“اللعب في التقنيات، الألوان والضمائر ”
قراءة لنص ” ورقة بيضاء وقلم أسود ”
للأديب الأستاذ محمد البنا
Mohamed Elbanna
________________________________
★ماذا لو أصبح القارئ شريكاً في الصياغة، يلهث مع السارد ويحاوره، يتوقع الحدث حيناً وأحايين يخيب ظنه، أو يزفر زفرات خيبة الجاهل بحقائق الأمور؟
★ماذا لو اقتادنا ذلك “السارد الذكي” إلى المكان الذي يريده، والزمان الذي يقتنصه من عمر الزمن الفعلي ؟
★كيف استطاع دمج هذه الحالة من التلقي، لتصبح خلقاً وإشراكاً بعد أن كانت متابعة وإنصاتاً؟!
السارد رفيق وربما لا، بيت سر وعلى الأغلب لا، بماذا أوهمنا أيضاً، بتنا حيارى في تصنيفه،
هذه الثنائية العبقرية ” سارد/قارئ”
خالق حدث/ ومراقب عن كثب /وبعد ذلك مشترك
★هل نجحت في إيهامنا وإشراكنا جميعاً؟ ، وإلى أي حد! هل إلى ذلك الحد الذي راقبنا به لون القلم الذي كتب به على الصفحة البيضاء، وماذا كتب حينها ؟
★هل استطعنا التفريق بين الأبيض والأسود ؟
الغش والصدق، الترف والنبل مقابل الفقر والعمل، الأهمية والأحقية العلمية، والتواضع في موضعٍ مكانيّ آخر ؟
نعم لمسنا كل شيء بأيدينا، وشاهدنا بأعيننا دون الحاجة لنزع النظارات الطبية، فالمقارنة والمقاربة كانت واضحة بين الطبقات الاجتماعية، بين ثري وفقير، متعلم مهم وعامل بسيط، رجل صاحب سطوة ومكانة، وآخر هو انعكاس له هامشي، أبيض وأسود، وفي النهاية ورقة بيضاء هي العمر الذي يمضي جزافاً بدون الحاجة للعدسات الطبية…
____________
★بدأ السارد العارف بكل شيء سرده عن تفاصيلِ شخصية البطل والتي ” يعرفها كونه السارد العليم اللصيق” فماذا حدث؟
—خدعنا بمعرفته تلك ليوهمنا، وبلغة المخاطب ” إن شئتم اختاروا له اسماً ومهنة …”
ثم يخاتلنا ويخدعنا مجدداً، ليعود إلى السارد اللصيق، ومابين لعبة الكلام بمهارة ” التي يمارسها” ولشدنا كذلك وإرغامنا على المتابعة، فنلهث خلف كل معلومة يرسلها، وكأننا أمام مسرحية من مسارح عصر الباروك، يمثلها فنانٌ قدير، لكن البطل الحقيقي فيها هو” الملقن” الذي يتقاسم دور البطولة مع “الجوقة” ” كمسرحيات راسين وموليير”
★ثم ماذا بعد ؟
هذا الملقن البطل بصيغة المخاطب، يعود لنا ” نحن” من جديد ليصف المشاهد التي آل إليها الوضع، مابين صباحٍ ومساء، صباح محترم كضيف مهم، مهندس في مؤتمر عالمي، ومساء في مهنة وضيعة وبحياة مخفيّة عن الأعين، لاتخلو من شذوذٍ وهوامش، لا تحفظها حواشي تلك الصفحة البيضاء.
★والسؤال الأنجع هنا، ماهو الفرق بين القلم الأبنوسي بحبرٍ أبيض او أسود منتهي الصلاحية؟
والإجابة أن الفرق هو في المستويات، وفي الحقيقة التي لاتعكسها المرايا لأناس يعيشون في الظل ليستمر عيشهم ببدل متألقة في العلن …
★المهارة الأسلوبية واللعب بالألوان المتعاكسة والضمائر:
——————————————————————–
لعب الكاتب بمهارة عالية على إخفاء الضّمائر خلف واجهة الشخصيات المختلقة، فكان ( أنا / أنت / هو / هي / هم )، ليضعنا في النهاية أمام سؤالٍ محوري…
من منا له وجه واحد فقط ؟
أبدعت أستاذنا كعادتك
ريم محمد
_____________________________________
القصة:
“ورقة بيضاء وقلم أسود”
——————————
لا تسألوني عن بطل قصتي، ما اسمه أو ما مهنته؟
إن شئتم اختاروا له اسمًا ومهنة، فأنا أثق بقدراتكم .
