في مثل هذا اليوم25اكتوبر1973 م..
نيجيريا تقطع علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل لتصبح الدولة الأفريقية الثامنة عشر التي تقطع علاقاتها معها بعد حرب أكتوبر.
ستبقى تبعات وتداعيات حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، حاضرة على مرّ العقود، متجاوزةً آثارها الجغرافيا السياسية العربية، والقراءات العسكرية والأمنية، لتحطّ رحالها في واحدة من أهم ساحات الصراع والتنافس، هي القارة الأفريقية، وقد تمدّدت آثار حرب أكتوبر إلى هناك وما زالت حاضرة، ويؤرّخ لها كمرحلة مفصلية في العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية، وكان أبرز النتائج قطع الطريق على “تل أبيب” وانكماش حضورها أفريقياً.
الطريق إلى الاختراق الإسرائيلي لأفريقيا
تُعد فترة الخمسينيات من القرن الماضي سنوات العلو الإسرائيلي في القارة الأفريقية، وعندما أعلن الاحتلال عن قيام كيانه نال أوّل تأييد أفريقي عام 1947 من ليبيريا التي صوّتت لصالحه، بينما كانت غانا أول دولة أفريقية يفتتح فيها كيان الاحتلال سفارة له عام 1957.
وتعد الفترة من 1948 حتى نكسة العام 1967، والتي تسمّيها بعض الأدبيات بفترة “الصعود والتغلغل”، فترة تأسيس العلاقة بين كيان الاحتلال والدول الأفريقية، وقد توسّعت العلاقات في تلك الفترة حتى نجح كيان الاحتلال في إقامة علاقات مع 33 دولة أفريقية.
يمكن التأريخ لبداية الانطلاقة الحقيقية لـ “إسرائيل” في أفريقيا بعام 1957؛ حيث كانت “إسرائيل” أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في “أكرا” بعد أقلّ من شهر من حصول غانا على استقلالها عن بريطانيا. وقد أدّت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً هاماً في افتتاح مرحلة دبلوماسية جديدة؛ حيث تمّ افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري تحت تأثير إمكانية الحصول على مساعدات تنموية وتقنية من “إسرائيل”. وفي العام التالي 1958 قامت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك “جولدا مائير” بزيارة أفريقيا لأول مرة، واجتمعت بقادة كلّ من ليبيريا، وغانا، والسنغال، ونيجيريا، وكوت ديفوار.
وعندما عقد المؤتمر الأول للبلاد الأفريقية المستقلة عام 1958 في أكرا بدعوة من الرئيس نكروما؛ رفضت غالبية الدول المشارِكة في المؤتمر تأييد مقترح مصريّ يتضمّن وصف “إسرائيل” بالعنصرية والإمبريالية، وكانت تلك إشارة مهمة على مدى التغلغل الإسرائيلي وتأثيراته على المواقف الأفريقية، وبحلول عام 1966 كانت “إسرائيل” تحظى بتمثيل دبلوماسي في أغلبية الدول الأفريقية. لم يستمرّ صعود التغلغل والنفوذ الإسرائيلي كثيراً حيث تعرّض لانتكاسة كبرى عقب حرب العام 1967.
حرب 1967 من الصعود الإسرائيلي في أفريقيا إلى الانتكاسة
شكّلت حرب 1967 تطوّراً مهماً في تاريخ التنافس الإسرائيلي العربي في أفريقيا، حيث نظر الأفارقة إلى “إسرائيل” بوصفها قوة احتلال تحتل أراضي دولة أفريقية. ومع تصاعد الدعم العربي لحركات التحرّر الوطني في الجنوب الأفريقي، وخيبة أمل القادة الأفارقة من الدول الغربية لعدم مساعدتها في تنفيذ الخطة الأفريقية الرامية إلى عزل جنوب أفريقيا والبرتغال وروديسيا، ازدادت حدة الانتقاد الأفريقي للعدوان الإسرائيلي.
