قراءة نقدية مزدوجة:
“الرباعية بين الظاهر والخفيّ”
فقرة جمع بصيغة المفرد (مبدع/ مشاكس/ ناقدة)
المبدع حمد حاجي (تونس)
الرباعية:” لمحتك خلف نساء ..”
المشاكس عمر دغرير(تونس)
الرباعية: “تقول انتخبت”
الناقدة : جليلة المازني (تونس)
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– التناص المعجمي.
– الاطار الزمكاني.
– القفلة.
ب- المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1- المبدع حمد حاجي ومتعة المعنى الخفيّ:
استهل المبدع رباعيته بفعل يخاطب به امرأة تصطفّ خلف نساء قد اصطففن في نسق وقد شبّههن بحمائم وداعة وسلاما فيقول:
لمحتك خلف نساء.. وقفن صفوفا مرتبة كحمائم تصطف
في نسق.
إن هذه المرأة التي لمحَها قد استرعت انتباهه فبات يتابع حركاتها في الزمان والمكان.
انه زمن الانتخابات الرئاسية وفي غرفة الإنتخاب .
والمبدع يختطف اللحظة السانحة ويلتقط بكاميرا إبداعه المشهد ليغنم من الحاضر متعته ولذّته مستمتعا في ذلك بحاسة البصر وهي الحاسة المسؤولة عن بقية الحواس فيقول:
وفي غرفة الانتخاب رأيتك
تخترقين الزحام كما الضوء في
غامق الغسق.
يعمد الشاعر الى طباق لفظي(الضوء/غامق الغسق) يقوم على مقابلة معنوية بين نور جمالها في سواد الزحام.
انه ضوء جمالها الذي بهره وانبهر به هذا الضوء الذي جعله يتابع خطواتها ويتتبع حركاتها في دخولها الى خلوة وغطس سبابتها المنيرة في الحبر وهو
يقابل مرة أخرى بين نور سبابتها وظلام الحبر فيقول المبدع:
وفي غرفة الانتخاب رأيتك
تخترقين الزحام كما الضوء في
غامق الغسق
دلفت الى خلوة في الممرّ
و أغطست سبابة النور في
الحبر والفكر في الورق…
لعل القارئ يتدخل وقد يستمتع مع المبدع بهذا المشهد المسرحي الذي جمع بين الضوء والظلام والاصوات(الزحام) والحركات(الدخول الى الخلوة وغمس السبابة في الحبر).
ان الشاعر مسْرَحَ القصيدة ليجعل القارئ يتابع معه ويعيش معه متعة جمال هذه المرأة الناخبة.
هذه المرأة هي نور وضياء فهي شمس وقمر فهي قمر بنورها ليلا وشمس
بضيائها نهارا .
وهل أكثر من أن تكون ليله ونهاره؟
وهل أكثر من أن تغمر كل وجوده (ليلا/ نهارا)؟
بيد أن المبدع يَخْتمُ بقفلة مدهشة تكسر أفق القارئ وتنتهكُ حُرْمة علاقة الإعجاب
والحبّ التي باح بها لنا المبدع فيقول :
وكنّا اخْتصَمْنا فمنتخبي ثالث
في السباق وناخبها في
الغياهب والنفق.
يبدو أن هذه القفلة تحمل أسلوبا بديعيا بامتياز قائما على التوريَة .
والتورية هو أن يتكلم المتكلم بكلام له معنى ظاهر مُتبَادَر ومعنى آخر خفيّ.
والمتكلم يقصد المعنى الخفيّ إلا أنه ورّاهُ وأخْفاه بذلك المعنى الظاهر المتبادر:
في المقطع الأخير من الرباعية قال الشاعر” وناخبها في الغياهب والنفق”.
لفظ “ناخبها” له معنيان:
– معنى قريب وظاهر في المجال السياسي يتعلق بالانتخاب والشاعر لا يقصده.
– معنى بعيد وخفيّ في المجال العاطفي الوجداني والشاعر يقصده.
فالمعنى البعيد هو أن حبيب هذه المرأة مجهول والمبدع لا يعرفه.
وبالتالي لن يَجْنيَ المبدع من متابعته لها بمكتب الاقتراع ومن تتبع حركاتها وانبهاره بنورها وضيائها شيئا ولن يقضيَ منها وطرا لأن لها حبيبا آخر هو يجهله (في الغياهب والنفق).
ان المبدع أوْهم القارئ بأنه يتحدّث عن الانتخاب باستخدام قرينتين:
– “وكنّا اختصمنا”.
– “فمنتخبي ثالث في السباق ”
ان المبدع “ضلّل” القارئ بهاتين القرينتين ولكنه يقصد أن “ناخبها” والناخب اسم
فاعل من نخب وبالتالي فالناخب الذي اختار هذه المرأة هو شخص آخر يجهله (في الغياهب والنفق) لذلك كان الاختصام بينهما ليس حول الانتخاب بل لأنها لن تكون من نصيبه رغم البوح لنا بمدى اعجابه وحبّه لها.
إن هذا النوع من الكتابة باستخدام الاسلوب البديعي القائم على التورية هو من الكتابة الساخرة التي قد تُبْكي وقد تُضْحك في نفس الوقت.
