تاريخ القصة القصيرة ..
د.علي أحمد جديد
القصة القصيرة هي نوع من فنّ الكتابة النثرية المختصرة ، وتكون القصة عادة أقصر من الرواية التي تتشعب في سرد أحداثها وفي تعدد شخصياتها . أما القصة القصيرة فإنها تتناول شخصية أو شخصيات في جوانب مُحدَّدة من الحياة (الحدث) ، ولا تتجاوز العشرة آلاف كلمة كحدٍّ أقصى في تقديم (الحدث) والذي يكون حدثاً وحيداً ورئيسياً في السرد القصصي وغالبا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان ضيق ومحدود لتستوفي التعبير عن موقف أو جانب واحد ورئيسي من جوانب الحياة .
ولا بد لسرد الحدث في القصة القصيرة أن يكون مُرَكَّزاً ومنسجماً دون تشتيت . وغالبا ما تكون القصة القصيرة وحيدة الشخصية أو بعدد من الشخصيات المتقاربة التي تجتمع في مكان واحد وفي زمان واحد على خلفية الحدث والوضع المراد معالجته من خلال سرده .
كما أنَّ القصة القصيرة نوعٌ من أنواع السرد الذي يتكون من عدة عناصر درامية ومجموعة أشخاص تتداخل في الحدث بما يُعرف بالصراع الدرامي الذي يكتبه كاتب القصة . وبقدر تَعقّد الصراع وتشعّبه تكون قوّة الحبكة القصصية وإثارتها وتزيد من قيمتها الفنية .
تاريخياً بدأ تطور القصة القصيرة قبل أن يتمكن البشر من الكتابة ، وذلك للمساعدة في بناء الحكاية وحفظها ، إذ اعتمد الراوي المبكر على العبارات العادية والإيقاعات الثابتة وتقارب القافية الواحدة ، وبالتالي فإن العديد من أقدم الروايات في التاريخ هي (الحكاية البابلية) القديمة بعد ماتمَّت الاستفاضة في سرد أحداث (ملحمة جلجامش) التي كان سردها شعراً . وفي الواقع ، كانت معظم القصص الرئيسية في الشرق القديم تعتمد الشعر في سرد أحداثها مثل :
(حرب الآلهة) و (قصة آدابا) البابليتان ، وكذلك (القوس السماوي) و (الملك الذي نسي) الكنعانيتان . وقد تَمَّت كتابة هذه الحكايات بالخط المسماري على ألواحٍ من الطين خلال الألفية الثانية قبل الميلاد كما تدل ألواح مكتبة (إيبلا) المكتشَفة في “تل مرديخ” السورية .
ويمكن إرجاع نشأة القصة القصيرة إلى الأساطير القديمة المعروفة اليوم بتسمية (الفولكلور أوالخرافات) الموجودة في المجتمعات البشرية في كل العالم ، وصحيح أن بعض هذه القصص كانت مدوَّنَة ومكتوبة ، لكن العديد منها تمَّ وصولها من خلال التناقل الشفوي (الحكاية) .
وبحلول القرن الرابع عشر الميلادي ، كانت القصص الأكثر شهرة هي (ألف ليلة وليلة) والحكايات الشعبية و (كليلة ودمنة) لمؤلفين متعددين ، والتي عُرفت فيما بعد باسم (الليالي العربية) وكذلك (حكايات كانتربري) التي كتبها ” جيفري تشوسر” .
ولم تظهر مجموعات القصص القصيرة المطبوعة من قِبَل المؤلفين الفرديين بشكل منتظم إلا في أوائل القرن التاسع عشر . لأن البداية كانت في نشر (حكايات الأخوين جريم) الخيالية ، ثم (الروايات القوطية) للكاتب الأمريكي (إدغار آلن بو) ، لتصل في النهاية إلى قصصٍ الأدب الروسي من تأليف (أنطون تشيخوف ونيقولاي غوغول) ، الذي يُنسب إليه الفضل كمؤسس للقصة القصيرة الحديثة . وبعد تعميم الطباعة والنشر نمَتْ شعبية القصة القصيرة مع انتشار المجلات المطبوعة بشكل جماهيري في كل المجتمعات . وفي العصر الحديث كان أهم الكتّاب الذين أبدعوا بكتابة القصة القصيرة :
محمود أحمد السيد من العراق ، وزكريا تامر و عيسى الناعوري من سورية ، وحسني فريز من الأردن ، ومحمود تيمور و يوسف إدريس من مصر ، و غسان كنفاني من فلسطين ، و جبران خليل جبران ميخائيل نعيمة من لبنان .
أما أهم رواد القصة القصيرة في الغرب (إدغار ألن بو) و (جي دي موباسان) و (أنطوان تشيخوف) و (نيقولاي غوغول) الذي يقولون عنه :
“إن كل كُتّاب القصة القصيرة الحديثة خرجوا من تحت (معطف) غوغول نسبة إلى قصته الشهيرة (المعطف)” . و كذلك كانت مؤلفات (دستويفسكي) و (غابرييل غارثيا ماركيز) .