مثلما كان عام 1967 ذروة النشاط الإسرائيلي في أفريقيا إلا أنه كان أيضاً بداية التدهور الفعلي للعلاقات الإسرائيلية الأفريقية. يرجع ذلك إلى مؤثرات التقارب العربي الأفريقي وقيادة مصر ممثّلة في الرئيس جمال عبد الناصر لمشروع التحرر الوطني في أفريقيا، مما زاد من شعبية مصر وقيادتها في تلك الفترة إلى أن اندلعت حرب 1967، إضافة إلى التغييرات التي طرأت على الخريطة السياسية لأفريقيا منذ الستينيات.
وقد ساهمت كلّ هذه الأسباب في كشف حقيقة “إسرائيل” ونواياها التوسعية في أفريقيا، مما ساهم في بلورة الموقف الأفريقي الجديد الذي يتسم بالرفض الجماعي لـ “إسرائيل” واعتبارها كياناً معتدياً محتلاً لأرض دولة عربية.
بعد حرب حزيران 1967 بدأت صورة “إسرائيل” تهتزّ في أذهان القادة الأفارقة؛ فبعد أن كانت منظّمة الوحدة الأفريقية تتجنّب إدانة “إسرائيل”، بدأ موقفها بالتغيّر التدريجي؛ فأخذت تطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة. واستمر هذا الوضع يشهد صعوداً وهبوطاً حتى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، التي كانت مرحلة فاصلة ومفصلية في تاريخ العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية.
حرب تشرين 1973 “إسرائيل” من الانتكاسة في أفريقيا إلى القطيعة
مع ازدياد التقارب العربي – الأفريقي، وإزاء التعنّت الإسرائيلي؛ عقب حرب العام 1967، بدأت منظمة الوحدة الأفريقية تتخذ قرارات أكثر حزماً وصولاً للقرار الذي اتخذته المنظمة الأفريقية في أيار/مايو 1973، والذي تضمّن تحذيراً رسمياً لـ “إسرائيل” بأن رفضها الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الأفريقية وتهديداً لوحدتها، وأن الدول الأعضاء في منظّمة الوحدة الأفريقية تعتبر نفسها مدعوّة لأن تأخذ منفردة أو بصورة جماعية أيّ إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة لصد ذلك العدوان. وقد مثّل هذا القرار نقطة تحوّل إيجابية في تطوّر رؤية أفريقيا للصراع العربي – الإسرائيلي. وبعد القرار مباشرة سارعت 8 دول أعضاء في المنظمة إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل”.
كانت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 فاصلة في تاريخ العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية، حيث بادرت معظم الدول الأفريقية بقطع علاقاتها مع “إسرائيل”. وكانت بعض الدول الأفريقية قد اتخذت قراراً بقطع العلاقات مع “إسرائيل” قبل حرب أكتوبر، على سبيل المثال قرّر الزعيم الغيني أحمد سيكو توري، الذي كان مقرّباً جداً من مصر، قطع العلاقات في عام 1967 بعد حرب الأيام الستة. كما قطعت الكونغو وتشاد والنيجر ومالي وبوروندي العلاقات مع “تل أبيب” خلال الفترة ما بين عامي 1972 و1973، أي قبل حرب أكتوبر 1973.
استمر الانحدار في شكل العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية حتى اندلعت حرب أكتوبر 1973 وظهر فيها التضامن الأفريقي مع العرب ممثّلين في مصر وسوريا خاصة في منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية. عندما عقدت منظمة الوحدة الأفريقية اجتماعاً استمر 3 أيام في أديس أبابا حضرته 42 دولة أفريقية وعربية لمناقشة تأثيرات الحرب على أفريقيا، وانتهى الاجتماع بقرار المجتمعين الذين دعوا فيه جميع الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية إلى فرض حظر اقتصادي على “إسرائيل” والبرتغال وجنوب أفريقيا، ودعا البيان إلى إقامة علاقات وثيقة للتعاون بين أعضاء منظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية.
جاءت حرب أكتوبر 1973 لتُحدث انقلاباً نوعياً آخر في الموقف الأفريقي؛ إذْ كانت “إسرائيل” قبل الحرب تقيم علاقات دبلوماسية مع عدد كبير من الدول الأفريقية، بيد أنها بعد الحرب خسرت معظم تلك العلاقات، ليتقلّص عدد الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها في مطلع الثمانينيات ليصل إلى 5 دول فقط هي: جنوب أفريقيا، والدول الأربع التي تدور في فلكها، وهي ليسوتو، ومالاوي، وسوازيلاند، وبوتسوانا.
