في مثل هذا اليوم14 اكتوبر 1840م..
الأمير اللبناني بشير الثاني الشهابي يسلم نفسه للجيش البريطاني الذي قام بنفيه بعد ذلك إلى مالطا.
لأمير بشير الثاني الشهابي الكبير هو أحد أمراء جبل لبنان من آل شهاب، الذين حكموا المنطقة من سنة 1697 حتى 1842. يُعتبر أحد أشهر الأمراء في تاريخ لبنان وبلاد الشام عمومًا، وأحد أبرز ولاة الشرق العربي في العصور الحديثة، كما أنه آخر الأمراء الفعليين للبنان، إذ أن الأمير الذي تلاه كان مجرد أمير صوري عيَّنه العثمانيون على عكس الأمراء السابقين الذين كان يختارهم أعيان الشعب. حكم الأمير بشير الثاني جبل لبنان خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر وصولاً حتى منتصف القرن التاسع عشر، وبهذا كان الأمير الثاني الذي حكم لفترة طويلة كهذه، بعد الأمير فخر الدين المعني الثاني.
عاصر بشير الثاني فترة ضعف وعجز الدولة العثمانية وازدياد الأطماع الأوروبية فيها والتدخل في شؤونها. ومن أبرز الأحداث التي شهدها لبنان في عهده: الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين خلال عهد الوالي أحمد باشا الجزار، والحملة المصرية على بلاد الشام والمعارك العديدة التي خاضها الجيش المصري مع الجيش التركي للسيطرة على سوريا الكبرى. يُقسم المؤرخون تاريخ الأمير بشير الثاني في الحكم إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى (1788 – 1804)، الأمير في عهد أحمد باشا الجزار، وقد امتدت ستة عشر عامًا، وكان موقف الأمير فيها مضطربًا، وخاضعًا لوالي عكا؛ المرحلة الثانية (1804 – 1831)، مرحلة القوة والازدهار، وقد امتدت سبعة وعشرين عامًا، وفيها بلغ الأمير ذروة مجده وقوته، وقد عاصره في هذا الدور في عكا الواليان سليمان باشا ثم عبد الله باشا؛ المرحلة الثالثة (1831 – 1840)، عهد الحكم المصري لبلاد الشام، وقد دامت تسع سنوات، وكان الأمير خلالها متحالفًا مع محمد علي باشا والي مصر ضد الدولة العثمانية، وبانهزام المصريين بنهاية المطاف، غادر الأمير لبنان إلى المنفى وكانت تلك نهاية الإمارة اللبنانية «الأصيلة».
هو بشير بن قاسم شهاب، يُعرف بالثاني لأن أول أمير من آل شهاب كان يُدعى بشير أيضا، ويُقال له «الكبير» لأنه يعتبر من أكبر وأعظم أمراء لبنان عبر التاريخ، كما يُعرف عند الإنكليز «بالمالطي» لأنه لجأ إلى جزيرة مالطة، المستعمرة البريطانية عندما انهزم المصريون وانهار حكمهم في لبنان.
كان الأمير ملحم بن حيدر الشهابي، الذي حكم لبنان بين سنتيّ 1729 و1754 قد رشّح الأمير قاسم، ابن أخيه عمر، ليخلفه في الإمارة، ولكن الأميرين أحمد ومنصور، عميّ قاسم، تجاهلا هذا الترشيح وانفردا بالإمارة، فنزح قاسم إلى بلدة غزير في كسروان وأقام فيها.
وفي سنة 1767 توفي قاسم بعد أن ترك ولدًا في شهره الرابع، هو بشير الثاني. ولم تلبث والدته أن تزوجت وأقامت في منطقة الحدث، قرب بيروت، أما بشير فاحتضنته امرأة من آل الشعلاني كانت في خدمة أبيه، فنشأ يتيم الأب، بعيدا عن الأم، فقيرا، على الرغم من جذوره النبيلة. فبشير الثاني بالتالي، هو ابن قاسم بن عمر بن حيدر الشهابي، وحيدر هو ثاني أمراء آل شهاب، وبطل معركة عين دارة التي وقعت سنة 1711 وقضي بها على الحزب اليمني وتمّ توزيع الأراضي بعدها على الأسر اللبنانية الكبرى
بعد أن أمضى بشير شطرًا من صباه في منطقة برج البراجنة، في بيت مربيته، بالقرب من الحدث حيث كانت تقيم والدته المتزوجة والتي كان يزورها بين الحين والأخر، انتقل إلى دير القمر، عاصمة الإمارة. وهناك قام ببعض الأعمال التي كلفه بها الأمير في ذلك الوقت، يوسف الشهابي، فكان يشرف على أملاكه ويفضّ الخلافات التي كانت تنشأ بين رجال الإقطاع.
