حياة الكاتب الفرنسي ” الملعون ”
(لوي فرديناند سيلين LOUIS FERDINAND CELINE) ..
د.علي أحمد جديد
لابد في بداية الحديث عن الروائي الفرنسي (لوي فرديناند سيلين) الذي يصفونه “الكاتب الملعون” من ذكر أشهر أعماله الروائية التي استجلبت له “اللعنة” والتي هي :
(رحلة إلى آخر الليل ، و موت بالدَّين ، و شمال ، و من قصر إلى آخر) ..
وبالطبع فإن له غيرها من الروائع التي تثبت أن مؤلفها هو من أعظم الروائيين الأوروبيين الذين عرفهم القرن العشرين . كان السبب الأساسي في “لعنته” وحرمانه من الشهرة العالمية التي تمتع بها معاصروه من الكتاب الفرنسيين أمثال (اندريه جيد واندريه مالرو وجان بول سارتر والبير كامو) هو الجهر برأيه في عدائه للديانة اليهودية ولليهود وانتقاده اللاذع لهم ، كما كان انحيازه للنازية خلال الحرب العالمية الثانية . لذلك كان عند الأوربيين أقل مايمكن القول عنه بأنه كان “كاتباً ملعونا” عانى بسبب مواقفه أقسى مايمكن تخيله .
وُلِدَ (لوي فارديناند سيلين) في ضواحي باريس في 27 أيار/مايو 1894 في بيئة عائلة متوسطة ، وكانت أمه تبيع الملابس في تملك محل صغير هناك . ولم يكن والده أكثر من موظف بسيط في إحدى شركات التأمين . وفي سن الرابعة من عمره انتقلت العائلة إلى قلب العاصمة “باريس” . وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية قضى (لوي) مع عائلته سنة في ألمانيا ، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى جنوب انجلترا حيث عاش فيه فترة يتعلّم خلالها اللغة الانكليزية التي تعرّف من خلالها على أعمال الكاتب الانكليزي الكبير (وليام شكسبير) . ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره انتسب إلى الجيش مشاركاً في الحرب العالمية الأولى ، وأصيب اثناءها بجراح خطيرة نقل على إثرها إلى المستشفى الذي ظل فيه حتى عام 1915. وبعدها انتقل للعمل في القنصلية الفرنسية العامة في لندن ، وتعرّف خلال عمله فيها على المشبوهين ، وعلى تجار الرقيق الأبيض (الدعارة) . لكنه لم يلبث أن ترك عمله في القنصلية ، وانتقل إلى أفريقيا ليكتب روايته الأولى و الشهيرة “رحلة إلى آخر الليل” . وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التحق (لوي فرديناند سيلين) بكلية الطب ، وتزوج من (إديث فولي EDITH FOLLET) ، ابنة أستاذه الذي كان مدير مدرسة الطب في مدينة (رين RENNES) الفرنسية ، ومنها أنجب ابنته الوحيدة (كوليت COLETTE) .
وبعد تخرجه ، عمل في “هيئة الصحة” التابعة لما كانت تسمى في ذلك الوقت “عصبة الأمم” في جنيف . وقد أتاح له عمله فيها السفر بمهمات إلى كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية (1925) ، وإلى إفريقيا (1926) ، وإلى بعض البلدان الأوروبية ليتعرف على حقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية التي برزت ملامحها في مجمل أعماله . وفي عام 1926 انفصل عن زوجته ليعيش مع الراقصة الجميلة (اليزابيت كرايج ELISABATH CRAIG) ويعمل طبيباً إلى جانب تفرغه للكتابة في ضواحي باريس . فأصدر روايته الأولى “رحلة إلى آخر الليل” التي أثارت ضجة كبيرة فور صدورها ، ونال عنها (لوي سيلين) جائزة “رونودو” وحظيت روايته “رحلة إلى آخر الليل” باهتمام النقاد الفرنسيين وأشادت بها الصحف الأدبية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي إيطاليا ، و ألمانيا ، كما في بريطانيا حيث بدأ روايته المذكورة بجملة بسيطة للغاية ، وكانت وغير مألوفة في الروايات الفرنسية والتي هي :
“بدأ الأمر على النحو التالي”
لأنها كانت جملة شائعة في اللهجة الدارجة تحدث فيها عن (الموت والرذيلة والعنف وعن الحرب وعن الشر) . وفيها كانت تتداخل الأصوات والأماكن وبطلها (باردامو BARDAMU) الذي ينتقل من فرنسا إلى أدغال إفريقيا ، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية إبان مرحلة (فورة الذهب) حيث الاقتتال والقتل السهل على جمع الذهب والثروة لكسب نفوذ يأخذ طابعه الوحشي والشرس . وفي نفس السنة التي صدرت فيها روايته “رحلة إلى آخر الليل” ، أُرسِل (سيلين) إلى ألمانيا للقيام بتحقيق أممي حول الصحة الاجتماعية بتمويل من “هيئة الصحة” في عصبة الأمم ، وكانت المانيا تشهد آنذاك صعود النازيين بزعامة (ادولف هتلر) . وعند عودته مطلع عام 1933 ، كتب مقالة في جريدة “LE MOIS” تحت عنوان : “لقتل البطالة ، هل سيقتلون العاطلين عن العمل؟” ..
