“المنظومة السردية بين التأثير والحيادية”
=========================
أهمية اختيار طريقة السرد عندما تكون العقدة “موضوع على درجة من الحساسية”
قراءة لرواية” رابطة كارهي سليم العشي” للدكتور سامح الجباس
Sameh Mahmoud
————————————————————-
★كيف يستطيع الأديب اختيار أنموذج السرد؟
★هل يستطيع تطعيم إحدى شخوصه الرئيسة بجزء كبير منه وإلى أي درجة؟
★هل يذهب إلى أبعد من ذلك ويقرر هو الدخول إلى حبكة الرواية والإمساك بعقدتها دون أن تُفلت منه، ودون أن يتحمل مغبة الولوج إلى موضوع حساس؟
★هل بذلك يقدر على أن يكون حيادياً بشكلٍ كامل وهو في وسط الرواية بصفته المهنية والوظيفية وحتى الإسمية أيضاً؟
★هل يقدر دون أي انحياز- داخلي أو خارجي – لوجهة نظر ضيقة على الأحداث والأزمنة والأمكنة والوثائق، وأن يبرر وجوده الحتمي في الرواية، وتلبّسه لأهمّ شخصية فيها” الكاتب الراوي”؟
★وأخيراً، هل نجحت هذه التقنية الهيتشكوكية في التشويق والإبهار حتى النهاية؟
هذه بعض الأسئلة والتساؤلات التي تصادف الناقد أثناء غوصه في رواية ” رابطة كارهي سليم العشي” للكاتب الدكتور سامح الجباس.
*(هناك ما هو أهم من المنطق، إنه الخيال)
” ألفريد هتشكوك”
*(الخيال ليس هروباً من القبح، من الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، إنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية) ” أفونسو”.
التوصيف من الخارج:
————————–
رواية تقع في ٤٢٩ صفحة بنمط تصاعدي تشويقي متطور حتى النهاية.
تقمص الكاتب فيها أهم دور وألبسه ثيابه ومهنته واسمه، وقلده دوره الوظيفي أيضاً، والغاية المرجوة من ذلك؛ هي ارتفاع وتيرة التشويق وتصاعدها للذروة، مع الحفاظ على النظرة الحيادية “سرد حيادي”؛ كون هذا الموضوع على درجة بالغة الحساسية عند البعض.
★فهل نجحت هذه التقنية؟
بالتأكيد نجحت، فقد أدّت الغرض المراد منها تشويقياً وموضوعاً.
هذا الاستهلال العبقري كان من أهم نقاط قوة الرواية، حيث يقول :
[” في عام ٢٠١٢، نشرت روايتي “كريسماس القاهرة”بعد فوزها بجائزة إحسان عبد القدوس في الرواية ومنذ ٢٠١٢وحتى بداية ٢٠١٥، تواريت عن الوسط الثقافي.
لم أنشر روايات، لم أحضر ندوات…”]
وهذه المعلومات تخص الكاتب، لذلك قد أدت الدور التشويقي المهم الذي جعل المتلقي يسأل ماذا بعد ويلتهم الصفحات ليعرف، هل هذه سيرة شخصية؟
هل حدثت فعلاً؟ إذن ما مدى مصداقية كل ما تثيره هذه الرواية؟
لابد أن يكملها ليعرف.
_________________
السؤال المقابل لما طُرح آنفاً، هل نجح الكاتب “من الداخل ” بصناعة التوتر في الرواية؟
نعم قد نجح، فها هو قد جعل القارئ مندهشاً مما حدث، ومشدوداً بما يحدث، ومترقباً لما سيحدث وذلك “بإثارة فضوله وتفجير أسئلته، أي بجعله لايترك الرواية حتى تنتهي.
قام بروايته بتضفير ثلاثة محاور، جعلها ترافق القارئ منذ البداية وهي:
“الغموض /الترقب/ المفارقة الدرامية ”
الغموض:
———–
بدخول الكاتب بمسمياته الشخصية والوظيفية والأدبية إلى عمق الرواية وظهوره بمظهر “الشخص الحيادي العادي” الذي يكتب مايجده من وثائق ودلائل، فالغموض بدأ بالتجربة بعد القبول والسفر، واستمر طيلة فصول الرواية لزيادة التشويق، لم يخفف من حدته إلا قصة الحب التي بدأت تتنامى بطريقة شاعرية بين الكاتب سامح والبطلة فاطمة…
الترقب:
———–
نجح الكاتب في شدي منذ البداية لمعرفة الحدث اللاحق وأهميته في الربط بين الخيوط والإجابة على التساؤلات.