وكانت سلطة الأمير يوسف في ذلك الوقت قد أخذت تضعف، فقد كان الجزار والي عكا، الذي كان لبنان يدفع ضرائبه إلى الدولة العثمانية عن طريقه، يلحّ عليه بطلب المال من جهة، ورجال الإقطاع يتبرمون من كثرة الضرائب، ويتلكؤون في تلبية طلبات الأمير يوسف من جهة ثانية. ومالبث بشير الثاني أن لفت انتباه خصوم الأمير يوسف، وأكثرهم من الحزب الجنبلاطي، ورؤوا فيه شخصا مؤهلاً ليحل مكان الأمير حين يكون الوقت مناسبًا، فالتفّوا حوله، ولكنه كان يشعر أنه فقير لا يستطيع النهوض بأعباء الإمارة، وفي مقدمتها توفير الأموال الكافية لإرضاء الجزار.
كان الأمير يوسف قد شعر بتعاظم شخصية بشير والتفاف رجال الإقطاع حوله، فأراد أن يبعده قليلاً عن عاصمة الإمارة، فأوفده في مهمة إلى حاصبيا بجنوب لبنان، حيث كان الأمير يوسف قد قتل أميرًا شهابيًّا من وادي التيم، وكان الأمير القتيل ثريًّا، فأوفد يوسف بشيرًا إلى حاصبيا سنة 1787 لتقدير تركته. وبينما كان بشير يؤدي مهمته التقى بالأميرة «شمس»، أرملة الأمير القتيل، وكانت ثرية مثل زوجها، فاغتنم الأمير بشير الفرصة وتزوج منها، وعاد إلى دير القمر بثروة كبيرة اشترى ببعضها أرض قصر بيت الدين الذي بناه لاحقا، واستعان بالبعض الآخر على تنفيذ خططه السياسية.
ما كادت سنة 1788 تشرف على نهايتها حتى كان بشير الثاني الشهابي هو الرجل المؤهل لكي يتبوأ إمارة الجبل، فهو الذي كان بوسعه أن يرضي نهم الجزار للمال، ويُرضي الحزب الجنبلاطي وسائر الإقطاعيين الذين كانوا يناوئون الأمير يوسف، ويُرضي الأمير يوسف نفسه الذي شعر بعجزه عن الاستمرار في الحكم، بعد أن دعم انقلابا قام به مماليك الجزار على سيدهم ظنا منه أنه سينجح ويتخلص من سلطان ذلك الوالي عليه، فلما اخفق الانقلاب وجد يوسف نفسه في مأزق، وظن أن وجود الأمير بشير في إمارة الجبل معناه استمرار لحكم الأمير يوسف نفسه واستمرار نفوذه. فتنازل عن الحكم، وانتخب أعيان البلاد بشيرا، وما لبث الأخير أن توجه إلى عكا وعاد منها بعد أن تسلم منصب الولاية رسميّا من الجزار.
كان على الأمير أن يواجه عددا من العقبات، كان في طليعتها مطاردة سلفه الأمير يوسف، هذه المطاردة التي أصر عليها الجزار كي يجعل من الأمير السابق عبرة لمن يُفكر بالتمرد على الولاية، وكان الجزار على دراية بطباع الأمير بشير الشجاعة وقدراته الباكرة، فأعطاه جيشا من المرتزقة الألبان والمغاربة وأمره بطرد الأمير يوسف من الجبل أو القبض عليه واقتياده إلى عكا. كان بشير الثاني عند انتخابه قد وعد قريبه الأمير يوسف بالحماية، ولكنه عاد وأدرك أن سلطته لا يمكن أن تقوى أو تستقر بوجود يوسف إلى جانبه، فقد سبق واعتزل الأخير الحكم عددا من المرّات ثم عاد بعد أن راضى الجزار، وليس هناك ما يمنع أن يعاود الكرّة، ويغتنم أية اضطرابات تحصل ليفعل بقريبه بشير ما فعله بإخوته، أي قتله كي لا ينازعه على الحكم. انطلاقا من هذا انقلب الأمير بشير على وعده وقامت بينه وبين سلفه بضعة مناوشات هرب بنتيجتها الأمير يوسف إلى حوران، وعقد العزم على الانتقام، فاتجه إلى عكا بغض النظر عن الخطر المحدق به، وظهر أمام الوالي مع حبل معقود في رقبته كاستعداد لأن يُشنق، وبدون مقدمات عرض على الجزار أن يُرجعه حاكما على لبنان على أن يقدم جزية سنوية قيمتها 600 ألف قرش، فأعجب الجزار بالاقتراح وكاد أن يوافق ويعفي عن الأمير يوسف.
علم الأمير بشير بالمساومات التي كانت تجري في عكا، فأسرع بنفسه وعرض على الجزار أن يدفع له في السنة الأولى ضعفي ما يقترحه الأمير يوسف، مشترطا أن يُشنق الأخير مع مستشاره «غندور»، فوافق الجزار على هذا الاقتراح ونفذ حكم الإعدام بالأمير يوسف. وبهذا أصبح بشير الثاني الشهابي حاكم لبنان الأوحد ولم يبق له منافس فعلي آخر، وضمن والي عكا إلى جانبه لفترة من الوقت على الأقل.
