في مثل هذا اليوم 16 سبتمبر1543م..
وقع العثمانيون معاهدة مع فرنسا لإدارة ميناء طولون الفرنسي.
“وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانجباني) النشيط، مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأُعلِمْنا أن عدوكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عُرض على أعتاب سرير سُدتنا الملوكانية، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل فصار بتمامه معلوما، فلا عجب مِن حبس الملوك وضيقهم، فكُن منشرح الصدر، ولا تكن مشغول الخاطر”.
(من خطاب السلطان سليمان القانوني على استغاثة ملك فرنسا فرنسوا الأول)
في سبتمبر 1543م وبينما السلطان سليم شاه يوطِّد دعائم سلطنة العثمانيين في دولة المماليك وجغرافيتها التي امتدت من الشام ومصر والحجاز وحتى اليمن، وبينما يتوسع العثمانيون في البحرين الأبيض المتوسط والأحمر محاولين الحد من خطر النفوذ البرتغالي في الخليج العربي وشرق أفريقيا، والهولندي في المحيط الهندي وصولا إلى أندونيسيا والملايو، كان الإسبان في غرب البحر المتوسط الذين هزموا المسلمين في الأندلس منذ قليل قد بدأوا في طردهم، ولم يكتفوا بذلك، بل شرعوا في الهجوم عليهم حتى في مناطق هجرتهم الجديدة في شمال أفريقيا، حيث احتلوا العديد من المدن القديمة والمهمة في تونس والجزائر والمغرب.
وقد أثمر هذا التحدي الجديد عن ظهور زعامات محلية في الجزائر استطاعت أن تقاوم الهجمات الصليبية الإسبانية المتلاحقة، وعلى رأسها الأخَوَان والقائدان عروج وخير الدين بربروس باشا، فقد استطاع هذان الأخوان أن يدفعا عن الجزائر عادية الإسبان، لكن ظهور قوى محلية أخرى في الجزائر وتونس هرولت إلى العدو الإسباني ضد بني دينها وجلدتها اضطر الأخَوَين إلى البحث عن حليف قوي يدعمهم في مواجهة الإسبان بقيادة الإمبراطور شارلكان حفيد فرناندو وإيزابيلا، وأحد أخطر الملوك الصليبيين، وأشدهم كراهية للمسلمين وللمورسكيين جميعا.
وأمام هذه التحديات لم يجد الأخوان بربروس إلا العثمانيين الذين كانوا يدركون الأخطار التي تُهدد العالم الإسلامي أثناء ضعف المماليك في المشرق، فكان قرارهم بالسيطرة على الأقطار العربية درءا لخطر أكبر مُتمثِّل في الهجوم الصليبي البرتغالي والهولندي ثم الإسباني، ولهذا السبب قدَّم السلطان سليم شاه سنة 925هـ دعما سخيا للأخوينِ بربروس لتثبيت أقدامهم في الجزائر، وحين توفي عروج خلفه أخوه خير الدين في مسيرة الدفاع عن الجزائر واستطاع ضم تونس وأعلن انضواءه وتبعيته المطلقة للدولة العثمانية.
ومنذ تلك اللحظة التي أعلن فيها خير الدين بربروس باشا انضمامه إلى العثمانيين، فإنهم لمسوا مهارته البحرية الفذة التي سهَّلت له هزيمة خصومه المحليين فضلا عن العديد من أساطيل الإسبان والإيطاليين وغيرهم في معارك البحر المتوسط، حينها أرسل إليه السلطان سليمان القانوني يطلبه على وجه السرعة إلى إسطنبول، لتبدأ مرحلة جديدة لا في حياة الرجل فقط، بل وأيضا في مسيرة الدولة العثمانية.
