🔖🔖دراسة تحليلية تفكيكية لرائعة المبدع الأستاذ رضا عبادة.. (وجهان لرجُل واحد).. أعدها الأستاذ / أحمد فاروق بيضون – مصر 🌹:
////////////////…………… ////////////////////
(وجهان لرجل واحد) هي رواية بوليفونية متعددة النغمات السردية بين الواقعية والملحمية التاريخية والغرائبية الرمزية والبوليسية؛ عتبةالعنوان العبقرية التي استهلّ بها الروائي الأيقوني الاستاذ (رضا عبادة) مذاك الغلاف الذي طوق صفحاته الموسوم بالعبقرية في الرسم التصويري للوجهين لبطلين بوجهين مختلفين ولكنهما نفس الرجل بمروءته وجسارته.. فلا يخشى كلاهما في الحق لومة لائم.. فهما صنوان تناسخت أرواحهما في توأمة عبقرية لشخصين ..( المِعماريّ عمّار بن ياسر والطبيب الشّهم ياسين ).. فقد أصبحا في جسد واحد كشكل من أشكال التخاطر والتليباثي Incarnation أو الارتحال الظاهري والضمني في مكنون حشاشهم ومعين الكيان – فالمواقف رجالات وهذا ما سيتجلى في الأحداث تباعاً كما سنرى.
بان كالشمس البلجاء ما ذكره الروائي في إهدائه إلى كل الامهات وكل الاناث من الثكالى ومن فقدن فلذات أكبادهن من أمتنا من قطار شهدائنا الأبرار دفاعا عن حياض الأوطان، ونراه يخاتل أحاسيسنا في استجداء عبقري بأبيات شعرية تمهدنا لثيمات تظهر لاحقاً في روايته :
تبدو بأقنعةٍ: (وجهين منتقماً / فالذئب منطلقٌ والليث منتكسُ – فاصبر وكن حذرا فالحرب قادمةً / والأم عازمةٌ والوجهُ منعكس).. رسالة مفادها بأن جلمود الأمهات يأبى أن يلين أو ينكسر فهنّ كالوجن الصامد في وجه العدوان وسيجلبون لنا أبطالاً من رماد سترد كرامتنا وستعود أمجادنا كما كانت، ثم يتحفنا المبدع بتوطئته للأحداث بالتطرق عن فضل العروبة تاريخياً واقتصاديا وعلميا وتجارياً ولغوياً على العالم باسره، من خلال منظور شيخ النقادة الدكتور (رمضان الحضري) في مؤلفه ( بئر التاريخ وآبار الفنون وأنشطة العقل العربي) في تمهيد لما ستؤول إليه الأحداث لمّا أخبرنا بأن تلك المدينة تموج في سياطين الشر وهناك معتدي غاشم غاصب يريد أن ينهب ويقوض أركان الأوطان ويقض السلام، فتضيع خيوط الحقيقة بأن العرب هم من أناروا الحضارات الانسانية ومن أظهروا الحروف الهجائية التي خرجت من سيناء بمسمى اللغة السينيائية، لكنّ هؤلاء المؤرخون مثل بروكلمان وماسينون وصفوا تلك الحقبة قبل الاسلام بعصور الجاهلية .. ويكأنهم يطمسون الحقيقة باننا نحن العرب من كنا منائر ومنابر للحضارات اليونانية والرومانية والفينيقية القديمة، حتى جاءت شهادات من علماء كثيوفرستس اليوناني بأنه لا يوجد ما يضارع الحضارة العربية ، وقد علمنا العالم الديمقراطية والحرية لما قال الوالد لابنه ( أسرع غلى النجدة في الصريع فإن أجلاً لن يعدوك) في دعوة لنصرة الملهوف وغوث المحتاج في سبيل إعلاء ألوية الحق الأبلج، فالجاهلية التي قصدها هؤلاء المزيفون في بهرج تلك الحضارات الغربية الذين يتبرجن تبرج الجاهلية قديماً من سلوكيات وعوار أخلاقي كما كان في سالف العصور، نحن من ساعدنا طرق التجارة واطلقنا علم الأنساب – كل هذه المقدمة أطنبتنا ولم تكن سوى ترسيم وجهين آخرين لهذه الرواية في تناحر بين قوى الخير التي تعافر وقوى الشر التي استشرت جذورها في شرايين أمتنا العربية ونبكي ذاك التهاون والفرقة بدلاً من توحد الصف في وجه الشيطان وأهل الشر الماكرين.