تمرد وعصيان الشعب
أثارت حادثة شنق الأمير يوسف بعض اللبنانيين في المتن على الأمير بشير، وانتشرت الثورة ضده في مقاطعات الغرب، والجرد والشحّار، وسرعان ما تحول هذا إلى عصيان عام في لبنان سنة 1790، أي في العام الثاني لحكمه. لم يبق إلى جانب الأمير آنذاك سوى حراس الجزار، الذين كانوا قد ألحقوا به لجمع كمية الأموال الموعودة، ولكن الجزار ما لبث أن استرد حراسه، بعد أن أعطي بشليك دمشق فتسمى وقتها أميرا للحج وقرر الذهاب إلى مكة المكرمة على رأس قافلة الحجاج، فاضطر الأمير بشير، والحال هذه، إلى الهرب واللجوء إلى «متسلّم» صيدا التركي، فانتخب أعيان الجبل مكانه أميرين من أقربائه هما حيدر وقعدان الشهابيين.
بعد عودته من مكة، أرسل الجزار جيوشه لمساعدة الأمير بشير، ولكن سكان الجبل وقفوا وقفة واحدة في وجه إعادة بشير إلى الحكم، فدارت بينهم وبين جيش الأمير والجزار معارك لمدة سنتين بقي لبنان خلالها منيعا أمامهم. لكن القدر سمح لوالي عكا أن ينتقم من الجبليين بقسوة ويُعيد الأمير إلى منصبه عنوة، ففي سنة 1793 عمّ القحط بلاد الشام، وكانت المراكب المحملة بالقمح تفرغ حمولتها في بيروت وبالرغم من أن بعض القرى كانت تعاني من الجوع، إلا أن الباشا منع وصول القمح إلى الجبل، وعندها فقط استوفى الجزار كل ديونه. ولتهدئة الشعب التعيس المعذب والجائع، والذي فقد كل إمكاناته في دفع الجزية والفدية، طلب الجزار من الأمير بشير بأن يغرب عن جبل لبنان لفترة، فالتحق الأخير بقبائل الأنصاريين في شمال لبنان، حيث استطاع من هناك أن يجتذب إلى جانبه حزب الجنبلاطيين. وكان الجزار في هذه الفترة يُغذي الانقسامات بين الأمراء الشهابيين ويثير النزاع بين الإقطاعيين، فيبتز المال من كل راغب بمنصب الإمارة ويؤلب بعضهم على بعضهم الآخر، واستمر في خطته هذه حتى سنة 1798 عندما أصدر أمرا بإعادة بشير إلى الحكم، فعاد الأمير بشير إلى منصبه بتأييد من الجزار، الذي افسح له المجال للتخلص بنفسه من منافسيه، وبدعم من الجنبلاطيين.
الأمير يبطش بخصومه
أراد الأمير بشير أن ينتقم من الذين ثاروا عليه، أو ساعدوا خصومه خلال تخليه عن الحكم، فبطش بهم وفي طليعة هؤلاء كان آل نكد، وطارد أبناء الأمير يوسف ونكّل بكل من وقع بين يديه وأنزل بهم ألوان العذاب والإذلال. ولمّا أيقن أبناء الأمير يوسف أن نهايتهم ستكون على يد الأمير بشير، جمعوا أموالا كثيرة، وتوجهوا إلى الجزار راغبين في «شراء» إمارة الجبل.
وأغرت هذه الأموال الجزار، فنسي وعده ودعمه للأمير بشير، وانقلب عليه علنا، وأنعم على أبناء الأمير يوسف بإمارة الجبل من جديد. وما كاد الجزار يفعل ذلك، حتى بلغته أنباء الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت، الذي نزل أرض مصر، فجزع الجزار جزعا شديدا، وتريث في عزل الأمير بشير، فاستبقى أبناء الأمير يوسف في عكا ريثما تنجلي نتائج الحملة الفرنسية. وارتاح الأمير بشير، بعض الوقت، من تقلبات مزاج الجزار.
تغلب الجيش الفرنسي، بقيادة نابليون بونابرت، على المماليك في مصر، في معركة الأهرام قرب القاهرة. وكانت الجمهورية الفرنسية تقصد من احتلال مصر، السيطرة على طريق بريطانيا إلى الهند آنذاك. ورأت الدولة العثمانية في احتلال بونابرت مصر اعتداءً عليها، ووقف الإنكليز والروس إلى جانب العثمانيين، وعرضوا على الباب العالي المساعدة العسكرية، برّا وبحرا لإخراج الفرنسيين من مصر.
ولما رأى بونابرت تجمّع أساطيل العثمانيين والإنكليز والروس في البحر المتوسط، عزم على مفاجأة الدولة العثمانية باحتلال بلاد الشام قبل أن يستكمل العثمانيون استعداداتهم، فاحتل غزة ويافا والرملة وحيفا ووصل إلى صور في جنوب لبنان، ولكن جنوده لم يستطيعوا اقتحام حصون عكا لمناعتها. وكان أحمد باشا الجزار قد زوّد حاميتها بالمدافع، كما كان الأسطول الإنكليزي بقيادة الأميرال سدني سميث يُساعد رجال الجزار.