فلماذا استدعى السلطان سليمان القانوني خير الدين بربروس؟ وكيف استطاع الأخير الوصول بأسطوله إلى مارسيليا ونيس وغيرهما من الموانئ الفرنسية؟ وما أبرز ما قام به في هذه المهمة؟ ولماذا خضعت سواحل فرنسا الجنوبية وعلى رأسها “طولون” للسيطرة والنفوذ العثماني؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
كان نشاط البحرية الإسبانية في تلك الأثناء بقيادة الأميرال الإيطالي “أندريه دوريا” في البحر المتوسط وهجماته المتلاحقة على شمال أفريقيا في تونس والجزائر والمغرب قد نبَّهت الدولة العثمانية إلى حاجتها الماسة إلى أسطول قوي، وكذلك إلى قائد بحري فذ يعكس مكانتها العالمية في البحار والمحيطات. وحين رأى السلطان سليمان القانوني الانتصارات القوية التي حققها خير الدين باشا في غرب البحر المتوسط وشمال أفريقيا على الإسبان وغيرهم، قرَّر الاستعانة به لإظهار قوة العثمانيين البحرية وهيمنتهم على الأعداء التقليديين مثل جمهوريات إيطاليا وإسبانيا والكروات وغيرهم. ولهذه الأسباب مجتمعة أرسل السلطان إلى خير الدين بالحضور إلى إسطنبول، فوصلها بالفعل عام 940هـ/1533م، فلما التقاه السلطان العثماني قرَّر تعيينه أميرالا على جميع سفن الترسانة العثمانية، وسرعان ما توجَّه بربروس باشا على رأس الأساطيل العثمانية في أولى مهامه لمواجهة الإسبان عند السواحل الإيطالية في مايو/أيار 1534/940هـ.
ولما لم يصادف بربروس باشا الإسبان اتجه إلى تونس التي استطاع ضمها إلى الدولة العثمانية بفضل قوة جيوشه وأساطيله، غير أن حاكمها “مولاي حسن الحفصي” انضم إلى الإمبراطور الإسباني “شارلكان” طالبا معونته، ليرسل إليه قوة بحرية وعسكرية ضخمة بقيادة “دوريا” على رأس 500 سفينة حربية تمكَّنت من احتلال تونس في ذلك التاريخ. ولم يتوقف الإمبراطور “شارلكان” عند هذا الحد، بل دعا البابا إلى الإعلان عن حملة صليبية جديدة لمواجهة العثمانيين، وفي الوقت ذاته الذي عزم فيه “شارلكان” على ترسيخ الوجود الإسباني في شمال أفريقيا، طمع الرجل أيضا في العديد من الأراضي الفرنسية التي كانت مثار طمع التحالف الإسباني من الجنوب والألماني-النمساوي من الشمال
وبسبب إطباق إسبانيا وألمانيا على فرنسا من الجنوب والشمال، لم يجد الفرنسيون ملجأ إلا التحالف مع أعدائهم العثمانيين والاستنجاد بهم، وعلى الفور أرسل الفرنسيون بقيادة الملك “فرنسوا” الأول رسائل استغاثة كثيرة إلى السلطان سليمان القانوني يطلبون منه دعما عثمانيا قويا وعاجلا لمواجهة الأساطيل الإسبانية واستعادة العديد من الأراضي الفرنسية المحتلة، وهو الأمر الذي رآه السلطان العثماني فرصة لا تُعوض لضرب التحالف الصليبي من داخله، وتأديب الإسبان الذين كانوا يسومون المسلمين المورسكيين في الأندلس ومسلمي شمال أفريقيا سوء العذاب بالتعذيب والترهيب والهجمات البحرية والعسكرية المتلاحقة.
كان الدافع الأهم لإرسال الفرنسيين رسائل الاستغاثة إلى العثمانيين هو سقوط الملك “فرنسوا” الأول أسيرا عقب معركة “بافيا” بإيطاليا عام 1525م إثر هزيمته على يد غريمه الإمبراطور الإسباني “شارلكان”. ولذا أرسلت أمه الملكة “دوشيه دانغو ليم” خطابين إلى السلطان سليمان القانوني ترجوه أن يرسل حملة عسكرية عاجلة للهجوم على المجر التابعة للإمبراطورية الألمانية-النمساوية، بهدف الضغط على هذا التحالف حتى يُفرَج عن ابنها “فرنسوا”. وقد أرسل “فرنسوا” من جانبه رسالة إلى العثمانيين يعدهم فيها بالهجوم على الإسبان إذا استطاعوا تحريره من قيده[2]. وقد تتابعت رسائل الاستنجاد وطلب الإمداد والعون العسكري الفرنسي إلى العثمانيين، ولا شك أن رد السلطان سليمان القانوني على رسالة استغاثة ملك فرنسا واحد من أهم وأقوى الخطابات الرسمية في تاريخ العلاقات بين الجانبين، التي تُدلِّل بلا شك على قوة وعظمة العثمانيين أمام الفرنسيين آنذاك، وقد جاء فيه:
“وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانجباني) النشيط، مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأعلمنا أن عدوكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عُرض على أعتاب سرير سُدتنا الملوكانية وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل فصار بتمامه معلوما، فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم، فكُن منشرح الصدر، ولا تكن مشغول الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام نوَّر الله مراقدهم لم يكونوا خاليين من الحرب لأجل فتح البلاد ورد العدو، ونحن أيضا سالكون على طريقتهم وفي كل وقت تُفتح البلاد الصعبة والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مسروجة وسيوفنا مسلولة، فالحق سبحانه وتعالى يُيسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال والأخبار تفهمونها من تابعكم المذكور فليكن معلومكم هذا”[3].