اتخذت الرواية ملمح السردية الخطية Chronological Linear Narrative بساردٍ عليم يروي لنا قصة بطلنا الوجه الأول ( عمّار بن ياسر)… في دلالة سيميائية للاسم بأنا على شقير أحداث تشبه ذلك الاضطهاد والاستعباد لآل ياسر في بيعة العقبة لما قرر الرسول عليه السلام وخاتم الانبياء الإعلان عن دعوته للإسلام، فلاقوا اشد العذاب؛ ليبشرهم علَم الهُدى بأن موعدهم الجنّة؛ كما سنرى تأثر الروائي بعلم السيميولوجيا المكانية والزمانية والشخوص في مجريات الأحداث.
أخذنا في لواج لتلك الحقبة من تاريخ مصر الكنانة ومقبرة الغزاة – لما كانت حقبة من الانكسار عاش على ثراها هؤلاء الثلة من بني صهيون وأعوانهم من الخونة ، على الرغم من التآخي والتآلب بين كل طوائف الشعب من مسلمين وأقباط ويهود، إلا أن الضابط (شملول) المدسوس لزرع بذور الفتنية كان لديه رأياً آخر ليشذ عن تلك القاعدة لأغراضه الدنيئة – في تناصّ مع العديد من الشخصيات اليهودية الشكسبيرية كإياغو في مسرحية عُطيل وشايلوك في تاجر البندقية، كعادتهم في استهداف الرموز الواعدة من العلماء الذين يجلبون الخير لبلدنا الحبيب واستهدافهم للقضاء عليهم، لكن ذلك الشملول وجد الأمين (ياسر عبدالعزيز) قد ناصر ودافع عن القادم من الخارج المهندس الفذ ( بينيامين بن يوشع) ..المُتيم بعشق مصر وسمائها ونيلها الخالد، كأن الروائي يأخذنا لمشهدية
Dramatization and scaffolding لمسرح الأحداث لما عاد من المطار ليجد استجوابا طارئا تجاهه كإجراء تعسفي كان يخطط له شملول للنيل منه، الضابط ياسر في عملية Flashback استرجاع زمني ثارت ثائرته وتطاير شططا على أهل تلك البلدة لما علم مقتل العالم الذي كان يحاوره منذ ساعات، كان يعلم بأن المارق (شملول) وراء استوقافه منذ البداية ، الحوار الأسطوري بين (ياسر – بينامين) أظهر بأنه وطني حتى النخاع، حتى أنهما أصبحا صديقين منذ الوهلة الأولى وأخذ المهندس الشاعر يطنبنا بمنمنمات وطنين أبيات شعره في حب الوطن على الرغم من تلك الدمعة التي كادت تنفلت منه لما لم يتخيل ما حدث إزائه، وقد تواصل الضابط الصديق معه كرةً ثانية بعد الانصراف من المباحث ليتلو عليه أشعارا من أبياته الخلابه ومنها ( يا نيل إني في الهوى عَجِل / قد عشتُ ممتطياً والآن مرتجلُ… والنفس باكية من صهدِ لوعتها / والنار طلعتها يدنو بها الاجل)
لكن أعوان شملول قتلوا ذاك العائد لوكنات أوطانه ظلماً وبدم بارد لتشتعل الفتنة الطائفية ، ياسر لم يهدأ له بالاً حتى يسلم الجناة إلى طائلة العدالة والقضاء عليهم ( أن تنصر ذمياً على إخوانك المسلمية) كما كان العهد بيننا .. فالدين لله والوطن للجميع، تذكر تلك التسجيلات للمهندس الراحل في مجاراته لمعلقة عمرو بن كُلثوم في منجاته لأبا هند: (والنفس باكية من صهد لوعتها .. والنارُ طلعتها يدنو لها الأجلُ/ فلا تُلق الملامَ على أناسٍ.. أضاعوا العُمر أصفاراً بيننا/ ألا هُبي بريحك فانزعينا.. فقد عزّ اليراع بنا سنيناً… إلخ) استوقفتني تلك الأبيات كعين الناقد التي يرى تلك الكلمات تتمفصل وتتمحور حول نوستالجيا عاشها ذاك المهاجر ليعود لبلده بالخير ولكنه يرى هؤلاء الشرذمة ممن أضاعوا هيبة العلم وأرادوا أن يعيث الشر والفساد سنيناً من الخسران – ويكأنها صرخة لأ يأن الأوان لإظهار الحق واسترداد الأمجاد الضائعة؛ تتجلى من تلك الشاعرية لبيارق القصيد ولع الشاعر وتمكنه بالشعر العربي الأصيل العمودي والنثري ليدلف بين سطور براعته النثرية.