هو صديقي، لا لا ..لن أستهل إقصوصتي بكذبةٍ بيضاء، في الحقيقة هو ليس صديقًا لي، ولكني أعرفه معرفةً شخصيّة، أما عن أحداث قصتي فهى حتى هذه اللحظة مشوشةً في
ذهني، نعم أعي تفاصيلها، وتختلج مشاعر حروفها في وجداني، لكني وللحقيقة لا أعرف من أين سأبدأ؟، كما أنه لا فكرة قد تبلورت عندي عن كيفية إنهائها!
وهنا يأتي دوركم للمرة الثانية، طبعًا تتذكرون المرة الأولى عندما اقترحت عليكم اختيار اسمٍ ومهنةٍ له، أما هذه المرة فآمل أن تستمتعوا بأحداثها، رغم إن هذا ليس هدفي الرئيس، وأن تجتهدوا قليلًا للربط بين الأحداث، وأخيرًا أن تستنبطوا مرادي من تلاوتها على أسماعكم، هذا
المراد الذي لم أحدده حتى لحظة تدويني لهذه السطور !
قابلتهُ صدفة .. ها أنا أكذب للمرة الثانية، فهي لم تكن صدفة، كما أنها لم تكن عن سابق موعدٍ معه .
جمعنا وثلة من مهندسي العالم المتحضّر مؤتمرٌ عالمي، وعندما صعد المنصة، خلع نظارته الطبية، وأفرد على الطاولة أمامه ورقةً بيضاء، والتقط من جيب سترته السوداء قلمًا أبانوسيًا أسود، تعكس الأضواء الساطعة بريقه اللامع، وتعكس أيضًا سواد عينيه الشديد، وبياضهما الأكثر شدة .
لم ألمح للحظة انفراجة شفتيه، ولكن صرير قلمه كان مدويَا، ونظراته موزعةً بالتساوي في عقول الجميع، بالنسبة لي لم يقل شيئًا جديدًا؛ فأنا أعرفه كما سبق وقلت لكم، لذا كانت المفاجأة لي صاعقة، عندما صفّق الحضور له بحرارة، وهذا الذي صفقوا له صباحًا، رأيته في مساء ذات اليوم غاسلًا للصحون في قبو مطعم عشاء في المدينة المطمئنة ذاتها، يشاركه ثلة من أبناء جلدته، تسللوا لواذًا لأحيائها الراقية الطافية بنعومة في أمواجٍ هادئة.
هندامهُ النظيف، سواد عينيه، وعمق نظراته كانوا مدعاةً لنادلةٍ شقراء جميلة، شعرها جدائل من ذهب، وعيناها لؤلؤتان زرقاوتان، جسدها ممشوقٌ نحيف، لا تخفى دقة نحت تضاريسه على كل ذي عينين بصيرتين، كما أنها كانت مدعاةً لأن تنتظره ريثما يُنهي عمله، وتصطحبه إلى شقتها !
صمتهُ استولى على مشاعرها؛ بما أفاض به من همسات، نظراته الدافئة أججت غرائزها؛ فأماطت عن عينيه نظارته، وسبحت في بحر عينيه، وغرقت مع إنبلاج الفجر عن الليل البهيم، لملم أشياءه، ولم ينس أن يخرج ورقته البيضاء، ويدون بقلمه الأبانوسي الخالي من المداد، ثم يطبقها بحرفية شديدة ويدسّها والقلم في جيب سترته الداخلي وينصرف .
أخبرني ذات أمسية، ولا مبرر لما يحيك في صدوركم الآن استنكارًا لإخباره لي، فلا داعي أن أذكركم أنني أعرفه جيدًا،
أه …يبدو أنني نسيت أن أخبركم أنه أيضًا يعرفني معرفةً جيدة، رغم أنني لست صديقه، لذا أخبرني ذات أمسية أن الحياة منقسمةً إلى نصفين، أولهما يُدوّن بالقلم الأبانوسي الأسود الخالي من المداد، ونصفها الآخر يُدوّن بذات القلم الأبانوسي الأبيض المداد، وكلاهما على ورقةٍ بيضاء، شريطة أن يخلع نظارته الطبية .
محمد البنا
من مجموعة ” قبل هبوب العاصفة”