وخلال ثلاثينات القرن الماضي ، انشغل (سيلين) بكتابة العديد من أعماله الروائية الأخرى مثل “مَوْتٌ بالدّين” و “تفاهات من أجل مذبحة” و “مدرسة الجثث” . كما كتب نصوصه التي كانت معادية للعنصرية اليهودية (السامية) والتي يعتبر فيها أن اليهود هم “سبب الشرّ المُطلق في العالم” . وسافر (لوي سيلين) إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإقناع الراقصة (اليزابيت كرايغ) التي انفصلت عنه بالعودة إليه ، غير أنه لم يفلح في ذلك . وبعدها تنقل بين انكلترا ، وشمال فرنسا ليكتب هناك روايته “مدرسة الجثث”. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية ، رحب (سيلين) بالاحتلال النازي لبلاده بعد الكشف عن غدر اليهود الألمان بالفوهرر (أدولف هتلر) ، وكتب العديد من المقالات وأجرى العديد من الحوارات للدفاع عن مواقفه السياسية المناهضة لليهود وللحلفاء مع كتاب ومثقفين اعتبرتهم المقاومة الفرنسية في ما بعد “خونة وعملاء” ، فأصدر بياناً يندد بانكلترا وبحلفائها وبجرائمها في إشعال الحروب وفي استعباد الشعوب التي تحتل أراضيهم وتسرق ثروات بلادهم وخيراتها . وقد فعل ذلك عقب زيارته للعاصمة الألمانية (برلين) . وقد رجح الكثيرون أن يكون التقى خلالها بوزير الدعاية النازي ( غوبلز) . وكانت سنة 1944 سنة صعبة بالنسبة له لأن مظاهر هزيمة النازية بدأت تبرز بوضوح ، وشرع الحلفاء يسترجعون ما كانوا قد خسروه في السنوات الأولى للحرب ، فكان على صاحب “رحلة إلى آخر الليل” أن يترك باريس ويصحب زوجته لوسي المنصور (LUCIE AL MANSOUR) التي كانت راقصة أيضاً إلى الدولة الاسكندنافية الدانمارك . إلا أن الزوجين أمضيا بضعة أشهر في مدينة “بادن بادن” الألمانية في الوقت الذي كان فيه الروس السوفييت و الحلفاء يزحفون باتجاه برلين من الشرق ومن الغرب . وكانت الأيام صعبة وهو يحاول مغادرة ألمانيا التي تحوّلت مدنها وقراها إلى أطلال وخرائب ، لتكون موضوع روايتيه الشهيرتين “شمال” و “من قصر إلى آخر” . ولم يتمكن (سيلين) وزوجته من الوصول إلى العاصمة الدانماركية كوبنهاغن إلا يوم 22 مارس 1945 . وفور خروج النازيين من فرنسا ، أصدرت “المقاومة الفرنسية” تعليماتها لتوقيف الروائي (لوي فرديناند سيلين) بتهمة “الخيانة العظمى” . وقبل أن تنتهي سنة 1945 ببضعة أسابيع ، تم اغتيال ناشر كتبه ورواياته (روبار دونويل (ROBERT DONOEL في باريس . وفي نفس الفترة تم اعتقال (سيلين) في الدانمارك ، و أُلقي في السجن ليكتب هناك روايته “دفاتر السجن” التي يقول فيها :
“ربما أكون واحداً من الكائنات التي من الممكن أن تكون حرة . أما الآخرون فهم يكادون يستحقون جميعاً السجن بسبب مذلتهم المدّعية ، وحيوانيتهم الخسيسة ، وتبجحهم الملعون” .