لتبدأ مرحلة جديدة من (أنصار الشر) متجسداً في شخصية شملول (الواضحة المعالم) فهو يمتلك حقد دفين ينبري ضد هذا الضابط (ياسر) الذي علم بأنه يترصد لأفاعيله، فدسّ بصاصيه ليفتعل مشكلة مع (مظلوم النادي) وهكذا اسمه كمدلوله فهو مظلوم بأن كان على سجيته وسذاجته لمشاحنته مع (عُرابي) مبعوث شملول المدسوس الذي أبرحه ضربا وأمره تحت التهديد بأن يذهب للشرطة ويبلغ عنه وينفذ ما قيل له، بالفعل – مثل مظلوماً أمام ياسر وأخبره بما حدث ليتوجه الضابط الأمين ويلقي القبض على عرابي بعد برهة، ثمّ يدبر (شملول) مكيدة أخرى لعينه بداخل السجون فيتم قتل عُرابي مع سبق الإصرار من فرقة مجهولة من نزلاء السجن الذي يشرف عليه الضابط (ياسر)؛ إبان تلك الحادثة تم رفع تقريراً لعد كفاءة الضابط ياسر واختفت أوراق ما حدث للمهندس الراحل الذي لقى حتفه آنفاً أيضاً، حاول ياسر اثبات براءته وتبرئة صفحته لكنه لم ينجو من تلك الوعكة الصحية من جراء الأحزان ليقع في قمقم الشلل النصفي ، ثم وافته المنية، ليسدل الستار عمّن كان يزود عن الضعفاء ويأتي محله هذا الشملول الذي يناصر الوجهاء وذوي النفوذ والسلطان من الطواغيت و يسلط سطوته على المستضعفين، ليقفز الروائي العبقري لمشهدية حض الأم لابنها اليتيم (عمار) الذي فقد والده في سن صغيرة وتنشئ فيه الوازع الديني وضرورة التوكل على الله بأحيين القدر، وبأن نقول (حسبنا الله ونعم الوكيل) … وتمرُ السنون ويصبح عماراً (البطل ) Archetype Protagonist في السنة الرابعة للجامعة بالهندسة المعمارية، ليأخذنا السارد هنا لمشهد النهاية لأمه الصابرة المحتسبة التي حكت لابنها ما دث لابيه من تآمر وخيانة، وعليه أن يحذو حذو أبيه ثم يأتي الابن لامه بالمصحف الشريف لتقرأ نهاية سورة البقرة – فتموت فور انتهاء صلاتها الأخيرة، كان الابن المجتهد طموحا وشجاعاً وحصل على بعثة لسفر لأمريكا لدراسات الدكتوراة لما كان الدكتور (عبدالله التميمي) عميدا حينئذ، والآن الأمور أصبحت مغايرة بتولي منصب العمادة لرجل عبوس الوجه يستنم إلى الوساطات والمحسوبيات، فلم يقبل تعيينه، لكنً سقف طموحاته كان كبيراً فافتتح مكتباً مرموقاً للتصاميم الانشائية ، الذي احدث بدوره ضجة وصيحة في عالم الهندسة ليأتي القاصي والداني إليه، لكنه في قرارة نفسه لا يستطيع ترميم النفوس البشرية.