تمدّد مفاعيل حرب أكتوبر في القارة الأفريقية
تمدّدت العلاقات العربية – الأفريقية وتطوّرت عقب حرب أكتوبر 1973، وفي العام التالي 1974 اختير الرئيس الجزائري “هواري بومدين” رئيساً لحركة عدم الانحياز، وأثناء مؤتمر الحركة الذي عُقد في الجزائر في العام نفسه اتخذ المؤتمرون قرارات تؤيد كلاً من مصر وسوريا والأردن في استعادة أراضيها المحتلة، كما تدعو إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”. وكانت كلّ من كوبا وزائير وتوجو من أوائل الدول التي تستجيب لدعوة المقاطعة تلك.
وفي العام نفسه رُشّح وزير الخارجية الجزائري آنذاك “عبد العزيز بوتفليقية” رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد استطاع العرب بذلك الاستفادة من زخم حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وتداعياتها على المنطقة، خاصة بعد قرار المقاطعة النفطية، وتمكّنوا من إضفاء مزيد من الشرعية الدولية على منظمة التحرير الفلسطينية؛ وقد تمثّل ذلك في دعوة ” ياسر عرفات” لإلقاء خطابه لأول مرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومعاملته معاملة رؤساء الدول، وذلك بشكل غير مسبوق في تاريخ المنظّمة الدولية. الأمر الذي أفضى بالمزيد من الدول الأفريقية لقطع علاقتها بـ “إسرائيل”.
وفي العام ذاته رحّب مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في الجزائر 1973 بعودة العلاقات العربية مع الدول الأفريقية، وأشاد بتعاون منظمة الوحدة الأفريقية، ثم جاءت دعوة مؤتمر القمة العربي في الرباط 1974، لعقد مؤتمر قمة عربي أفريقي مشترك، لتمثّل نقطة تحوّل مهمة في علاقات التعاون العربي الأفريقي، وإشارة واضحة لاهتمام الدول العربية بتمتين روابطها مع الدول الأفريقية، والدخول في مرحلة جديدة من التعاون العربي – الأفريقي، أثمرت بانعقاد مؤتمر قمة التعاون العربي الأفريقي عام 1977 في القاهرة.
التعاون العربي الأفريقي ينجح في عزل “إسرائيل”
كان للتعاون العربي – الأفريقي تأثير عكسيّ على العلاقات الأفريقية – الإسرائيلية؛ خاصة بعد قرار المنظمة الأفريقية في أيار/مايو 1973، والذي تضمّن تحذيراً لـ “إسرائيل” بأن رفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الأفريقية وتهديداً لوحدتها. وأن الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية تعتبر نفسها لذلك مدعوّة لأن تأخذ ـ منفردة أو بصورة جماعية ـ أيّ إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة وصد ذلك العدوان. وكان هذا القرار نقطة تحوّل في تطور رؤية أفريقيا للصراع العربي – الإسرائيلي.
إضافة لما سبق فقد نجحت الحملة العربية الرامية إلى عزل “إسرائيل” في استصدار قرار من الجمعية العمومية يصفها بالعنصرية، وما ساعد على نجاح الحملة مواقف “إسرائيل” نفسها التي اتسمت بالسلبية؛ وأهمها دعم “إسرائيل” للحركات الانفصالية الأفريقية مثل حركة “بيافرا” في نيجيريا، وحركات الانفصال في جنوب السودان، إلى جانب دعمها وتأييدها المعلن لنظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وتأييدها احتلال ناميبيا، وحكم الأقلية البيضاء في روديسيا.
ومع مطلع الثمانينيات كانت “إسرائيل” قد خسرت القارة الأفريقية، وتقلّص تمثيلها الدبلوماسي إلى أقصى حد. وبالتالي لم ينعكس التقارب العربي – الأفريقي سلباً فقط على العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية، بقدر ما يمكن اعتباره عاملاً أساسياً في الحد من التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا.