الكاتب سامح والذي انتقل إلى لبنان وسهر الليالي متصفحاً أعداد المجلات القديمة والكتب السرية، نجح أيما نجاح في الشد والإجابات والترقب لما هو آت…
جاء في الرواية، كرسالة انتحار:
“إلى هدفي أسعى، وفي طريقي أمضي، وسأقفز فوق كل المترددين. جهزت المسدس الذي سأنهي به حياتي اليوم، تاريخ هذا اليوم الذي سيظل طويلاً في ذاكرة أمي التي أعرف أن انتحاري سيحطم قلبها، هو السابع والعشرون من كانون الثاني، يناير ١٩٤٥.
لن أنتحر يأساً من الحياة، بل سيكون انتحاري رسالة إلى كل الظالمين…”ص ٣٩
رسالة الانتحار هذه مهدت ولعبت دوراً هاماً في الترقب الذي رافق التشويق والتمهيد للأحداث.
المفارقة الروائية:
———————
وقد وجدتها في كامل مفاصل الرواية، ولكن تصاعدت وتيرتها بشكل مضاعف في الخاتمة العبقرية والتي بكلمتين فقط ” خلط الأوراق وجعل من الضرورة العودة للصفحات الأولى لرصد أي حركة أو إشارة أو إحساس ربما قد مهد له منذ البداية، وأقصد بالإشارة الدرامية الرائعة بكون سليم هو ذاته سامح ( حالة التقمص)”
” تناهى صوتها الجميل إلى أذني وهي تقول بنبرة حب لايتسع لها الكون:
– كم انتظرتك كثيراً…يا س…يا سليم!
وضممتها إليّ أكثر! ”
ص ٤٢٩
بهاتين الجملتين الصغيرتين فقط، صنعت المفارقة المذهلة وأعيدت قولبة الأحداث وترتيبها بطريقة مختلفة كلياً.
الشخصيات
_________
الشخصية الرئيسية الحية النابضة المحركة للأحداث والدافعة لها دراماتيكياً ” الكاتب الدكتور سامح”
تقابلها في الأهمية الشخصية الأنثوية الحية “فاطمة” مالكة دار نشر والدافع الرئيس لصيرورة الأحداث
مع بعض الشخوص المتفرقة،…
أما عن الشخوص المتغيبة التي يتكلم عنها العمل الروائي، كونه عمل توثيقي تأريخي لشخصية أحدثت جدلاً واسعاً فيما مضى وهي شخصية ” الدكتور داهش”، مع عدة شخوص غير حية إلا في الكتب والوثائق ” المؤمنون الأوائل ومنهم الشاعر حليم دموس وجورج خبصا وعائلة زينة حداد وغيرهم…
الصراع:
______
نشب الصراع في الرواية من خلال محاولة إظهار الحقيقة الكامنة وراء هذه الشخصية الاعتبارية “الدكتور داهش” عن طريق بعض المستندات والحقائق والصور والكتب السرية المتوارية في بعض المكتبات الخاصة بالداهشيين،وقد خفّف من وتيرة هذا الصراع قصة الحب بين سامح والشخصية التي أنشأها “فاطمة”، ونجح بأن يسرد دقائق تلك الوثائق بطريقة مهنية وحيادية، مع أنه دخل الصراع الروائي بصفته أحد الأبطال.
” كأن هناك شيئاً ما بداخل رأسي يحركه في اتجاهات لم أكن أفكر فيها، أشعر كما لو أن هناك شيئاً، شخصاً يعيش بداخل رأسي ويسيطر على أفكاري، عندما رأيت اسمه أمامي، قفزت الفكرة فوراً إلى رأسي، يوسف إدريس. ص ١٦٦
مونولوج داخلي للكاتب السارد يؤكد الصراع الذي عانى منه وامتدّ على طول الأحداث…
المكان:
______
متنقلاً بين لبنان ومصر.
ومن خلال الوثائق نقلنا إلى كل البلدان والعواصم والمناطق التي زارها الدكتور داهش بغرض عمل جلسات روحية أو اجتماعات دينية…
الزمان:
_______
أرجحنا الكاتب بين الزمن الماضي والحاضر بتنقلات بارعة سلسة تفصل بينها بعض المشاهد مع فاطمة، وذلك بحسب ماتقتضيه الحبكة الدرامية المتسلسلة، تارة في الحاضر وأخرى في الزمن الماضي،
فقد عاد بنا الاعوام ١٩٤١ وماقبل ومن ثم مابعده وحتى انتهت سلسلة الحوادث والأحداث بموت ومراسم دفن وتحنيط الدكتور داهش، ثم الزمن الحاضر، والخاتمة التي وجدتها الأكثر عبقرية من السرد بحد ذاته وهي القفز الحدثي بالتقمص.