لم تنته مساعي شملول الخائن برحيل عقدته ولكنه كان يريد ن يجهز على ما تبقى من آثرته أيضاً ويتتبع أخبار (عمار)، لكنه فوجئ بعد عدة مراسلات لسيّده ذي النفوذ اليهودي بعدما هنأه على التخلص من المهندس العائد والضابط الذي كان يمثل شوكة في حلقة، فيجدُ (ديّان) يحييه على جرائمه التي مهدت له الطريق للمجئ للبلاد مع عائلته وأتباعه ليبنيان قصراً وشركة هائلة، كانوا هم (أحفاد السامري) العائدين من التيه ليمكروا في البلاد في محاولات عبثية لتشتد جذوتهم، (ناجي) هو الأخ الأصغير لديّان تمكن من شراء قطعة أرض عظيمة لبناء قصر وشركة بواسطة المبدع (عمار).. الذي كان يعتبرهم نواة للاستثمار الأجنبي ولكنه يضمر لهم الشر في الوقت ذاته ولم يُهادنهم أبداً، لتتعاظم هيمنتهم في كل الأنحاء بالحيّ والمنطقة بأسرها كما سولت لهم أنفسهم من مشروع وغير مشروع، يستنون شريعة الغاب من قتل ونهب وتفاخر، حتى أن ديان تمادى في العهر والعربدة وهتك الأعراض القهري.
ليحين أوان احتدام الصراع الداخلي والخارجي Focalized Interior & External Conflict Climax بظهور فتاة اسمها( عزة نصرالدين) طالبة في مقتبل العمر بالسنة الرابعة للهندسة..كانت حاضرة في مطعم لما كان ديّان هنالك، لكنها لم تعره أي انتباه أو تكترث لإيماءاته وتلميحاته ونزواته، ولم تنصاع لسطوته في هندام السلطة، تواترت المرات بوجودها هناك بصحبة صديقتها (رحيل) لتخبر النادل بأن هناك شخص متنمر يعبث ويتمادى في المعاكسات ولن تحضر ها هنا تارة أخرى، بالفعل – رحلت بلا أوبة لذلك المكان ولكن ديان اعتبر الأمر اعتداء صارخا على نفوذه ويكأنه لديه الحق في سبي النساء ويذعنّ لجاهه، هيهات ما كان يرنو إليه حتى بعدما أرسل (زخاري) ذراعه الإخباري ليأتيه بتقرير تفصيلي عنها، كان أباها على المعاش بعد عمله بقطاع البترول وكذا أمها بعد استيفاء فترتها بالبنك، وقد عربشت تلك الفتاة الحسناء في وجدان الوحش الآدمي الجبان (ديّان).. وقد قرر انتهاك مملكتها وانتظارها أسفل نزلها، لتخبر الفتاة أبويها عن (عمار) فتى أحلامها التي تعشقه ومستعدة لفعل أي شيء من أجل البقاء معه، ولن ترضخ لأطماع ذاك الأحمق الذي يريد أن يسلب حريتها، فيهبط أبوها ويطرد ثلة ديان من تلك المنطقة المأهولة، ليزداد غضب الآبق الكاره فيلجأ لألاعيبه باستمالة الجيران باغداق الأموال عليهم لتيسير الوصول للفتاة وملاحقتها، نجحت مآربه الشريرة في الوصول إليها وتهديد أبويها بالقتل لكنهما قد هربا ابنتهما الوحيدة من باب خلفي لتلحق بحبيبها، تما إلى علم ديّان أمر عمار بأنه الحبيب المنشود فقرر التخلص منه بإرسال أربعة من بغاله – لكن المقصود قتلهم جميعاً، واستمرت محاولاته هذه المرة بتهديد الحياة للأبوين اللذين لقيا حتفهما بعد هجوم خمسة من الرجال .. ليلاحقا مقر عمار بعدها فيصرعهما ثم يتجه على دراجته النارية في مشهدية (الفتوة المناضل بالحقّ) في مقابل (البلطَجي الذي تلجلجت أباطيله).. فيعصف الأول بعشر من الأنصار الجبناء المثخنين المضمخين بالخسة والرذيلة ويرسل رسالة شديدة اللهجة لديان بأنه لن يستطيع النيل منه أو يمس حبيبته بسوءة.