في العام نفسه، استطاعت القوات العثمانية أن تُنزل هزيمة ساحقة بالصليبيين بقيادة إسبانيا في معركة “موهاج”، وكانت النتيجة المترتبة على هذه المعركة الحاسمة، والهزيمة الثقيلة التي نزلت بـ”شارلكان”، أن تمكَّن العثمانيون من السيطرة على المجر وضمها ضمن الأراضي العثمانية. وقد أدرك “شارلكان” أن السبب الذي أدى إلى تحرك العثمانيين هو التحالف الذي أبرمه الفرنسيون بزعامة “فرنسوا” الأول معهم، ولهذا السبب بدأ في بث دعاواه في أوروبا بأن الفرنسيين يتحالفون مع “المشركين الأتراك”، واضطر “فرنسوا” الأول تحت وقع هذه الدعاية إلى إخفاء تحالفه مع السلطان سليمان القانوني مؤقتا.
بيد أنه مع إدراك الألمان والإسبان والنمساويين والبابوية مدى الهزيمة الساحقة التي تعرَّضوا لها بسقوط المجر في يد العثمانيين، وزيادة نفوذهم في أوروبا، وتراجع النفوذ الإسباني إلى الوراء، استغل الفرنسيون فترة من الهدوء المؤقت وأبرموا أول اتفاقية تجارية علنية مع العثمانيين عام 942هـ/1535م، وهو العام الذي استعاد فيه السلطان القانوني العراق من الصفويين. وقد حدَّدت هذه المعاهدة نسبة الجمارك المفروضة على التجارة البينية بين الجانبين، وكذلك آليات التقاضي بين الطرفين في حالة الخلافات التجارية، ومُنح الفرنسيون بمقتضاها امتيازات كبرى شملت تخفيض الضرائب وسهولة الحركة والتقاضي، واضطر الإنجليز والبنادقة وغيرهم إلى السفر تحت العلم الفرنسي في الجغرافيا البحرية والبرية العثمانية للاستفادة من تلك الامتيازات.
لكن العداء سرعان ما اشتعل من جديد بين التحالف الألماني الإسباني من جهة وبين الفرنسيين من جهة أخرى، واستطاع الإسبان احتلال العديد من الموانئ والمدن الفرنسية في جنوب فرنسا على البحر المتوسط، الأمر الذي اضطر معه الفرنسيون للمرة الثانية إلى اللجوء إلى العثمانيين وإقناعهم بضرورة المساعدة العاجلة ولكن من البحر هذه المرة. وقد برعت الدبلوماسية الفرنسية في إقناع رجال البلاط العثماني كالوزير الأعظم ومن تحته فضلا عن السلطان، ولهذا السبب صدر الأمر بإقلاع سفن الأسطول العثماني لنجدة فرنسا بزعامة قائد الأسطول “خير الدين بربروس” باشا، قائد البحر وأمير الجزائر.
الأتراك في “مارسيليا” و”طولون”
وبالفعل في ربيع عام 950هـ/1543م، خرج الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروس باشا من إسطنبول بقوة بحرية بلغ تعدادها 154 قطعة حربية كبيرة ومتوسطة، حملت قرابة 30 ألف جندي. وقد بلغ هذا الأسطول الكبير السواحل الإيطالية، فاستسلمت له مدينتا “مِسِّينا” في صقلية و”ريجيو” القريبة من “نابولي”، واستطاع بربروس باشا تدمير الاستحكامات العسكرية لهاتين المدينتين بينما لم يتعرض للمدنيين بأذى[4]. وفيما بعد توجَّه بربروس إلى ميناء “أوسيتا” لسد حاجات الجنود والأسطول، ثم استأنف رحلته إلى فرنسا، فبلغ مدينة “مارسيليا” في يونيو/حزيران 1543، وبعد أن استقبل الفرنسيون الأسطولَ العثماني استقبال الأبطال، أمر الملك هنري بن فرنسوا الأول بدخول الأسطول الفرنسي المكوَّن من 44 قطعة تحت إمرة قائد القوات البحرية العثمانية بربروس باشا والاتحاد معه.
