قراءة نقدية مزدوجة:
الرباعية بين حبيبة من نور وطيف حبيبة”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع/ مشاكس/ناقدة)
المبدع حمد حاجي (تونس)
الرباعية:” وتجيء أشف من الحلم..”
المشاكس عمر دغرير(تونس)
الرباعية:”كما الحلم”
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– استخدام الأساليب البلاغية(التشبيه/اسم التفضيل)
– التناص المعجمي.
– القفلة.
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي وحبيبةٌ من نُور:
استهل المبدع حمد حاجي رباعيته بفعل بصيغة المضارع المستمر(تجيء) ثم واصل توظيف صيغة المضارع المستمرّ على كامل القصيدة(ترفّ رفّ/تذرع/تنزع/تفرش/تغفو).
ان صيغة المضارع المستمرّ تضيف الطاقة والحيوية على الكتابة الشعرية فتجعلها مشهدا متحرّكا يضفي جوّا من التشويق للقارئ وهو يتابع حركات هذه الحبيبة.
واستخدم معجما لغويا من الطبيعة (الفراشة/النبع..)
كما استعمل المحسوس (ريقة الطفل/العسل/الدرب/القلب )
واستعمل غير المحسوس(الحلم/الضوء/النور/روحي)
– وظف المبدع حمد حاجي اسم التفضيل(أركانه:اسم التفضيل/المفضل/المفضل عليه)
وتوظيف اسم التفضيل للدلالة على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة مما يعني ترجيح المفضل على المفضل عليه فالحبيبة عند المبدع هي أشفّ من الحلم/أعذب من ريقة الطفل/أحلى من العسل/أضوأ من بهرة النور في حالك السبل.)
ولعل الشاعر هنا يرتقي بالحبيبة نحو اسم التفضيل المطلق فتصبح الحبيبة هي الأشفّ وهي الأعذب وهي الأحلى وهي الأضوأ وهنا ينزّل الشاعر الحبيبة المنزلة الفضلى والأرقى وهي منزلة لاترتقي اليها أي مقارنة قائمة على التشبيه.
لقد استعمل المبدع كل حواسه لوصفها (البصر/اللمس/السمع/ التذوّق/الشمّ)
وأكثر من ذلك فان المبدع حمد حاجي اختار لوصف الحبيبة ضوء الشمس(أضوأ) ولم يختر نور القمر ولعل المبدع على علم بالمصطلحات العلمية الفيزيائية التي تعتبر أن الشمس هي مصدر الضوء في حين أن القمر تستمدّ نورها من الشمس وبالتالي فان الشاعر لم يفضل الحبيبة على نور القمر في وصفها بل جعلها هي مصدر الضوء(الشمس).
واعتبار المبدع أن الشمس هي مصدر الضوء فان هذا المصطلح العلمي يتناصّ مع النصّ القرآني في الآية(5) من سورة يونس”…هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا”.
ان الشاعر حمد حاجي بقي وفيا للوحدة المعنوية في وصف الحبيبة وصفا روحيا
في مجمل وصفه حتى أنه جعل الحبيبة عند مجيئها تنزع دقات قلبه وتفرش روحه لتغفو على مهل وبذلك يتماهى المبدع وينصهر ويندغم مع روح الحبيبة وهذا منتهى ما كان ينتظره من مجيئها.
– هل ان حبيبة المبدع امرأة من نور؟
– هل ان المبدع يتناص مع الشابي في هذا المعنى حين يقول:
يا ابنة النور إني أنا وحدي من // رأى فيك روعة المعبود
لقد راوح المبدع بين استخدام المعجم المحسوس والمعجم غير المحسوس خدمة لهذه الحبيبة التي هي من نور.
انه شبهها بالنبع في تدفقه وفي جوهره الذي هو أصل الماء الذي يُحْيي ويُميت
وشبهها بريقة الطفل في نقائها وبراءتها وطهارتها بل جعلها تنزع دقات قلبه الذي توقّف انبهارا بنورها لتستبدله بروحه التي وهبها اياها فراشا تغفو عليها على مهل فيتماهى نورها مع روحه.
وكأني بالمبدع أراد أن يرتقي بالمحسوس الى غير المحسوس ايمانا منه بنورانية غير المحسوس فهو أخذ من النبع صفاءه ومن ريقة الطفل براءتها وعذوبتها وطهارتها ونقاوتها.
انها بهكذا مواصفات غير محسوسة لا يمكن أن تكون الا امرأة من نور.
وفي هذا الاطار فهل لحبيبة المبدع التي هي من نور نصيب في رباعية المشاكس؟؟؟
2- المشاكس عمر دغرير وطيف الحبيبة:
استهل المشاكس رباعيته بتشبيه جعل فيه مجيء الحبيبة كالطيف في الحلم وهو
بذلك ينفي على المبدع منذ البداية مجيء الحبيبة في الواقع.
استخدم المشاكس أفعالا في صيغة المضارع المرفوع الدال على الاستمرارية تماما كما المبدع ( يأتيك/يغزوك/تنتشي/تسكر/ تتوه/ تبقى تطوف/تهذي /تأمل).
