جدلية الاغتراب في الفلسفة “الفلسفة اليونانية”
الجزء الأول
د/آمال بوحرب
كاتبة وباحثة تونسية
يقول فريدريك نيتشه في كتابه هكذا تكلم زرادشت”أنتِ وطني أيتها العزلة، لقد طال اغترابي في بلاد المتوحشين فها أنذا أعود إليك وعينايَّ تذرفان الدموع “وهي رؤية واضحة بان فكرة الاغتراب، خاصة من خلال مفهوم “موت الإله” قضية وجودية بدرجة اولي إذ أن القيم التقليدية التي كانت تحكم المجتمعات قد فقدت تأثيرها، مما أدى إلى شعور بالأزمة والاغتراب لدى الأفراد. وفي نظر نيتشه، يجب على الأفراد إعادة تقييم قيمهم وصياغة معاني جديدة في حياتهم لمواجهتها ولكن تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الاغتراب مفعوم معقد يتناول الشعور بالانفصال أو الفقدان للترابط مع الذات أو مع المجتمع منذ بداية التفكير فهل من البديهي أن تحمل النصوص همّ التحرر من الاغتراب وهل المقصد هو الاغتراب في تاريخ الفلسفة عن التاريخ الحيّ، أو الاغتراب في التاريخ الحيّ عن تاريخ الفلسفة” ؟
في الفلسفة اليونانية لم يتم تناول هذا المفهوم بشكل مباشر كما هو الحال في الفلسفات الحديثة ولكن يمكن تفسير بعض الأفكار الفلسفية القديمة كإشارات إلى حالات من الاغتراب من خلال استكشاف مجموعة من الأفكار والمفاهيم يقول هيرقطليس “لا يمكنك أن تخطو في نفس النهر مرتين ليبرز فكرة التغيير المستمر في العالم، والتي يمكن أن تؤدي إلى شعور بعدم الثبات وعدم الانتماء وفي سياق الفلسفة اليونانية فإن اهتمام سقراط بمعرفة الذات – “اعرف نفسك” – يعكس أن عدم الوعي الذاتي قد يؤدي إلى حالة من الاغتراب إذا لم يعرف الفرد نفسه، يمكن أن يشعر بالانفصال عن قيمه الحقيقية ومعاني حياته أما أفلاطون، الفيلسوف الإغريقي القديم، يعتبر من أبرز المفكرين الذين تناولوا موضوع الاغتراب، رغم أنه لم يتناول هذا المفهوم بشكل مباشر كما نفهمه اليوم. ولكن يمكن فهم نظرته إلى الاغتراب من خلال عدة أفكار ومفاهيم رئيسية في أعماله، خاصة في حواراته مثل “الجمهورية” و”فايدروس” يرى أفلاطون أن الكثير من الناس يعيشون في حالة من الاغتراب بسبب جهلهم بالحقيقة وفي أسطورة الكهف الشهيرة، يُظهر كيف أن الناس يتشبثون بالظلال الموجودة على الجدار، ويبقون أسرى لأوهامهم. يقول أفلاطون في هذا السياق”إن الإنسان الذي يُحرر من قيود الجهل ويتجه نحو النور، يُصدم في البداية، ولكنه مع الوقت يدرك الحقيقة.”
ولقد أشار إلى الاغتراب الاجتماعي، حيث يعتقد أن الأفراد في المجتمع لا يستطيعون تحقيق ذواتهم الحقيقية في ظل نظام اجتماعي غير عادل. في “الجمهورية” يدعو إلى إقامة المدينة الفاضلة حيث يعيش الأفراد في تناغم مع العدالة وفي سياق آخر يتناول فكرة الاغتراب عن النفس حيث تعيش الروح في صراع مع الجسد والرغبات ويعبر عن ذلك من خلال مفهوم “الروح الثلاثية” التي تتكون من العقل والرغبة والإرادة إذ يعمل العقل على تحقيق التوازن بين هذه الأجزاء، ويشير إلى أهمية الحكمة لتحقيق التناغم الداخلي يقول أفلاطون :”الحكمة هي التي تقود النفس إلى تحقيق الذات، وتحريرها من أغلال الشهوات.”