موقف الأمير بشير
عندما تساوت قوى الفريقين، ووقف كل من بونابرت والجزار يتربص بالأخر، التفت كل منهما إلى الأمير بشير، فوجدا فيه مرجّحا لكفة من يُساعده فيما يُقدمه الأمير من رجال ومؤن، فكتب كل منهما إليه: أما بونابرت فقد طلب إليه المساعدة ووعده بتوسيع حدود إمارته وتخليص بلاد الشام من حكم الجزار المتقلّب الذي دائما ما يخلف بوعوده ويغدر بمن حوله؛ وأما الجزار فأصرّ على الأمير أن يمده بجيش ليقاوم الحملة الفرنسية، ووعده مقابل ذلك بإعادة مدينة بيروت إلى إمارته. وكان موقف الأمير حرجا للغاية، فالمعارك لم تكن تنبئ عن نجاح مؤكد لأحد الفريقين، والواقع أنه كان من الصعب على أمير لبنان، أي أمير، أن يتخلص من التورط السياسي عندما تتدخل قوة أجنبية في المنطقة. فالأمير لم يكن ليضمن وفاء الجزار بوعده، فهو قد خلف وعودا عديدة من قبل مقابل المال، كما أنه كان يريد أن يعين أبناء الأمير يوسف بدلا من بشير، وليس هناك ما يمنع أن يعاود الكرّة إن انتصر على الفرنسيين، كذلك ليس هناك من ضمانة لنوايا بونابرت تجاه الأمير ولبنان.
سكت الأمير بشير عن الرد على رسالة بونابرت، وتجاهل المؤن التي زود بعض الأهالي بها الجيش الفرنسي، وردّ على الجزار يعتذر عن تقاعسه في نجدته، زاعما أن أهل البلاد امتنعوا عن طاعته بعد أن بلغهم أن الجزار عزله عن الحكم، وولّى مكانه أبناء الأمير يوسف. فكان هذا الاعتذار أشد وقعا في نفس الجزار من الرفض الصريح. ومن حسن حظ الأمير بشير أن رسالة ثانية بعث بها بونابرت إليه، وقعت في يد «متسلّم» صيدا، فأرسلها إلى رئيسه الجزار، وكان فيها عتاب من بونابرت للأمير بشير، لعدم رده على رسالته الأولى. عندئذ اطمأن والي عكا بعض الاطمئنان إلى سلامة موقف الأمير من الفاتح الفرنسي.
وكان هذا الموقف المحايد الذي التزمه الأمير بشير، موقفا حكيما أنقذ فيه نفسه وبلاده من التورّط بين القوتين المتنازعتين. وكان القائد الفرنسي قد جامل الأمير بشير فأهداه سيفا تاريخيّا، فقدم له الأمير بندقية ثمينة.
عندما اجتاز الجيش العثماني سهل البقاع متوجها إلى عكا لنجدة الجزار، اتصل الأمير بشير بالصدر الأعظم يوسف باشا ضيا، الذي كان يقود الجيش، وأمده بالرجال والمؤن والهدايا، وطلب إليه التدخل لرفع ظلم الجزار وسطوته عنه، مبديا رغبته في أن يكون لبنان مستقلا عن ولاية عكا، وأية ولاية أخرى، وأن يخوله الاتصال مباشرةً بحكومة إسطنبول، وإرسال الأموال المجموعة من الضرائب إليها دون وساطة والي عكا، فوعده الصدر الأعظم بتحقيق رغبته.
إخفاق الحملة الفرنسية
نتيجة مناعة حصون عكا، ووصول النجدات العثمانية إليها، واشتراك الأسطول البريطاني في مساعدة العثمانيين، وشدة وطأة وباء الملاريا ثم الطاعون الذين فتكا بالجنود الفرنسيين فتكا ذريعا، اضطر بونابرت إلى رفع الحصار عن عكا والتراجع إلى مصر سنة 1799، ثم عاد إلى فرنسا عندما بلغه نبأ اضطراب الأحوال في أوروبا، وترك للجنرال كليبر قيادة القوة الفرنسية. ولم تلبث هذه القوة الفرنسية أن انسحبت من مصر سنة 1801 عائدة إلى بلادها، بسبب اضطراب الأحوال الداخلية في فرنسا.
كان الجزار يُراقب تحركات الأمير بشير واتصالاته، فلما بلغ الصدر الأعظم حدود مصر، سارع الجزار إلى قطع الطريق على الأمير بشير ورغباته، فاتصل بخصوم الأمير، وأثارهم عليه، وزودهم بالجند والذخيرة، وولّى أبناء الأمير يوسف الحكم وأرسلهم إلى لبنان واحتفظ بأخيهم الأصغر رهينة لديه. اضطر بشير الثاني إزاء هذا الأمر أن يلجأ إلى بلدة الكورة فالهرمل، وأرسل أفراد أسرته والمخلصين من حاشيته إلى بلدة صليما؛ ومن ثم التحق بهم هناك وبقي فيها لأكثر من سنة، متواريًا عن عيون الجزار والأميرين قعدان وسلمان شهاب، أبناء الأمير يوسف. وبينما كان الأمير يحاول الوصول إلى حوران، بلغته دعوة الأميرال سميث الذي كان في زيارة بيروت وعلم بما حدث للأمير.