لئن استخدم المبدع صيغة المضارع المستمرّ لاضفاء الحركية بالواقع عند
مجيئها فان المشاكس جعل هذه الاستمرارية في الخيال والحلم وبذلك حوّل متعة المبدع الواقعية بمجيء الحبيبة الى متعة خيالية وشتان بين حقيقة الواقع وَوَهْم الخيال فيقول:
كما الحلم يأتيك طيفها, ويغزوك عطرها الأزكى من القرنفل
انه استخدم التشبيه (كما الحلم)واسم التفضيل المطلق( الأزكى) لا ليجعل المبدع
يستمتع يمجيئها في الواقع بل لايهامه بمجيئها.انها خدعة شعرية.
والطيف تحدث عنه بعض الشعراء :
يقول عنترة الذي حُرمَ من حبيبته عبلة في الواقع:
أتاني طيف عبلة في المنام// وقبلني ثلاثا في اللثام.
– هل أن الطيف هو بديل عن الحبيبة بدمها ولحمها في الواقع؟
– هل أن المشاكس يَحْرمُ المبدع من مجيئها في الواقع ليكتفي بطيفها في الحلم؟
– هل يعوّض الحلم الزائف الواقع الحقيقي الذي يعيشه المبدع؟
انها تساؤلات قد يطرحها القارئ وقد يجيب عنها.
وأكثر من ذلك فهو يغريه بالانتشاء حدّ التيه في السبل
انه ينزّل هذه الحبيبة بعطرها الأزكى منزلة الخمر التي ينتشي بها شاربها
حد فقدان التوازن والتيه.
– هل الحبيبة خمرة ينتشي بها الحبيب؟
– ثم هل هذه المرأة الخمرة هي واقع أم خيال؟
انه يرسم لنا صورة شعرية وهو يطوف بحيّها من الشروق الى الغروب.
انه طواف غير محدود في الزمان وغير واع بفعله.
ان طواف المبدع حول حيّها يتناص مع طواف الحاج حول الكعبة.
– هل ان حيّ الحبيبة هوقبلته واتجاهه اللامحدود في الزمان؟
ان طواف الحاج حول الكعبة يتم خلال سبع مرات ولكن طواف الحبيب حول حيّها لا حدود له في الزمان لأن المبدع فاقد لعقله ومفهوم الزمن لا يستوعبه.
لئن جعل المشاكس طيف الحبيبة في الحلم يُخرج المبدع عن صوابه فهل هو مدح ام ذم؟ أم هو ذمّ بما يفيد المدح؟
لعله ذمّ بما يفيد المدح دون قصد من المشاكس:
– ذمّ لان الحبيبة وهي مجرد طيف قد أخرجته عن عقله.
– مدح لان المبدع متيّم بحبيبته لا في الواقع فحسب(رباعية المبدع) بل لا يفارقه طيفها حتى في الحلم(رباعية المشاكس) .
انه حب يغمر كيانه حلما وقد دعم ذلك بأن جعله غير محدود في الزمان يقول المشاكس:
وتبقى تطوف في حبها من//الشروق الى الغروب كالأهبل…
انه حبّ يأسر عقله ويستبد به ليل نهار..انه أشرس أنواع الحب.
انه الحب الذي جعل عقل مجنون ليلى أسيرا له وكذلك جميل بثينة وغيرهما.
و أكثر من ذلك يصيبه الهذيان باسمها ويأمل أن لا تأتي المنية على عجل فيقول:
وباسمها تهذي كثيرا وتأمل// ألا تأتي المنية على عجل.
لقد ختم المشاكس بقفلة قد تُوهم القارئ أنها مقابلة تقوم على طباق لفظي(على مهل/على عجل) بين قفلة المبدع(على مهل) وقفلة المشاكس (على عجل).
بيد أن كليهما ينشد التمهل والتأني:
لئن كان المبدع يتمهل غفوة حبيبة من نور على فراش روحه لتطول متعته الروحية مع روحها التي تماهت مع روحه.
فان المشاكس يجعل المبدع يتمهّل المنية لتطول حياته مع طيفها الذي يحبّ.
وبالتالي فكلاهما يَنْشدُ طول الحياة وطول المتعة سواء مع الحبيبة من نور أو مع طيف الحبيبة.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة واقعا أوحلما حبيبة من نور أو طيف حبيبة.
بتاريخ 26/09/2024
– رباعية المبدع حمد حاجي “تجيء”:
تجيء أشفّ من الحلم…رفّ الفراشة في أبهى الحلل
كما النبع…أعذب من ريقة الطفل أحلى من العسل
وتذرع الدرب أضوأ من بهرة النور في حالك السبل
وتنزع دقّات قلبي وتفرش روحي وتغفو على مهل
– رباعية المشاكس عمر دغرير
كما الحلم يأتيك طيفها, ويغزوك عطرها الأزكى منَ القرنفلِ…
فتنتشي بالعبير وتسكر, وحتما تتوه من الإنتشاء في السبلِ…
وتبقى تطوف في حيّها من الشروق إلى الغروب كالأهبل…
وباسمها تهذي كثيرا ,و تأمل أن لا تأتي المنية على عجلِ…