أي أن الاغتراب عنده مشكلة وجودية تتعلق بالجهل والظلم وعدم التوازن الداخلي ويوصي بالبحث عن الحقيقة والمعرفة والعدالة كسبيل للخروج من حالة البعد هذه ويدعو إلى الفهم العميق للواقع ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية لتحقيق الذات الحقيقية حين تحدث عن نظريته حول “عالم الأشكال” قدم معنى عميقًا للانفصال بين العالم المادي والعالم المثالي فالعالم المادي مجرد ظلال أو تمثيلات ناقصة للأشكال المثالية والأفراد الذين يعيشون فيه يجهلون العالم المثالي و قد يشعرون بنوع من الاغتراب؛ لأنهم يجهلون الحقيقة المطلقة والكمال غير أن أفكار أرسطو حول الوجود جاءت بمفهوم جديد اذ ترى أن الكائنات الحية تسعى نحو تحقيق ذاتها وفقًا لطبيعتها فإذا كان هناك انحراف عن هذا السعي الطبيعي، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى شعور بالاغتراب إذ أن المجتمع وفقًا لأرسطو، يلعب دورًا مركزيًا في تحقيق الذات لذا فإن الانفصال عن المجتمع يمكن أن يساهم في هذا الشعور. ولعل تغيير النمط الاجتماعي والفكري جعل الفلاسفة الرواقيون مثل “سنتيانا “وماركوس أوريليوس “يحددون الاغتراب كحالة تنتج عن عدم قبول الأفراد للواقع لما يواجهونه في الحياة ولقد أكدوا على أهمية التحكم في النفس والانسجام مع الطبيعة، وأي مقاومة لهذا التوافق قد تؤدي إلى الاغتراب والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق ماهية الاغتراب الإجتماعي ومدى تأثيره في توسيع الهوة بين الفكري الروحي والواقع المتحول ؟
إن الاغتراب الاجتماعي مفهوم يعبر عن شعور الفرد بالانفصال أو العزلة عن مجتمعه أو جماعته .
لقد ساهمت عوامل عديدة في الاغتراب الاجتماعي منها الاختلافات الطبقية اذ أن انقسام المجتمع الإغريقي إلى طبقات متعددة، مثل النبلاء والفلاحين والعبيد أدى إلى شعور الأفراد بالعزلة نتيجة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية خاصة أن الحياة السياسية والتي تمثلت في الديمقراطية في أثينا مثالاً بارزاً، ولكنها أيضاً استثنت الكثير من السكان مثل النساء والعبيد أدى هذا التباين والاستبعاد إلى الشعور بالاغتراب لمن لا يتمتعون بحقوق المشاركة السياسية كما أن الصراعات و الحروب المستمرة بين مدن اليونان (مثل الحروب البيلوبونيسية) قد تسبب شعور بالانفصال وعدم الاستقرار أثرت على الروابط الاجتماعية فتشتت الهوية الشخصية وخاصة مع تطور الفنون والأدب، بدأ الأفراد في التفكير بشكل أعمق في هويتهم ومكانتهم في العالم، ويمكن القول إن الاغتراب الاجتماعي عند الإغريق لم يكن مجرد ظاهرة فردية، بل كان له أبعادا اجتماعية وثقافية وسياسية واسعة أثرت في تكوين الهوية الإنسانية في ذلك العصر
ولكن إلى اي حد يصح القول بان الفلاسفة اليونانيون الم يتناولوا مفهوم الاغتراب بمصطلحات المعاصرة، إلا أن أفكارهم حول الذات والعالم والمجتمع تعكس جميعها جوانب من التجربة البشرية التي ترتبط به وهل تكشف هذه التأملات عن فهم عميق للوجود الإنساني وتعكس البحث المستمر عن الهوية والمعنى؟ علينا أن نبحث قليلا في التاريخ لنطرح سؤالا هاما
ما الذي يجعل الاغتراب قضية وجودية رغم التطور الهائل الذي يشهده الفكر الإنساني ؟