كان سدني سميث أميرال الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، قد اطلع على موقف الأمير بشير المحايد من بونابرت وتفهم موقفه وأسباب عدم إقدامه على تقديم المساعدة لأي من الطرفين، فبادل الأمير بالهدايا والرسائل، وأرسل ابن أخته الجريح ليقيم في ضيافته، ريثما يشفى من جراحه، فأحسن الأمير بشير وفادته وأكرمه. وعندما زار الأميرال سميث بيروت، اجتمع بالأمير بشير في قرية عين عنوب، القريبة من المدينة، واستمع إليه يشكو من طغيان الجزار ونكثه بالوعود. وسعى الأميرال سميث لدى الجزار من أجل تحسين علاقاته بالأمير بشير، فوعده الجزار بتأييد الأمير، ولكنه ما لبث أن نكث بوعده كعادته، بعد أن غادر الأسطول البريطاني ميناء عكا، وكان سميث قد اشتكى لسفارة بلاده التي نقلت الشكوى بدورها إلى الصدر الأعظم، يوسف باشا ضيا، الذي كان قد عبر بلاد الشام مع 100 ألف جندي ووصل حدود مصر.
اتجه الأمير بشير إلى طرابلس حيث استقل مركبا إنكليزيّا نقله إلى بلدة العريش في سيناء، وهناك قابل الصدر الأعظم بحضور الأميرال سميث، فعرض الصدر الأعظم أن يمد الأمير بعشرة آلاف جندي لاحتلال لبنان رغما عن الجزار، ولكن الأمير استبعد هذا الاقتراح واكتفى بوعد من الصدر الأعظم بعزل الجزار بعد عودته من مصر، كما وعده الأميرال سميث بمساعدته عسكريّا إذا اعتزم الجزار المقاومة في عكا. وهكذا اتفق الثلاثة على التخلص من الجزار من ناحية، كما أخذ الإنكليز «يعمقون» علاقتهم بالإمارة اللبنانية.
ولم يستطع الصدر الأعظم أن يفي بوعده، لأنه مني بالهزيمة أمام الجيش الفرنسي، فلم يعد يقوى على الجزار. أما الأمير بشير، فبعد أن تأكد بأن لا وعود الصدر الأعظم ولا مساعي الإنكليز ولا فرمانات السلطان، تمكنه من استعادة الإمارة المفقودة، قرر تجربة حظه مرة أخرى معتمدا على شوق الناس لحكمه بعد تذمرهم من معاملة بدائله لهم. عاد بشير إلى طرابلس ليجد الاضطرابات تعمّ أرجاء لبنان، فقد أساء أبناء الأمير يوسف معاملة الشعب، فثار الناس عليهم، وكان الجزار يُعين أميرا بعد أمير، فانتشرت الفوضى واضطرب حبل الأمن.
ورأى الأمير بشير أن الفرصة مواتية، من غير أن ينتظر مساعدة من الخارج، فجمع أنصاره وبطش بخصومه وجدد توطيد حكمه. وعندما وجد الجزار ان قوة الأمير بشير تتعاظم، وإن اللبنانيين بأكثريتهم يريدونه حاكما، اعترف به حاكما على البلاد بشرط أن يقدم 400 ألف قرش، ضرائب متأخرة عن السنوات الماضية، ونصف مليون قرش جزية سنوية، وكتب إليه بالولاية سنة 1803.
مسجد أحمد باشا الجزار في عكا، دُفن الجزار في قبر مجاور له.
عمل الأمير على إقرار النظام بالبلاد، ولكن قلقه من تقلّب الجزار لم يزل إلا سنة 1804، عندما توفى الجزار، فانتهى بموته الصراع الطويل بينه وبين الأمير بشير، الذي استراح من والي عكا المتقلب، وانصرف إلى توطيد حكمه وترسيخه، مستندا بذلك إلى بعض الطمأنينية التي شعر بها الشعب عند تولي سليمان باشا، خلف الجزار، ولاية عكا، وإلى علاقته الحسنة مع هذا الباشا الجديد.
البطش بالشهابيين المنافسين
أمن الأمير بشير جانب الجزار بموته، وجانب سليمان باشا بإرضائه بالمال، وانصرف إلى تقوية مركزه في الإمارة، وذلك بالتخلص من أقربائه الشهابيين الذين نافسوه أو ناصروا منافسيه على الحكم. وكان في مقدمة هؤلاء أبناء الأمير يوسف الثلاثة، وكان العقاب الذي أنزله بهم قاسيا إذ سمل عيونهم وصادر أملاكهم ومنعهم من الزواج حتى لا يتركوا ذرية. وأقدم سنة 1807 على قتل جرجس باز، وعبد الأحد باز، وكانا مدبرين، أي مستشارين أو وزيرين، لأبناء الأمير يوسف، وقد سعيا في تعكير العلاقات بين الجزار والأمير بشير، ليخدما أبناء الأمير يوسف. وضيّق الأمير بشير على أقربائه من الشهابيين الذين يُحتمل أن يبرز منهم مرشح للإمارة يُخاصم الأمير، وصادر أملاكهم.