هذه المعادلة يؤكدها “آريه عوديد” الدبلوماسي الإسرائيلي في أفريقيا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، في كتابه “إسرائيل وأفريقيا”، مشيراً إلى التأثير المتراكم لقرارات منظمة الوحدة الأفريقية المعادية لـ”إسرائيل”، منذ 1970، والتي بلغت ذروتها بقرارات المنظمة في الرباط 1972، ويؤكد أن ذلك كانت له نتائج خطيرة عشية حرب أكتوبر 1973، خاصة حين أعلن الرئيس الزائيري موبوتو قطع العلاقات مع “إسرائيل” في 4 أكتوبر 1973.
ويتابع عوديد : “كان قرار موبوتو صفعة قوية لـ “إسرائيل”، لأن زائير كانت دولة مركزية ومهمة وتعتبر من الدول الصديقة جداً لها في أفريقيا، وزار موبوتو “إسرائيل”، وتدرّب فيها على القفز بالمظلات، كما أن وحدة حراسته الشخصية ووحدات النخبة في جيشه تدرّبت على يد الضباط الإسرائيليين”. ويقول عوديد في كتابه “لا عجب في أن منظمة الوحدة الأفريقية، التي سبقت الاتحاد الأفريقي، هي التي حدّدت الأيديولوجية التأسيسية لـ “إسرائيل”، كشكل من أشكال العنصرية في دورتها العادية الـ 12 التي عقدت في كمبالا عام 1975”.
فشل “إسرائيل ” في التعافي من آثار حرب أكتوبر
والملاحظ أن حركة المد والجزر في العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية ارتبطت بتطوّر الصراع العربي الإسرائيلي، فالمقاطعة الدبلوماسية الأفريقية لـ “إسرائيل” في السبعينيات ومعظم سنوات الثمانينيات، ثم العودة الكاسحة لهذه العلاقات منذ بداية التسعينيات ارتبطت بمجموعة أحداث في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، أهمها وأولها حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، من دون التقليل من نتائج حرب العام 1967، والحدث الثاني الذي أفضى إلى تحوّل عكسي في العلاقات العربية – الأفريقية مقابل العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، زيارة السادات للقدس المحتلة عام 1977،ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد الأولى عام 1979، والحدث الثالث والأخطر انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
وإذا كانت حرب أكتوبر 1973 قد أفضت لمزيد من التعقيدات في محددات العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، فإن مبادرات التسوية السلمية في المنطقة أدت إلى عملية تحوّل في محدّدات العلاقة وإذابة كل تلك التعقيدات.
قد تكون “إسرائيل” استطاعت ترميم علاقاتها بالقارة الأفريقية، لكنها حتى اللحظة لم تتعافَ من تداعيات وتبعات ما أحدثته حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ويمكن قياس ذلك من خلال مراقبة ومتابعة النفوذ السياسي لـ “إسرائيل” في تحديد مواقف الدول الأفريقية، وتحديداً تجاه القضايا المتعلقة بفلسطين. ومثال ذلك أنه عندما تم التصويت على القرار 67/19 والذي يمنح فلسطين وضع دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، صوّتت 47 دولة أفريقية لصالح تبنّي القرار. لم تصوّت أي دولة أفريقية ضد القرار.
مثال آخر على استمرارية تمنّع القارة الأفريقية تجاه “إسرائيل” وضعف النفوذ أنه حتى اللحظة لم تفلح “إسرائيل” في عقد قمة كبرى مع رؤساء الدول الأفريقية، حتى عندما ادّعت في تشرين الأول/أكتوبر 2017، بأن لومي عاصمة توغو ستستضيف القمة الأولى الأفريقية – الإسرائيلية أُلغيت القمة في اللحظة الأخيرة نتيجة تهديدات بالمقاطعة. واعترفت “إسرائيل” بأن إلغاء القمة جرى تحت ضغوط فلسطينية وعربية وأفريقية؛ رفضاً للتغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية. وختام الأمثلة على إفلاس محاولات “نتنياهو” التسلل للقارة الأفريقية، ما حدث في شباط/ فبراير الماضي عندما طُردت سفيرة “إسرائيل” من قمة الاتحاد الأفريقي.!!!!!!!!!!!!!!!!!!