قد تُبكي المبدع الذي باءت محاولاته بالفشل وقد تُضحك القارئ الفضولي.
والقارئ المغرم يجد فيها متعة.
في هذا الاطار من الكتابة الساخرة هل أن المشاكس سينخرط ويتناغم مع المعنى البعيد والخفي الذي قصده المبدع؟؟؟
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير والمعنى الظاهر:
لئن استهل المبدع رباعيته بتسليط الضوء على المرأة التي لمحها بين النساء بالصفّ فان المشاكس قد سلط الضوء على المبدع الذي قد لمحه وهو يشير الى الناخبين بحركات عينيه فيقول:
تقول انتخبت وقد لمحتك في الصف تشير الى
الناخبين في الحدق.
كأني بالمشاكس يتهم المبدع بتوجيه الناخبين وممارسة سلطته المعنوية عليهم لينتخبوا الثالث على الورق والمشاكس باستخدام ضمير المتكلم المفرد(لمحتك) قد يعتبره القارئ شاهد عيان قد يورّط المبدع في خرقه للقانون فيقول:
وتطلب منهم أن يختاروا ما كنت اخترت الثالث
على الورق.
انها تهمة خطيرة وشهادة ضده قد يُعاقب عليها.
– لعل المشاكس هنا يثير قضية السرية والشفافية وانتهاك حرمة حرية الناخب في اختيار من سينتخب.
– لعل المشاكس يندّد بهكذا ممارسات غير قانونية في الواقع أثناء العملية الانتخابية.
يقول: وحين رآك رئيس مكتب الاقتراع انزعجت وبنت
على قلق.
وكأني بالمشاكس يُعلن فضيحة ممارسة المبدع في توجيه الناخبين الى انتخاب
معين يجرّد العملية الانتخابية من قوانينها فالانتخاب عام وحرّ ومباشر وسرّي ونزيه.
وفي هذا الاطار فان المشاكس قد ألغى علاقة المبدع بتلك المرأة التي تصطف مع النساء وانبهاره بها مما جعل المشاكس لا يرى الا الوجه الظاهر لرباعية المبدع والمتعلق بالحدث السياسي الحالي وهو الانتخاب.
إن المشاكس لم يرَ ذاك الوجه الخفي وذاك المعنى البعيد الذي أخفاه المبدع عن القارئ العادي.
لعل هَوَسَ المشاكس بالعملية الانتخابية جعله يُغمض عيْنيْه عن كل شاغل آخر.
ولئن أعطى المشاكس الأولوية للحدث السياسي المتمثل في الانتخابات فان المبدع قد جمع بين السياسي والعاطفي الوجداني.
وفضل المبدع أنه جعل السياسي في خدمة العاطفي الوجداني لان السياسة بلا عاطفة وبلا وجدان تصبح عملية قذرة.
ولعل المشاكس قد دعم ذلك بأن جعل المبدع الذي تجرّد من عواطفه من أجل خدمة مصالحه السياسية بتوجيه الناخبين الى انتخاب من يرى فيه خدمة لمصالحه السياسية الضيقة.
ويختم المشاكس بقفلة غير سارة للمبدع تماما كما كانت قفلة المبدع غير سارة
يقول المشاكس:
فقد قادك عون الأمن للتحقيق وبالرعب ابتلّ وجهك بالعرق.
فلئن كانت قفلة المبدع غير سارة لأن المرأة التي انبهر بها وهي بمكتب الاقتراع لن يظفر بها ولن تكون من نصيبه لانّ أحدا آخر قد نخبها واختارها لنفسه. فإن قفلة المشاكس كانت غير سارة لأن المبدع اخترق قوانين الانتخاب وانتهك حرمة سرية الانتخاب وحرمة حرية الناخبين وهو معرّض للتحقيق وقد ينتهي بعقاب.
سلم القلمان إبداعا ومشاكسة معنى قريبا وبعيدا ومعنى ظاهرا وخفيّا.
بتاريخ 08/ 10/ 2024
رباعية المبدع حمد حاجي :
لمحتُكِ خلف نساء… وقفن صفوفا مرتبة كحمائم تصطف في نسَقِ
وفي غرفة الانتخاب رأيتُكِ تخترقين الزحام كما الضوء في غامق الغسَقِ
دلفتِ إلى خلوةٍ في الممرّ وأغطستِ سبّابةَ النور في الحبر والفكرَ بالورق..
وكنّا اختصمنا فمنتخبي ثالث في السّباق وناخبها في الغياهب والنّفَقِ
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
رباعية المشاكس عمر دغرير:
تقولُ انتخبت وقدْ لمحتكَ في الصفّ تشيرُ إلى الناخبين بالحدقِ
وتطلبُ منهمْ أنْ يختاروا ,ما كنتَ اخترتَ, الثالثَ على الورقِ…
وحينَ رآكَ رئيسُ مكتب الإقتراعِ, انزعجتَ, وبنتَ على قلقِ
فقدْ قادكَ عونُ الأمنِ للتحقيقِ, وبالرعب ابتلّ وجهكَ بالعرقِ…