إضعاف الإقطاعيين
رأى الأمير بشير أن الإقطاعيين يقاسمونه الحكم، وأن الولاة العثمانيين يتلاعبون بهم، ويوجهونهم كما يريدون، ويتخذونهم وسيلة للتدخل في شؤون لبنان، فعزم على البطش ببعضهم، والحد من نفوذ بعضهم الآخر، وإرغام الجميع على طاعته. ولكنه لم يكن يملك جيشا يقوى على تنفيذ خطته، فأخذ يغتنم فرصة تذمر الشعب منهم، فجردهم من السلطة القضائية، وضيّق من صلاحياتهم، وهكذا تنكر لهم أتباعهم، وأصبح ولاء الشعب للأمير ولاءً مباشرا.
هكذا فعل الأمير بآل الخازن الذين ساعدوا خصومه، فعزلهم عن حكم كسروان، وآل تلحوق وآل عبد الملك إقطاعيي الغرب الذين كانوا يعارضونه، فصادر أملاكهم وضيّق عليهم، والأمراء الأرسلانيين الذين نكّل بهم. بثّ الأمير بشير بهذا، الرعب في قلوب الأقوياء، فهابه الجميع، وساد الهدوء والسكينة والنظام لسنين طويلة ازدهرت خلالها البلاد في الفترة التي يُطلق عليها البعض «عهد الازدهار الشهابي» أو «العهد الزاهر الشهابي».
عهد الازدهار الشهابي
الأمن والقضاء
قبل أن يتمكن الأمير بشير من القبض على الحكم بيديه، كان السفر شاقا، وكان اللصوص يقطعون الطرق. فلما استتبّ له الأمر، طارد قطّاع الطرق، ولاحق المجرمين وأنزل بهم أشد العقاب، حتى ساد الأمن، واطمأن الناس على حياتهم في السفر، فأخذوا يتنقلون في البلاد ليلا ونهارا من غير خوف. وقد تناقل الناس أخبارا كثيرة عن العقاب الصارم الذي كان يُنزله الأمير بشير بكل من ارتكب جرما، كما أن كتب الرحالة الأجانب الذين زارو لبنان في عهد الأمير، حافلة بقصص الأمن السائدة، وكيف استطاع الأمير أن يُطهر البلاد من الخارجين عن القانون. ومن هذه القصص أن امرأة شكت للأمير أن زوجها قد قُتل، فما كان من الأمير إلا أن أنذر أهل القرية التي قُتل فيها الرجل بأن عليهم أن يكشفوا القاتل ويسلموه..وإلا أنزل العقاب بعدد من رجال القرية. وفي خلال ساعات معدودة، كان القاتل بين يدي الأمير ينتظر حكمه.
واحتفظ لبنان في عهد الأمير بطابعه التاريخي المميز، وذلك في ترحيبه بكل لاجئ إليه، راغب في الاستقرار في ظل الحرية. فقد دعا الأمير بشير 400 أسرة درزية، كانت تقيم في ضواحي حلب وتعاني ألوانا من الاضطهاد والضغط من جيرانها، دعاها الأمير إلى الإقامة في لبنان وقدّم لها المساعدة ليتمكن أفرادها من الاستقرار وتأمين شؤون عيشهم. وقد اكتسبت بعض هذه الأسر عند إقامتها في لبنان لقب «الحلبي» إشارة إلى حلب موطنها الأول. ونزحت في عهد الأمير بشير، من منطقتيّ حلب ودمشق أسر عديدة من الروم الكاثوليك، وأقامت في دير القمر، وذوق مكايل قرب جونية.
كانت إجراءات العدالة في عهد الأمير بشير تتم على الشكل التالي: يحكم الأمير بالدعاوى الجنائية والسياسية، وبعض الدعاوى التي تقع بين شخصين من طائفتين مختلفتين، ويحكم رجال الدين بالقضايا الدينية، أما القضايا المدنية التي تخرج عن صلاحيات رجال الدين، فكان يتولاها قضاة مدنيون. وأما القضايا الصغيرة والمخالفات فيحكم بها مخاتير القرى، أي مشايخها. وأراد الأمير أن يكون للبنان قضاء منظم، فاختار عددا من الشباب المتعلم، وأوفدهم إلى كبار فقهاء العصر، فتخصصوا في الفقه والقانون، ثم تولوا مناصب القضاء المدني.
في خريف سنة 1831 وجّه محمد علي جيشا بقيادة ابنه إبراهيم إلى فلسطين، فأخضعها بمساعدة الأمير بشير. ثم حاصر عكا وواليها عبد الله باشا، وبينما كانت تقاوم حصار إبراهيم باشا، كان أبناء الأمير بشير ومعهم جنود مصريون، يسيطرون على صور وصيدا وبيروت وجبيل، ولما استعصت عليهم طرابلس أسرع إبراهيم باشا لنجدة حلفائه، ولم تلبث أن سقطت في أيديهم. وبعد سبعة أشهر من الحصار سقطت عكا واستسلم واليها عبد الله باشا، فأرسله إبراهيم باشا أسيرا إلى والده في مصر. وكانت المرحلة الثانية بعد فتح عكا، الاستيلاء على سوريا الوسطى والشمالية، فتابع الفاتح المصري زحفه نحو دمشق ومعه الأمير بشير وجيشه، فاحتلها. ثم تقدم نحو حمص حيث كان الجيش العثماني يستعد لمجابهته، فاشتبك الفريقان في قتال شديد أسفر عن نصر ساحق لإبراهيم باشا، وسار القائد المصري شمالا فاحتل اللاذقية وأنطاكية وحلب، ثم تابع الزحف حتى بلغ ممر بيلان، بين حلب والإسكندرونة، فدارت معركة أخرى انتصر فيها إبراهيم باشا وحلفاؤه اللبنانيون. وهكذا دانت سوريا الكبرى كلها للفاتح المصري.
