يطل علينا الأديب المبدع/ صالح حمود هذه المرة بنص يتيح للمتلقي مشاركته في إنتاج النص من جديد، فنص”جاشت رؤاك” منذ عتبته الأولى يشعر المتلقي بالإندهاش، والتوتر في نفس الوقت، فالمزج بين الجيشان والرؤى يأخذ المتلقي في حالة من التساؤلات، والتأمل الفلسفي، ما هذا التوتر والاضطراب الذي يوجهه المبدع للمتلقي؟!! فيتشاركان حالة عدم الاستقرار النفسي والعاطفي، وتشوش الرؤية، والإتكاء على الجملة الفعلية في عتبة العنوان، يخبرك كمتلق بأن النص سيتحرك بين الاضطراب الوجداني، والعقل، فالفعل”جاشت” يشير إلى الفيضان، والزيادة، مما يخلق الاضطراب والتوتر في نفسية المتلقي، من خلال الرمز الذي تحمله حالة عدم الاستقرار وتشويش الرؤية و الإدراك.
هذا التشويش الإدراكي تشي به كلمة”رؤاك” سواء أكانت الرؤية بصرية، أم قلبية فالتركيب في المجاز”جاشت رؤاك” يضع المتلقي في رؤية مضطربة، وقلقة، وحالة من الضياع، وفقدان اليقين، وهذا ما يلمسه المتلقي في باقي مجازات النص.
وفي نفس الوقت يضع المجاز “جاشت رؤاك” المتلقي في حالة من التأمل الذهني والعاطفي المضطرب، إذ يتساءل المبدع من خلاله عن تأثير الرؤية، والأفكار المضطربة.
وباقي صور النص تأتي في مقاطعه الثلاثة مؤكدة لهذه الصورة المضطربة.
فهذه الصورة في قوله”إلى غد فيك أراه إذ أراك” تعبر عن التأمل في المستقبل والتفكر في كيفية تطور العلاقة مع الآخر وتأثيره في المستقبل، يوحي هذا للمتلقي بأن المبدع قلق من المستقبل، وهذا القلق له ما يبرره”هل نحن نحن؟” هذا الاستفهام المشكك في الهوية، يعكس حالة من التأمل العميق، في الهوية والوجود، إذ يشكك المبدع في هوية ذاته، وفي معرفته لجوهره، فعلائق الماضي ما زال لها تأثيرها، والنصوص الشعرية الملتزمة بالعروض، والنظام الخليلي جزء من تلك العلائق، ويدعونا المبدع إلى التمسك بها”وجاش بي زمن القوافي” كي”نعيد للرمال نخيلها” والنخل يدل على الخصوبة، وعودة الحياة بعد فقدانها لهذا المكان المميز في حياة العربي، “وللقصيدة صهيلها ومجدها” وهنا يربط المبدع بين رؤيته، واضطراب زمن القوافي، والقوافي ترمز هنا إلى زمن تألق الشعر، مما يوحي بأن اضطراب الرؤية قد أثر أيضا على قدرات المبدع.
النص”جاشت رؤاك” يحتوي على تساؤلات وجودية”هل نحن نحن؟” ويدعونا إلى التأمل في الذات والوجود.
والمبدع يدعونا من خلال هذا النص إلى تأمل التأثيرات الوجدانية، والفكرية التي اجتاحت هذا العالم الحديث، واشغلت الإنسان بالتغيرات التكنولوجية، مما أثر فينا ثقافيا، وهوية، ووجوديا، حتى وصل هذا التأثير إلى دواخلنا روحيا.
النص معظم صوره، وجمله، وكلماته تدعونا إلى التأمل في النص، والعمل على تحليله تحليلا عميقا، والتفكر فيه فلسفيا، فالصور والرموز المبثوثة في النص تحمل حالات من التأمل الداخلي والتفكير العميق في الهوية، والوجود والعلاقات الإنسانية.
( نص الشاعر )
جَاشَت رُؤَاك
وَجَاش بِي زمن القوافي
إلى غد فيك أراهُ إذ اراك.
زمنُٰ لِإسْرَاء نشيد رُوح
في مَدَّاك..
هل نَحْن نَحْن ؟
لِكيْ نُعيد لِلرِّمَال نخيلَهَا
وللْقصيدة صَهِيلَها وَمَجدهَا
فِي عَالَم تناسخته
قيم الذكاء الإصطناعي
وسطحت روح المشاعر وَنبلِها .
هل نَحْن نَحْن ؟
أم سِوَاك .
2
دُعِي حنِينك جانبًا.
حَدقَي بِعمْق وَعيِي
كمَا يليق بِالْقصيدة أنْ ترى بِشاعر
غدًا يُضيء..
أنَّ تَفلسُف مَا عليْه أن يُضيف
لقُواميس المواقف،
رُوحَهَا ورمْحَهَا ،
أن يُفكِّك بِنى العواصف
لََا أن يَكُون نَاتِج لِغبارهَا
أو بَعْض جُزْء مِن غُمُوض عصْفهَا
وَقصفِها وَمكرِها
أن تُكثِّف فِي العواطف نُبلَهَا
كمَا يليق بجمِيلَه
تَدثرَت عُمْق اَلحبِيب ، ونبْضه
ورتَّبتْ لِليْلهِ مِن فِكْرَة
حبِيسة بصدرِّها
شجر النُّعَاس
ولصحْو صبح شروقها
شَعَّف اَلْحَواس .
3
هل نحن نحن؟
دُعِي حنينك وعانْقيني
فِي احتدام
الحروف العاشقات
والْفضاء العاطفيِّ
واتْركيني سارحًا بَعطر حِرَفك
وعناقيد الكلَام
واقرايني أَوَّل السَّطْر رفيقا
جاء ينصب في عُصُور العنكبوت
لَك الخيام
غَدنَا اَلنشيد بعده أَعمَاق نص
فاقرايني هديل همس
وتلاوات حَمَّام
هل نَحْن نَحْن ؟
خُذِي مسائِي واتْركيني
بِلَيل شَعرِك كيَّ أَنَام
خُذِي نُجُوم الأمْسيَّات
واتركيني هائمًا بِضياء صَدرِك
بين المرايَا والرُّخام ..
خذِي الوجود ناعسا
حتى افيق
بِتلال مَجدِك كسهام.
جاشت رؤاك
إلى زمن فيه أراه إذ أراك.
بقلم أ. فضل صالح