تأتي مشهدية (عرسٍ بلا عروس) لما اجتمع الرباعي (ناجي – شملول – زخاري – شمعون ) وهناك رئيسهم الخامس (ديان) ينتظر النبأ اليقين، المشهد هناك بعد الصعود للباص اثناء الهروب من البلاد ..(عمار وعزة).. يجلسان في الباص ويجدان بان السائق قد قام بانحراف اضطراري لوجود عائق شجري بنهاية الطريق، وبأن هناك فرقة تنطلق من سيارات ناحية الحافلة التي تقلهم في سفرتهم يجتعون حوله، وفي تلك الآثناء كان هناك آخرون يصرخون ويتفاجئون بضريم يجتاح العربة على حين غرة، ويحاول شملول ورجاله جرّ مهيضة الجناح (عزة) بعيداً عن حبيبها الذي كان يتعلق بها على الرغم من التكالب عليه وحالة الهرج والمرج التي سادت الأجواء، فانصرف الرباعي من المشهد المأساوي بعد التهام الحريق بنهم لكل الركاب، وبعثوا البشارات لمن أسال وديان الانتقام، لتبعث العناية الإلهية إلى الحافلة المحترقة اثنان في رحلة العودة (إحسان وزوجته عائشة) اللذان لمحا (عزة) تتنفس وتنبش في جدار الحياة، ومن ثمّ يتواصلون مع الدفاع المدني والاسعاف للنجدة، حالة من السوداوية وثيمة الحزن الممزوجة بالخوف سادت المشهد Theme of melancholy & Intimidation وكذلك انبرى خماسي الشر الذي أبرزه الروائي المبدع Diabolical Antagonists وهم ( نديان – ناجي – شملول – زخاري – شمعون).. كان ذاك التأريخ يوافق الخميس السابع من أكتوبر يومذا.
ليستهل الروائي قصله الخامس ببارقة أمل تحدو الناجين من الحادث، تم تلقي عزة الاسعافات اللازمة ولكن حبيبها – على مايبدو يعاني من تشوه شديد في الوجه وفي اجزاء جسده المتهتك والمتفحم، وقد أصابته حرائق مستعصية ولابد من وجود عمليات تجميل وترقيع لطبيب محنك بارع ، حيث ناهزت التشوهات أكثر من سبعين في المائة من الوجه – لجأ الأطباء إلى التواصل مع الدكتورة (صابرة) التي لم يكد يجف دمعها على نكبتها في ابنها الوحيد الراحل (ياسين) – لكنها تمتثل لذاك النداء الانساني وتقرر القيام بعملية استبدال وجه Face Off.. ويكأننا أمام ذاك المشهد السينمائي لأفلام هوليود ببراعة وبنكهة جديدة من روائي فذ يخرجه كما أخرجه الصيني (جون وو) ويستبدل كلا من (نيكولاس كيج(الشرير) وجون ترافولتا(الطيب) ) بــ(عمار و ياسين) ؛ لكن الأمر مختلف هاهنا فالاثنان هنا بنفس الصفات والسمات وسمو الأخلاق من مروءة وجسارة وشهامة – ليس على غرار الفيلم المعروض على الشاشات، هما صنوان في كل شيء من سمات الحياة، كان الشرف المهني والملائكية لافراد الجيش الأبيض هو ما شحذ الهمم واستنهض بواعث الإحياء في صدر الطبيبة صابرة، ليستيقظ على إثراها (عمار) بوجه (ياسين) الذي لا يعرف اسمه بعد.. ويدرك بفحوى ما جرى له وبأنها مشيئة الله لأن يصبح على تلك الشاكلة سعيا وراء الانتقام ممن قتلوا حبيبته ظناً منه، تضاعف الثأر الآن من أجل حبيبته ومن أجل هويته، ليأخذنا الروائي في دسر الأحداث المتوالية ..