وبعدما وضع خير الدين بربروس باشا خطته، توجَّه إلى سواحل مدينة نيس المحتلة التي كان يحكمها الدوق صاوا التابع آنذاك للإمبراطور الإسباني شارلكان، حيث تمكَّنت القوات العثمانية الفرنسية من حصار المدينة بحريا وبريا لعدة أسابيع حتى أعلنت مضطرة في 20 أغسطس/آب 1543م/10 جمادى الأولى 950هـ عن استسلامها للتحالف العثماني الفرنسي[5]. ولم يكتفِ الأسطول العثماني الفرنسي بهذا الأمر، بل أصرَّ بربروس باشا على المكوث في ميناء “طولون” الفرنسي طوال شتاء ذلك العام، وبناء على اتفاق بين الجانبين تُركت إدارة المدينة للعثمانيين طيلة مدة بقاء الأسطول العثماني، وانسحب الموظفون الفرنسيون من المدينة، ورُفع الأذان في الأوقات الخمسة، بل وجمع العثمانيون ضرائب تلك السنة من سكان المدينة الفرنسيين لسد حاجاتهم الغذائية والعسكرية
حينما هلَّ موسم ربيع العام التالي، توجَّهت الأساطيل العثمانية إلى الإغارة على السواحل الإسبانية وضرب جزيرة “سردينيا” التابعة للإمبراطور الإسباني شارلكان، واستطاع الفرنسيون استغلال وجود الأسطول العثماني في المنطقة فحققوا بعض النجاحات الميدانية على الأرض، كما استطاعوا تنفيذ سياسة الردع المطلوبة تجاه الحليفين الإسباني والألماني/النمساوي. وأخيرا، في العام التالي 951هـ/1544م، عاد بربروس باشا إلى إسطنبول مصطحبا معه نحو 400 من رجال التجديف الذين عملوا في الأسطول الفرنسي علاوة على الأسطول العثماني الذي أرعب الإسبان والإيطاليين وغيرهم، بعد أن حقق الأهداف المرجوة من الحملة العثمانية الفرنسية بإعادة “نيس” وغيرها من المدن الفرنسية المحتلة[7].
وقد استمر التعاون العثماني الفرنسي بعد هذا التحالف العسكري لعدة سنوات قادمة، حيث أدرك الملك هنري الثاني ابن فرنسوا الأول الأهمية الحيوية والوجودية للدولة العثمانية بالنسبة إلى فرنسا، مُعترفا بفضل إسطنبول وقوة السلطان سليمان القانوني ومدى ضعف موقعه أمام مكانة السلطان. وقد ظهر ذلك جليا حين أرسل هنري الثاني ملك فرنسا رسالة إلى السلطان سليمان القانوني قال فيها: “لم يبقَ لدى فرنسا أي أمل بالمساعدة من أي مكان آخر عدا حضرة سُلطان العالم، حيث إن حضرة سلطان العالم قد قدَّم من قبل مساعدات لمرات عديدة. إن فرنسا ستكون ممتنة إلى الأبد لو سُوعدت بمقدار من النقود والبضاعة، وخاصة أن هذه (المساعدة) تُعتبر لا شيء بالنسبة إلى سلطان العالم”[8].
وهكذا نظر العثمانيون إلى فرنسا في عصر السلطان سليمان القانوني بوصفها ولاية تابعة ضمنيا لهم، وحليفا مفيدا لضرب الصليبيين الأوروبيين من الداخل. وقد أدار خير الدين بربروس باشا قائد البحرية العثمانية، وأمير الجزائر، جزءا من الأراضي الفرنسية على رأسها “طولون” و”مارسيليا” و”نيس” أثناء حملته على جيوش وأساطيل الإمبراطور “شارلكان” كما رأينا، ما عُدَّ علامة فارقة لعصر السلطان سليمان القانوني الذي امتد لستة وأربعين عاما (1520-1566م)، وكان بحق عصرا ذهبيا للإمبراطورية العثمانية.!!!!!