بشير في ظل الحكم المصري
إبراهيم باشا، فاتح وحاكم بلاد الشام (1831-1840).
استقبل سكان سوريا ولبنان إبراهيم باشا استقبال المحرر المنقذ من الولاة العثمانيين وظلمهم، واستقبله أنصار الأمير بشير بحماسة وانضموا إلى جيشه، فزودهم بالسلاح، وقد حاربوا تحت لوائه وخاضوا المعارك التي خاضها. أما الحزب الجنبلاطي وبعض الإقطاعيين الذين كانوا يخاصمون الأمير بشير فقد رؤوا فيه خطرا عليهم، إذ أن والده محمد علي كان قد تدخل في مقتل زعيمهم بشير جنبلاط الذي كان والي عكا قد شنقه، لذلك آثر هؤلاء الانضمام إلى العثمانيين، ولما اكتسح إبراهيم باشا بلاد الشام التجأ بعضهم إلى إسطنبول، وبعضهم الآخر إلى قبرص.
وكافأ إبراهيم باشا حليفه بشيرا الثاني على المساعدات التي قدمها إليه أنصاره، فأعاد إليه مكانته السابقة وترك له حرية التصرف في إمارته، فانصرف الأمير بشير إلى إنجاز ما كان قد بدأه، فتابع ملاحقة خصومه من الإقطاعيين وقضى على نفوذهم وصادر أملاكهم وشرّدهم، وأقام على إقطاعاتهم بعض أنصاره وأقاربه. وفي فترة لاحقة، خلال هذا العهد المزدهر، عمم الأمير بشير التلقيح ضد الجدري، بعد أن عني القائد المصري بالناحية الصحية للبلاد.
بعد استقرار الحكم المصري في لبنان، أخذ إبراهيم باشا يفرض قيودا جديدة وزيادة في الضرائب لم يعهدها الناس من قبل، كذلك أنشأ نظام السخرة لاستخراج المعادن من قرنايل وصليما، وفرض التجنيد الإجباري خوفا من عودة الأتراك لاسترجاع بلاد الشام. ولم يكن للبنانيين عهد بمثل هذه الإجراءات الإجبارية، فنفروا ونقموا على إبراهيم باشا وأعوانه، وطالبوا الأمير بشير بالتدخل لوقف هذه الأعمال، ولكن بشير لم يكن في وسعه أن يفعل شيئا، فقد أصبح أداة طيعة في يد إبراهيم باشا يُنفذ سياسته من غير اعتراض. لذلك أصبح الأمير بشير في نظر الشعب مساعدا للباشا في طغيانه.
وفي منتصف سنة 1840 طالب المصريون من الأمير بأن يسترجع من اللبنانيين 16 ألف بندقية كانوا قد تسلموها من المصريين أبان دخولهم بلاد الشام، وذلك لأن إبراهيم باشا كان قد بدأ إعداد الفرق العسكرية تحسبا لمقاومة أي هجوم خارجي أو ثورة داخلية، بعد أن نشط عملاء العثمانيين والأوروبيين في تغذية النقمة ضد الوجود المصري في الشام. وفي مايو 1840 دعا الأمير بشير أهالي دير القمر إلى تسليم سلاحهم تنفيذا لأوامر محمد علي، وكان هؤلاء أوفر أهل الشوف سلاحا؛ لذلك كان البدء بتطبيق هذا الأمر عليهم، يُسهل تطبيقه على سائر المناطق. غير أن أهالي دير القمر رفضوا الإذعان لهذه المطالب وقرروا المقاومة المسلحة، التي ما لبثت أن انتشرت من دير القمر إلى أنحاء لبنان.
وساءت العلاقات بين الأمير بشير وإبراهيم باشا، وكان الأخير يكره الأمير بشير، على العكس من والده محمد علي. فقد تجاهل الأمير أول الأمر هذه الثورة ظنّا منه أنه يستطيع إخمادها متى شاء، وذلك ليُشعر إبراهيم باشا أنه بحاجة إلى الاستعانة به دائما، ولكن ظن الأمير كان في غير محله، فقد أفلت زمام الأمر من يده، بعد أن تعهد عملاء الدول الأوروبية وعملاء العثمانيين هذه الثورة بالتشجيع، والمال والسلاح والمؤن. ولما طالب الأمير الثوار بالتريث والهدوء طالبوه بتحقيق 6 شروط لا يتنازلون عن أي واحد منها، ومن ضمنها إلغاء قرار تجنيدهم في الجيش المصري، وإلغاء السخرة، والعودة إلى نظام الضرائب القديم.