العلاقات بين الشخوص:
__________________
فمن التوتر بداية الذي خلقه عرض المهمة والقبول والبحث والسفر، إلى الخوف الناتج عن حساسية العمل وربما عدم نجاحه، إلى الحب البريء الذي حملته الشخوص الرئيسية بين السطور ووصلنا كقراء، إلى نزعة الرهبة التي فسرتها الشخوص بحماية المقتنيات والدفاع عنها وهذا صعّد من التشويق ومحاولة التفكير والربط.
المشهد الروائي:
___________
عمل الدكتور سامح ومن الداخل ككاميرة تصوير ، صورت الوثائق والدلائل وبعض صفحات الكتب، مع الإشارات الذكية الرابطة لأدباء كبار من ذلك العصر تأثروا وزاروا وكتبوا، كل ذلك صورته تلك العدسة بطريقة شديدة المهنية والحيادية “غير متبوعة لأي جهة أو مصنفة مع أي طريقة”لتجعل من الكاميرا عيناً حرة واعية ومدركة لكل ما كُتب ونُشر وقِيل في تلك الحقبة، فالمشهد الروائي كان واسعاً ومكتنزاً، متنقلاً وحراً بين الأزمنة والأفكار والتواريخ صعوداً وهبوطاً وعلى ألسنة مختلفة ” المؤمن الأول ، المؤمن الثاني وغيرهم…”
الحوار:
_____
جاء بطريقة مقتضبة أحياناً “لزيادة التشويق” ومتوسعة أحياناً أخرى لإثبات وجهات النظر بحسب “الدلائل المقتبس منها، من جرائد وصحف وكتب”
إلا أنه كان لطيفاً، خفف من حدة التّرقب بين سامح وفاطمة.
“وبعد أن انتهيت سألتها:
– هل كنتِ تتعمدين أن تعطيني هذه الرواية بالتحديد؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترفع فنجان القهوة إلى شفتيها:
– أحاول أن أساعدك…
ص ١٥٥
حوار مقتضب بين سامح وفاطمة
الإيقاع:
_______
جاء الإيقاع في الرواية بطيئاً نوعاً ما، يناسب الموضوع، تفاضلي مابين إثبات ورفض، تفسير وتحليل وتمحيص لشخصية كانت موجودة وذات أثر في تلك الحقبة شئنا أم أبينا…
فقد لعبت كثرة الاقتباسات والوثائق داخل المتن الروائي دوراً مهماً، فكان لها الأثر السلبي في ( تباطؤ الايقاع السردي)، وفي نفس الوقت كان لها أثراً إيجابياً في تركيز ( مصداقية النص وترسيخه في وجدان القارئ).
أما عن تقمص المؤلف لشخصية بطل روايته، كان مخاطرة كبرى منه بحد ذاتها، وقد توقف عليها نجاح العمل الأدبي كعمل أدبي- بصرف النظر عن توثيق الشخصية والحقبة المعاصرة- من عدمه، ويحسب للكاتب إقدامه على هذه المخاطرة، ومن ثم نجاحه المشهود في تطبيقها.
الزج- الذي بدا عفوياً- بالأحداث المتسارعة والغرائبية إلى حدٍ ما، كان له الفضل الأول في جودة العمل كقيمة أدبية بصرف النظر عن قيمته التوثيقية لشخصية أحدثت جدلاً واسعاً في الوسط الادبي والثقافي العربي، وتجاوزه موسعاً دائرته الخلافية ليتماس مع العقيدة الإيمانية والتي بفضل هذا العمل الأدبي تم كشف الكثير عما يخصها…
تصنيف الرواية:
____________
الرواية عمل أدبي تناول سيرة ذاتية لشخصية معروفة رحلت عن عالمنا المعاصر ولا يزال أثرها يثير جدلاً في الوسط الثقافي والاجتماعي والديني…اذن هي رواية تأريخية تؤرخ لشخصية ما في زمن ما.
يقول كروتشيه ” لا تأريخ بدون قص ”
ويقول الأخوان فوانكور “التاريخ هو رواية ما كان، بينما الرواية هي تاريخ ما كان يُمكن أن يكون.”
★عمل أدبي باهر يطرح العديد من التساؤلات، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على مقدرة الدكتور سامح الكبيرة في انتقاء مواضيع سردياته والبحث في مفاصلها بحثاً موضوعياً ناجعاً…
تهنئتي الكبيرة دكتورسامح وإلى المزيد من النجاحات والإبهار في حقل الأدب الواسع .
ريم محمد
سورية