ويقول في فقرة أخرى منها :
“أنا على عجلة أن أجد نفسي في مكان حيث لا أكون سافلاً ودنيئاً أبداً” .
وفي صيف عام 1951 ، عاد (سيلين) إلى فرنسا بصحبة زوجته بعد صدور العفو عنه ليستقر في ضاحية “ME UDON” ليظل هناك حتى وفاته يوم 30 حزيران/يونيو 1961.
وبعد وفاته ، كتب (فرانسوا جيبو) ، وهو واحد من الذين أولوا اهتمامهم الكبير بسيرة (لوي فرديناند سيلين) يقول :
“لقد كان هناك آخرون يصرخون عالياً مثل (سيلين) ، وفي نفس الوقت الذي كان هو يفعل فيه ذلك ، غير أنه صرخ وحيداً . وكان دائماً يخوض معاركه من دون الاستعانة بأحد ، ولا أحد طلب منه أن يكتب نصوصه الهجائية والتقريظية ضد اليهود ، غير أنه فعل ذلك بطريقته الخاصة ومن دون تأثير أي أحد كان في حياته ، لأنه في أعماله ، لم يقع (سيلين) تحت أي تأثير . وقد ظل دائماً وحيداً ومستقلاً ” .
وكان (سيرغي كلارسفيلد) ، رئيس “جمعية أبناء اليهود المبعدين عن فرنسا” وهو المعروف بملاحقته للنازيين ، أعرب عن سخطه عندما علم بنية الحكومة الفرنسية تخصيص فعاليات لإحياء ذكرى وفاة كاتبها (لوي فرديناند سيلين) ، الذي تعتبره الأوساط الصهيونية واليهودية حول العالم كاتباً معادياً للسامية بسبب مواقفه من اليهودية العالمية ، والتي رأى أنها تحاول السيطرة على مراكز النفوذ في كل مكان من العالم . وذلك ماحمل وزير الثقافة الفرنسي (فريدريك ميتران) على القول :
“بعد التفكير ملياً وبعيداً عن التأثر بالعواطف ، قررنا استبعاد فعاليات إحياء ذكرى سيلين” ..
علماً أن قائمة الاحتفالات الوطنية ، تتضمن عشرات الشخصيات والفعاليات يتم الاعلان عنها سنوياً من قبل وزارة الثقافة نفسها بينما تقرها لجنة يترأسها المؤرخ (جان فافير) .
وقال (ميتران) :
“إن قرار إلغاء الفعاليات ليس موجهاً ضد (جان فافير) وبقية أعضاء اللجنة التي أقرت القائمة ، وأنه هو من يتحمل المسؤولية” ، في حين أعرب (سيرغي كلاسفيلد) عن ارتياحه إثر قرار الوزير بقوله :
“أريد تهنئة فريدريك ميتران على امتلاكه الشجاعة لحل هذه المشكلة” .
أما (هنري غودارد) ، الباحث المتخصص بحياة وأعمال (لوي فرديناند سيلين) ، والذي كان قد كتب النبذة عن حياة الكاتب في المجموعة المختارة لعام 2011 فقد أقر من جانبه الاعتراضات على إحياء ذكرى
“رجل يحمل فكراً معادياً للسامية بصورة حادة لمجرد أن باريس هي مركز الماسونية العالمية الرئيس ، لكن المسألة تتعلق بأحد أهم الكتاب الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين ، وهو كاتب فرنسي هائل ، والأكثر ترجمة وانتشاراً في العالم بعد(مارسيل بروست) . وهو يحلّق عالياً كما أنه مقروء جداً لا سيما أعماله المنشورة في كتب الجيب . بالإضافة إلى ذلك ، إنه محبب جداً ، حتى أن الحكومة الفرنسية قررت سحب الفعاليات التكريمية التي كانت معدة هذا العام بمناسبة إحياء ذكرى مرور 50 عاماً على وفاة الكاتب الفرنسي لويس فيرديناند سيلين (1894-1961) رضوخاً لضغوط الجماعات اليهودية ووصولها إلى مراكز القرار العالمي كما كانت توقعاته” .