(متوالية حدثية ومشهدية).. في تناص واستشهاد لرواية (الكونت دي مونت كريستو) للروائي الراحل ألكسندر دوماس وبطله (إدموند دانتس) الذي خرج من السجن لينتقم ممن زجو به وليحصل على حبيبته المرجوه وكنز صديق زنزانه الراحل، وهنا نجد (عما) يخرج لينتقم بعدما تسلل خارج مستشفى الشفاء لقارعة الحياة ولا يعرفه أحد نتيجة لتجذر شكله الظاهري تماماً، فيذهب ليبدأ بزخاري ويستدرجه لموقع بناء لأحدى مصالح المدعو (ديان) وينفرد بقتله بعدما يبرحه ضرباً ويقيده بأسلاك كهربية ليموت صعقاً بعدما يصرا لها بأنه (عمار)؛ ثم يضع صورته ومكتوب عليها (الأول).. فشل رجال التحقيق في فك الطلاسم واللغز وراء القتل الشنيع وتم التحفظ على القضية ضد مجهول، ثم يتجه إلى شملول ويخبره بأنه صديق لـ (عزة) ويعطيه صورتها، فيضطرب الضابط المجرم بعد رؤيتها ويخبره بألا يرحل حتى يتفقد الأمر، ويذهب المسئول ليهاتف ديان ويخبره بأن هناك من يعرف عزة منذ عشرة شهور ولديه بالمكتب، ولما يعود فلا يجد من هدد روعه، ثم يتجه لمنزله ويجد من يأهله هناك ويدعى (يونس) – الشريد الذي طرده أبناؤه وبحث عن مأوى ولم يكن يعرف بأنه عمار صاحب المسكن، ولكن عمار وافق على مكوثه معه وأخبره بغرفته السرية التي يخبئ بها أسراره، وأراده أن يعرف قصته التي لم يصدقها المُخاطب في بداية الأمر، إلا من خلال ما ظهر عبر الشاشات في تغطية أعلامية للحادث، ثمّ أجبر(عمار) رفيق السكن على الخروج برفقته لإحد الملاهي الليلية للاستمتاع وتناول وجبة العشاء، في واقع الأمر – يعرف بأن ناجي شقيق ديان يعتاد المكان للمجون، ليتقابلان مع (نانا) فتاة الليل التي تحب التمثيل – فيستغلُّ عمار الأمر يخبرها بأنه مخرج كبير وتابعه سيخبرها كيفية تمثيل الدور: (بمجرد وصول البطل (ناجي) تذهب إليه وتقول (أحبُّك) ثم تنصرف من المشهد بعيداً) – ما حدث بالضبط ! ويكأنها الطُّعم الذي يستدرج بها فريسته ليفتك به أو لغرض ما في نفسه .. هي ثيمة الاغراء Theme Of seduction للحصول على الانتقام Eye for an Eye العين بالعين..) كان يدرك بأن نقطة ضعف الاشرار النساء ..(الهمارتيا Hamartia) ومدججا بمقولة (فتش عن المرأة ) – لقد كانت نانا هي الفتنة والوقيعة بين الأخوين بذريعة تمثيل المشهد المزعوم ، ولما حضر ديان هناك تبادل الطرفان الغمزات ورشقات الحب والاعجاب، إبان ذاك السيناريو المحكم من (عمار) والذي لم يدركه رفيقه (يونس).. أوهم الفريسة (ناجي) بأنه يستطيع جعل (نانا) تحبه وتقع في مصيدته، وهو الأمر الذي تجهله (نانا) كشكل من أشكال اضفاء السخرية الدرامية لكسر ذاك الجمود وكرة الثلج التي تعاظمت في مراقد الأحزان طيلة الأحداث السابقة.
