مثل هذا اليوم 15أكتوبر1918م..
بلقاسم النكادي ينتصر على الفرنسيين في معركة البطحاء.
في منذ أن وطئت قوات الاحتلال الأوروبية أرض المغرب، لم تخلُ تلك الأخيرة من مقاوم. ففي كل شبر من ترابها تجد رجالاً ونساءً عانقوا بنادقهم التقليدية، وتحملوا الجوع والعطش، صبروا على محن الفتك والتقتيل، متعهدين بأن لن يمنعهم من الحرية إلا ارتواء التراب بدمائهم.
وظهر في الشمال المغربي المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي ومحمد أمزيان، وفي الوسط على جبال الأطلس موحا أو حمو الزياني، وعسو أوبسلام في منطقة تنغير جنوب شرقي المغرب. ومنطقة تافيلات هي الأخرى عرفت رجلاً من طينة من سبقوا، قائداً ثوريا نظَّم المقاومة ضدّ الاحتلال وقادها، قبل مبايعته سلطاناً للجهاد.
ميلاد المقاوم
لم يوثَّق بالضبط تاريخ ميلاد بلقاسم النكادي، لكنه عاش أواخر النصف الثاني من القرن 19م بشرقيّ المغرب وترعرع هناك. وقيل إن اسمه أبو القاسم البوزكاوي الزروالي الإدريسي، وفي الرواية الشعبية بلقاسم النكادي، نسبة إلى سهل أنكاد المحاذي لمدينة وجدة (شرقي البلاد).
بنهاية ذلك القرن كانت المنطقة تعرف تمرُّد الروكي بوحمارة، ذلك المنشق عن “دار المخزن” (السلطة المركزية في المغرب) الذي جمع بين الدجل والتدليس في نسبه والتعاون مع الاستعمار في سبيل الاستحواذ على ملك البلاد. حارب النكادي في صفوف قوَّات بوحمارة، إلى أن سقط تمرُّده سنة 1909، ليتوجَّه بعدها المقاوم جنوباً نحو تافيلالت.
وقتذاك كان في تافيلالت رجل اسمه مبارك التوزونيني ينظِّم المقاومة ضد الاحتلال الذي بدأ يتخلل المنطقة. يقال إنه من أصل يهودي وأسلم، فأخذ يعظ الناس ويحرّضهم على الجهاد بحزم وشدة، لدرجة أن الناصري وصفه في “الاستقصا” قائلاً: “سلك بأهل تافيلالت مسلك الحجاج (ابن يوسف الثقفي) بأهل العراق”.
ويذكر المختار السوسي في “المعسول” أن التوزونيني اشترى فرساً وربطها بقبة “وليّ صالح” على نية الجهاد، خاطباً في الناس أنه من علامات الإذن بالجهاد أن تصبح الفرس ذات يوم مُسرَجة ومُلجَمة، في إشارة إلى ميله الصوفي وتأثره بطريقة الناصرية والدرقاوية، طُرُق كان بلقاسم النكادي هو الآخر متأثراً بها، مما جمع بين الرجلين إلى أن نصّب الأول الثاني وزير حربيَّته.
معركة البطحاء
إثر توقيعها عقد الحماية على البلاد سنة 1912 وتغلغلها في كل مفاصلها، نصَّبت السلطات الاستعمارية على رأس منطقة تافيلالت حاكماً يُدعى “لوستري”. وكان هذا القائد يتقن اللغة العربية، عارفاً بتعاليم الدين الإسلامي، رغم هيئته الأوروبية، ظهر بمظهر “ابن البلد الذي يعرف مداخلها ولا يخفى عنه خافية فيها” يقول المختار السوسي.
ويضيف الفقيه والمؤرخ المغربي أنه “هكذا عرف لوستري البلاد وطرقها ومداخلها ومخارجها وعاداتها، فما كاد الجيش الفرنسي يُقبِل إليها لاحتلالها حتى تعين رئيساً عليه، فاحتل البلاد بسرعة، ثم صار يدير الأمر إدارة من لا يفزع له بالعصا”. وبالتالي كانت الإطاحة بلوستري الشرارة التي أراد منها التوزونيني إطلاق الجهاد، فبعث أحد جنوده مندسّاً لاغتياله.