ولأن القصّة القصيرة فنٌّ من الفنون الأدبية النثريّة التي تحتلُّ مكاناً مهماً بين النّصوص الأدبية المختلفة ، قد ظهرت في الغرب ثمّ تأثر بها الأدباء العرب من خلال اطّلاعهم على نماذج القصص الغربية ، وكانت القصة القصيرة كفَنٍّ نثري في الأدب العربي مطلع القرن العشرين المنصرم ، تتصف في بداياتها بأنّها كانت بسيطة وتقليديّة ، وربما طويلة نسبياً عند الرواد ، إلّا أنّها تطوّرت وأصبحت تعبيراً فنياً جديداً ومكثفاً يصف واقعهم ، وما يدور حولهم من أحداثٍ متعدّدة . ثمّ تطوّرت فنيات القصة القصيرة ، واستخدم الأدباء العرب عناصرها المتعدّدة سواء في الشخصيات أو في الزمان والمكان ، أوالعقدة والحل والخاتمة ، إضافة إلى أن الأدباء العرب انتقلوا لاستخدام التقنيات السردية كالحوار الداخلي “المونولوج” ، والتذكّر “الفلاش باك” ، وغيرها من تقنيات كتابة القصة القصيرة وهو ما أدى إلى تطويرها لتسمو إلى مستوى يختلف عن بداياتها التقليدية ، وهذا أتاح ومازال يتيح لها التجدّد الدائم والقدرة على استيعاب ألوان التشكيل الفنيّ المختلفة وإلى جعلها قادرة على التعبير لرؤية الكاتب ، وملامسة الواقع بتناسب تام مع العصر .
ومن أهم رواد القصة القصيرة وكتّابها العرب الذين لهم بصمتهم الخاصة في نشأتها وانتشارها ، بعد أن أضافوا إليها عدداً من التقنيات الفنيّة ، ولا سيما في بداياتها وانتقلوا بها من مرحلة التجريب لتكون فناً دائم التجدد .
في عشرينيات القرن الماضي كانت نصوص الكاتب العراقي (محمود أحمد السيد) بداية الطريق إلى تأسيس القصة القصيرة العربية بشكلها الحديث كما في (في سبيل الزواج) الصادرة عام 1921م ، متضمنة تحوّلات القصة وانتقالها من معالجة الايديولوجيات المتصارعة الى ملامسة كيان الإنسان العراقي والعربي عموماً والتعبير عنه . أما في القصة القصيرة الحديثة فيأتي على رأس قائمة الأسماء الأديب (زكريا تامر) وهو أديب سوريّ وصحفي ، وكاتب برع في تطوير فنّ القصة القصيرة ، وتميز في إضفاء شكلها الفني البعيد عن سردية (الحكاية)كما كانت في بداياتها وصار من أبرز كتّاب القصة القصيرة الحديثة بمدارسها الأدبية في العالم العربيّ كله .
ولد (زكريا تامر) في دمشق عام 1931 ، وكان له الدور الرئيس بتأسيس اتّحاد الكتّاب العرب في سوريا ، وتُعَدُّ كتاباته إحدى الأعمدة الرّاسخة في كتابة القصة الرمزية والساخرة في الأدب العربي . وكان في كتاباته يحاول أن يُبرِزَ التناقضات والصراعات في الوعي بكل أشكاله ، وفي الحياة بشكل عام ، ومنذ صدور مجموعته القصصيّة الأولى “صهيل الجواد الأبيض” عام 1960 ، استطاع (زكريا تامر) أن يكتب قصة قصيرة عربية مليئة بالرموز وبالغرائب التي تحاول أو تهدف إلى تعرية التسلط والقمع في الواقع العربي من الداخل ومن الخارج بسخرية لاذعة مثل قوله في إحدى قصصه :
” صَفَّرَ الشرطي فأشرقت الشمس ”
وذلك ما جعل لبصمته الإبداعية سِمتها الخاصة بعالمه القصصي . ويُضاف إلى ذلك سمة (الكابوسيّة) في أعماله القصصية والتي تَظهر في الفضاء المكاني الذي يتوزّع بين المقبرة وبين القبو الموحش والبارد ، أو في الشوارع الضيقة المعتمة المليئة بأبطاله الذين يُعانون من القهر والاغتراب والحرمان والضياع بسبب قمع السُّلطات وبسبب سّطوة الفوارق الطبقية في المجتمع الواحد ، وكذلك في ما تحمله الحياة بأحداثها المختلفة ، وهو ما يعطي قصصه طابعاً خاصاً استطاع من خلاله أن يُوجِّه للمجتمع القائم نقداً لاذعاً .
وتعد مجموعته القصصية “النمور في اليوم العاشر” من أهم المجموعات القصصية التي حَظيت باهتمام كبير من القراء لِما فيها من انتقادات للمجتمع وللظلم ، ومن التركيز على العوالم الذاتية والموضوعية . وقد تُرجمَت قصصه إلى العديد من اللغات الاجنبية كالانكليزية والفرنسية والألمانية والصينية والهندية والروسية .