في حياتي .. لقد كتبتها بدمها .. بجروحها .. بألمها ..
كانت تلك الليلة هي اخر ليلة لي في ذلك الشارع .. ولم أعد أرغب في العودة إليه .. لأنه وكما يحمل الذكريات الجميلة بلون الفراشات التي تتهافت على أضواء الإنارة فيه . يحمل ذكرى ألم وحزن لرحيل أجمل وأرق فراشة رأيتها طوال عمري ..