نجحت العملية الفدائية التي دبَّر لها التوزونيني، فأصبحت فرسه مُسرَجة ومُلجَمة في إشارة إلى انطلاق حملة جهاد. وتلقى الفرنسيون خبر مقتل لوستري بالصدمة، وأبَّنوه قائلين إن قتله “يُعادل قتل ثُلث الفرنسيين”.
حميت في أهل تافيلالت حماسة الجهاد، وتحرَّك بلقاسم النكادي على رأس 300 مقاوم في إغارة على معسكر القوات الفرنسية، غير أن الفرنسيين كانوا مستعدين جيداً لهذا الهجوم المتردِّي العتاد فردُّوا على المقاومين بوابل من القنابل والقصف المدفعي حتى انكسر صفهم وتراجعوا. مزهوين بذلك الانتصار الأولي استمرّت القوات الفرنسية في ملاحقة المقاومين، الذين باغتوهم في منطقة تُدعى البطحاء، لتندلع المعركة التاريخية.
في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1918، هاجمت قوات بلقاسم النكادي الفرنسيين في منطقة البطحاء بغتتة، متحينين العاصفة الصحراوية التي كانت تضرب المنطقة، معتمدين على عنصر المفجأة من أجل خلخلة خطوط العدو. نجح المقاومون في خلق الفوضى بين الجنود الفرنسيين، الذين صاروا يقتل بعضهم بعضاً وسط عتمة الغبار وهياج المعركة. فكان النصر حليف المغاربة الذين فتكوا بعشرة ضباط وأزيد من 1200 جندي فرنسي، وحازوا غنائم وأسلحلة كثيرة. فأصبحت بعدها تافيلالت محرمة على المستعمر وبقيت كذلك عشر سنين بعدها.
نهاية بلقاسم
كانت طموحات مبارك التوزونيني أشبه بطموحات بوحمارة، أي كانت عينه على تأسيس سلطان في منطقة تافيلالت. غير أن الأول يختلف عن الثاني في عدم استقوائه بالاستعمار أو بيعه مقدارات المغاربة له كما فعل بوحمارة مع منجم الحديد بجبل ويكسان (الشمال الشرقي). لكن التوزونيني عمل على تصفية أي منافسة محتمَلة له على السلطان في تافيلالت، وبالتالي عاث تقتيلاً في الشرفاء العلويين بالمنطقة وقياد المخزن بها.
سياسات كان يعارضها بلقاسم النكادي، وهذا ما خلق الخلاف بينه وبين أميره، الذي عمل على إذلاله أمام الملأ وإهانته باستمرار، إلى أن ثارت ثورة النكادي فحمل بندقيَّته وأردى التوزونيني قتيلاً سنة 1919. وبعد وفاته التفّت القبائل حول النكادي وبايعوه سلطاناً لجهادهم.
ظلت مقاومة النكادي سدّاً منيعاً أمام تقدُّم الفرنسيين إلى تافيلالت واحتلالها. لكن سرعان ما تَسرَّب الوهن إلى صفوفها بفعل النزاعات القبلية وضعف إمداداتها، فحاول النكادي إنقاذها معتمداً على الحراطين (العبيد المحررين) وتحريضهم على أسيادهم من أجل توفير التمويل لمجهوده الحربي.
في ظل ذلك الاضطراب استغلت القوات الفرنسية الفرصة لشَنّ هجوم من أجل إخضاع قبائل تافيلالت، فتقهقر النكادي إلى وادي درعة، إلى أن استسلم سنة 1935، وكان آخر من يسلّم سلاحه من المقاومين المغاربة. عاد بعدها إلى الشرق المغربي منفياً بمنطقة تاندرارة ذات المناخ القاسي، قبل تحريره عقب الاستقلال ليُتوفّى في صمت سنة 1962 بمدينة العيون الشرقية.!!!