في طريق عودته وجده شملول وقد عرف وجهه، ليتعارك معه ويصرعه قتيلاً ويضع صورته بعد التصريح بهويته ورقمه (الثاني) في دائرة الانتقام، ثم يختبئ بين الاشجار ليرى ما سيحدث من رجال الشرطة التي هرعت للمكان ويحضر الضابط (شعيب) فينبري كشاهد عيان رأى القاتل يهرب متوعداً، ليصحبه المحقق للرسام فيرسم (وجهه الحقيقي) بالتفصيل.. كأنه يبعث برسالة لمن ستقع في يده تلك الصورة بأنه عاد للحياة وحان وقت الحساب، بعدها يذهب الضابط بصورته قاصداً (ديان9 صديق شملول المقرب كما يعرف الجميع – ويخبره بأن القاتل ذكره في سلسال الدم الهادر الذي يخطط له، فيثور بركان المتغطرس ويبعث برجاله لمسكن عمار القديم فيجدون يونس هناك، لا غرو بأن إجابة يونس المعتادة المثيرة للشفقة المثحنة بالتهكُّم (أنا عمّار) .. ليلق مصيره المحتوم،
ثم ينبري ذو الوجه الجديد في المشهد جاثماً أمام غريمه الأزلي بل الأبدي ( ديان ) ويخبره بأن اسمه (غريب)، ويذرع بذور الريبة في نفس الأخ الكبير تجاه الصغير الذي يمكر له ليحظى بالفتاة الجميلة التي يعشقها مثله ..(نانا).. إذن فهي الوشاية والوقيعة ، ولزاما عليه التأكد من الأمر، فاختبأ ديان خلف الأستار ووضع وسائد مغلفة بغطاء على السرير ليرى أخاه يتسلل خلسة لينثال عليه بتسع رصاصات، فيباغته ويأمر حراسه بنفي أخيه بعيداُ ثم قتله، فيسأله ديان هل يعرف أين عمار؛ ليباغته غريباً بأنه ماثل أمامه، ليدرك حينها ديان بأنه سيلقى جزاءه الذي يستحق فيحاول اختطاف نانا ولم يلحق بأخيه الراحل لينقذه ، لتتجسد شخصية البطل الهمام الذي اجتث جذور الشر وقتلهم جميعاً، ثم يودع نانا ويعود أدراجه منتصراً منتشياً، ليرى سيارة سوداء فارهة ينبري منها السائق (مارك) الذي يمطره بالطلقات النارية فيفاديها ويلوذ بالفرار.
أدرك (عمار) بأن الوجه الذي يتلبّسه وراءه حكاية، ليهاتف من أنقذت حياته الدكتورة صابرة، لاخبره بقصة ابنها الطبيب الراحل الذي كانت تتعكز عليه بين مدلهمات الدهر، وكان لديه أربعة من الأصدقاء بالكلية (خالد – يوسف – إبراهيم وحبيبته (زبيده)) – في تلك الأثناء كان بالحي طاغوت وصاحب نفوذ على البلدان مسماه (بن غريان) وكان ابنه (ماكرون) يرث صفاته الذميمة ليعتدي على يوسف صديق ابنها ذات مرة بأحد الأمسيات، فيتوجه ابنها في صبيحة اليوم التالي ويبرحه ضرباً، ليحتشد رجال (شمعون) الأخ الثاني البالغون عشروناً على شخص واحد لكنه يصرعهم وينجو منهم من نجا لابلاغ رجال الشرطة بأمر ذاك الهائج، يرفض اقرانه بالجامعة الشهادة ضده لأنه يدافع عن حقوقهم ويناصرهم في وجه الاستبداد والقهر، حتى جاء يوم أسود لما قُتل صحفي يحارب هؤلاء من ذوي السلطان من الجهات المنوطة بالحكم اسمه (أحمد بن زايد)؛ فيبعث (بن غريان) الوجه الآخر للشر بل ابن زعيم المافيا (ناعوم) .. بأحد نواطيره (جارداك) متباهياً بعنجهيته وقوته ليصرع الصُخفي على مرأى العيان ويمثل بجثته أمام زوجته وابنه (مُحمد) الذي لم يبلغ السادسة، بل قام بالجلوس على جثته المسجيه أمام الصاغرين الخانعين بلا حراك، الحشود والجماهير العريضة لا تنبس ببنات شفاه بل لا تحرك ساكناً أو تطلق استهجاناً.. الكل في استسلام وخضوع، حتى (خالد) ووالده (طاهر) صديق الشجاع (ياسين) الذي لا يهاب الموت أبداً، لينبري ياسين في المشهد ويزعق في الوجوع الذليلة المنكسرة التي تخشى ذاك المعربد ويخبر (جارداك) بأن محمداً الصغير ابن الضحية لا يهابه ويريد أن يقذفه بحجارة تشج رأسه، لكنه يرى بأن كل محاولاته باءت بالفشل الذريع ويجر أذيال الخيبة والقهر في زمن العُهر والعار واصطحب الصغير بعيداً عن فظاعة المشهد.