لم يحفل الأمير بشير بمطالب الشعب هذه، فاتهمه اللبنانيون بالأنانية وبخضوعه لسياسة إبراهيم باشا وتخليه عن مصلحة لبنان. والواقع أن الأمير العجوز، الذي كان قد بلغ الثالثة والسبعين، لم يعد يستطع أن يخالف إبراهيم باشا أو يقاومه، فاتخذت الثورة اتجاها جديدا، فأصبح الأمير هدفا من أهدافها. وهنا لجأ إبراهيم باشا إلى اللين، فطلب من الأمير أن يفاوض الثوار، ولكن هؤلاء أصروا على تحقيق مطالبهم كاملة، واجتمعوا في أنطلياس، وكانوا يمثلون جميع الطوائف، وتعاهدوا على أن يكون فيهم «القول واحد والرأي واحد». وبهذا استمرت المعارك والمناوشات بين الثائرين والجيش المصري، ولم يستطع الأمير بشير أن يعمل شيئا، فزج بعض الذين وقعوا بين يديه من رجال الثورة في السجون وصادر أملاكهم، لكن كل ذلك لم يكن سوى حافزا على متابعة الثورة.
نهاية الأمير بشير
في يوليو 1840 بدأت تظهر على شواطئ لبنان وسوريا البوارج الحربية البريطانية والنمساوية، تمهيدا لقصف المدن بحال لم ينسحب المصريون منها، وكان الأوروبيون يهدفون من وراء ذلك إلى دعم العثمانيين ليعودوا إلى حكم البلاد بدلاً من حلول دولة محمد علي القوية وسيطرتها على المنطقة التي تمر فيها طريق بريطانيا إلى الهند. وفي الوقت نفسه كان عملاء البريطانيين والعثمانيين ينشطون لحث الثائرين على مواصلة المقاومة ضد الأمير بشير والمصريين، وهم يعدونهم بعهد جديد يحقق آمالهم في الرخاء والحرية والاستقلال. ووجه قائد الأسطول الحليف، الأميرال البريطاني تايير، إنذارًا إلى رئيس أركان الجيش المصري يدعوه فيه إلى تسليم بيروت، ولكن سليمان باشا الفرنساوي، الذي كانت بيروت مقر قيادته، رفض الإنذار. وعلى الأثر أخذت البوارج الحليفة تقصف بيروت وطرابلس وصيدا وصور وجبيل وعكا، وفي الوقت نفسه بدأت قوات عثمانية وبريطانية ونمساوية تنزل على شاطئ جونية، فانضم إليها عدد من الثوار اللبنانيين.
عندئذ رأى سليمان باشا الفرنساوي أن ينسحب بقواته المصرية من المدن الساحلية إلى بحرصاف، قرب بلدة بكفيا، حيث كان إبراهيم باشا يحاول تنظيم جيشه، ولكنه اضطر إلى التراجع إلى البقاع ثم دمشق. وبعد سقوط عكا، أمنع موقع ساحلي، يئس إبراهيم باشا من التغلب على الجيوش العثمانية والأوروبية، فلم يجد بدًّا من أن ينسحب بقواته إلى مصر، تاركًا لوالده محمد علي معالجة الموقف عن طريق المفاوضات.
على إثر نزول القوات الحليفة على ساحل جونية، أيقن الأمير بشير أن المصريين فقدوا سيطرتهم على البلاد، ولكنه لم يتخلّ عنهم حتى في ساعاتهم الأخيرة، حيث أنه لم يقبل أن يخون المعروف والصداقة التي جمعته بمحمد علي، فواصل تعاونه معهم، ورفض دعوة من العثمانيين والبريطانيين بالوقوف إلى جانبهم. فلما انسحب إبراهيم باشا، آثر الأمير مغادرة البلاد، فترك بيت الدين إلى صيدا، حيث نقلته بارجة بريطانية مع أسرته وحاشيته، إلى جزيرة مالطة، المستعمرة البريطانية.
وفي مالطة تلقى الأمير فرمانًا من السلطان العثماني، عبد المجيد الأول، بالعفو عنه، وبالسماح له أن يقيم في أي مكان يشاء خارج لبنان، فأرسل الأمير ابنه أمينًا إلى إسطنبول ليستطلع أحوالها. ولم يلبث الأمير أن انتقل إليها بعد أن أمضى في مالطة 11 شهرًا، وقد غضب الإنكليز لسفر الأمير إلى إسطنبول. وفي سنة 1845 وقعت فتنة في لبنان، فنقل العثمانيون الأمير بشير إلى داخل الأناضول. وعلى أثر اتصالات سفيريّ فرنسا والنمسا بالباب العالي، نُقل الأمير إلى بروسه ثم إلى إسطنبول حيث توفي سنة 1850.
وهكذا انتهت حياة الأمير بشير الثاني، أكبر الأمراء الشهابيين، في منفاه بإسطنبول، كما انتهت من قبل حياة الأمير فخر الدين المعني الثاني، أكبر الأمراء المعنيين، بمقتله في منفاه بعاصمة السلطنة. حفلت حياة الأمير بشير بالأحداث السياسية والانقلابات الدولية. وفي أواخر سنة 1947، أي بعد سبع وتسعين سنة من وفاة الأمير الشهابي، نقلت الحكومة اللبنانية رفاته من إسطنبول إلى بيت الدين، حيث دفن في قصره قرب ضريح زوجته «الست شمس».!!!!!!!