ليعود ذاك الجلف (جارداك) لسيده بن غريان وأبيه ويخبره بأمر (ياسين)، ليهرع بن غريان لعيادة والدة ياسين ويهددها بأنه سيقتله إن لم يتراجع عن أفاعيله ويتركه يعيث ، لتتمشق الأم الطبيبة البارعة هامها وتصرخ في وجوه الحاضرين بأن ابنها مثل أبيه سينصر الحق ولا يخشى لومة لائم، ثم هزأت منهم بأنهم جبناء وسيرحلون عما قريب ويحتاجون لمهدئات تخفض ضغطهم المرتفع.
تستمر (صابرة) في الحديث مع عمار عن ابنها ويتخبره بأن التهديد أصبح صارخاً وتجاوز الحدّ لتهديد بن غريان بإبادة الحي عن بكرة أبيه في غضون أسبوع، ثم يقتلون خالد لما حاول تهدئة الأوضاع بدم بارد ويتجه الطاغوت للحي مهدداً بنفاذ صبره، فيحاول أبو خالد الهجوم ليسقط عرش الغزاة، ولكن ينبري (ياسين) الثائر الذي يذهب لقصر الطاغية ويداعب كاثرين القعيدة على إثر شلل نصفي، فيخشى صاحب المنزل المنيف أن يفتك بهم ويطلق صراح (زبيدة) خليلة ياسين،
لينبري مشهداً آخراً للخيانة يأخذنا في لواج مسرحية شكسبير الخالدة (يوليوس قيصر) الذي قتلته الطعنة الأخيرة من صديقه (بروتاس) .. لكنه هذه المرّة كان (إبراهيم) الذي انساق وراء المال ليمهد السبيل إلى الإيقاع بصديقه ياسين وحبيبته (زبيدة) في رحلته تلك بنفس حادث (عمار – عزة)، كما اكتشفت (صابرة)، فيأتي رجال بن غريان ويقتلان الحبيبان وتكون طعنة الرحمة النافذة من أعز أصدقائه من الخلف كالجبناء.
هكذا انتهت المحادثة بعودة ياسين إلى الحياة بشخص عمّار لينتقم من بن غريان وحاشيته ، وهو ما حدث بالفعل كما جاء في الأثر – بيدي لا بيد عمرو؛ فاجأ ياسين الخائن ابراهيم بظهوره ليأمره بأن ينفذ خطته بعد اخذ والدته (صابرة)التي اعتبرها.. رهينة لدى بن غريان.. لينطلق ويقتل الزبانية من كل زنيم هناك فيطعن ابراهيمٌ بن غريان الذي يقتل والده بالخطأ ويخلص الناس من شروره وتتحرر الأم ويجهز على الجميع، ثم يعود للحي لمواساة أبي خالد الذي فقد قدمه جراء الاعتداء الهمجي، وعاد السلام والوئام، وسعد البطل المغوار (عمّار) بعودة (عزة) التي بدأت تستعيد ذاكرتها بعدما عاشا في كنف صابرة.. في خاتمة لحكاية تبدو كفلكلور شعبي لمُخلص أعاد السلام والحق للوطن المسلوب، لينقشع الطلام عن تلك الأنحاء بلا رجعة، في ايماءة عبقرية للروائي في نهاية المطاف بأن كل من تسول له نفسه الأمارة أن يمس بلادنا بأي سوء فمآله إلى الخسران المبين والهلاك مصيره المحتوم في طي النسيان… وتستمرّ الملاحم يسطرها رجال مصرنا الأوفياء إلى أبد الآبدين.
أهنئ الروائي الموسوعي على هذه المعزوفة الأدبية الروائية في انسيابيتها وسلاسة اسلوبه وديناميكيات مشهديته وموسيقى لغته الارستقراطية وجمال استشهاداته التاريخية والدينية والاجتماعية … وننتظر منه المزيد من النفع والامتاع وما يسلب الأنظار والأسماع.
//////////////////////////////////////******************
قراءة تفكيكية تحليلية أعدها الاستاذ/ أحمد فاروق بيضون – مصر🔖