المجموعة الشعرية ونظرية التلقي الحديثة دراسة نقدية المجموعة الشعرية قليل من الناي

دراسة نقدية:
“المجموعة الشعرية ونظرية التلقي الحديثة “.
المجموعة الشعرية: “قليل من الناي”
الشاعر جبو بهنام بابا(العراق)
الناقدة جليلة المازني (تونس)
دراسة نقدية للمجموعة الشعرية “قليل من الناي”
1- التقديم المادي للمجموعة الشعرية:
– لقد ضمّت المجموعة الشعرية” قليل من الناي” ستّا وعشرين قصيدة(26).
صدرت المجموعة الشعرية عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع- مصر-
بور سعيد- الطبعة الاولى 2024.
أول ما يطالعنا في المجموعة الشعرية الغلاف متشحا بثلاثة ألوان (الأسود /الأصفر البني).
– وهو من تصميم لمار التعمري.
– تضمن الغلاف :- صورة امرأة ترتدي باللون الأسود وتعزف على الناي.
– قطعا فسيفسائية متفاوتة الأحجام باللون البنّي
2- القراءة النقدية وفق نظرية التلقي الحديثة:
أ- مفهوم نظرية التلقي الحديثة:
“ان نظرية التلقي هي حصيلة أفكار ومواقف ورؤى تستهدف المتلقي كقطب مركزي فعال في كل عملية تأويل منتزعا السلطة من النص في محاولة لتفعيل العملية الابداعية وتحريرها تكريسا لتعدد القراءات وتنوع التأويلات مما كان له كبير الأثر على قطبي هذه النظرية مع روبرت ياوس وفولفغانغ آيزر”(1)
“لقد جاءت نظرية التلقي مؤسسة على مجموعة من المفاهيم المدمجة بين ياوس وآيزر: أفق التوقع /تاريخية الادب /فراغات النص/ مواقع اللاتحديد/القارئ الضمني/ المسافة الجمالية/ وجهة النظر الجوالة/ ذخيرة النص/اجتماعية الادب/ منطق السؤال والجواب..ان التلقي ليس منهجا جديدا في القراءة بقدر ما
هو اضافة للجهد التأويلي”.(2).
ب- المجموعة الشعرية ونظرية التلقي على مستوى الشكل:
+ في قراءة لرمزية الألوان على الغلاف:
– اللون الأسود: الأسود هو غياب الضوء على عكس الأبيض والأوان الاخرى
يمكن ان يوجد اللون الأسود النقي في الطبيعة بدون أي ضوء على الاطلاق.
واللون الأسود “له معان كثيرة..ان محبّ سيد الألوان (الاسود) يعني أنه يتوق الى السلطة والتحكم في الحياة وغالبا ما يملك ميولا فنية ويقال أيضا ان مُحبّيه لا يفضلون مشاركة الكثير مع الآخرين بل يميلون للخصوصية ولديهم شخصية قوية”(3)
– اللون البني :(نسبة للبن والقهوة) “وهو خليط بين الاحمر والاسود والاصفر
وهو من الالوان الحارة”(ويكيبيديا).
من وجهة علم النفس” يدل اللون البني على:
* الاستقرار:يعطي البني شعورا بالراحة والاطمئنان لكثير من الناس ذلك كون باطن الارض لونه بنيّا.
* الهيكلة: كثيرا ما يشجع اللون البني على النظام والتنظيم.
* الأمن: يمثل هذا اللون الأمان والحماية ومَلجأ من فوضى العالم الخارجي
ويزيد الشعور بالانتماء”(4)
– اللون الاصفر: “يرتبط اللون الأصفر بأشعّة الشمس والأمل والضحك والدفء
والسعادة والطاقة يجعل الشخص يشعر بالعفوية والسعادة ويساعد على تنشيط عمليات التفكير وتوليد أفكار جديدة.”(5).
+ في قراءة للصورة بالغلاف :
– قطع الفسيفساء لعلها ترمز الى فسيفسائية المحتوى بالمجموعة الشعرية وقد ترمز الى فسيفسائية الحياة.
– المرأة العازفة بالناي لعلها ترمز الى الحياة باعتبار ان المرأة هي رمز الولادة والحياة ولباسها الأسود لعله دليل على مأساوية القليل من العزف.
+ في قراءة العنوان :”قليل من الناي”:
– الناي :يعبر صوت الناي عن الأنين ويتم وصْفُه بالصوت الشجي والعذب
والناي آلة موسيقية نفخية أي تصدر صوتا موسيقيا عند النفخ في الثقوب
الموجودة فيها(6).
يقول الشاعر مهدي علي محمود الشوكة:
يا عازف الناي صوت الناي أبكاني//كأنك تعزف من أوجاع حرماني
يا ناي مهلا إن الدمع يحرقني//كأنه جمر يسكن بين أجفاني.
يا صاحب الناي خذ من أضلعي// نايًا لعل غائبي يسمع أشجاني
يا ناي مهلا إن الحزن يسكنني// وصوتك المجروح أوجعني فأبكاني
وفي هذا الاطار هل من علاقة رمزية بين عناصر الغلاف الخارجي(الالوان والصورة) والعنوان؟؟
ان الشاعر الذي حدّ من صوت الناي بقوله بالعنوان ” قليل من الناي”
قد يعتبر المتلقي بالربط مع صورة المرأة التي ترتدي اللون الأسود وتعزف بالناي وقد ترمز للحياة ان الشاعر قد يرمز الى “قليل من الناي” الى النسبة القليلة من الأنين بالحياة وهو الجانب الحزين والكئيب في الحياة في مقابل الجانب الكثير الجميل في الحياة فرضيّا.
لعلنا في صلب القصائد نقف على رمزيته .والرمزية تتماشى ونظرية التلقي الحديثة:
ج- المجموعة الشعرية ونظرية التلقي الحديثة على مستوى المضمون:
+ انعدام التصديرات للقصائد وهذا يفتح أمام القارئ العديد من زوايا النظر في التأويل بما في التأويل من نسبية فعدد التأويل للقصيدة الواحدة على عدد القراء ومن ثمّ يكون الاثراء وديمقراطية الاختلاف في الرأي.
+ الفجوات النصية : لقد بلغ عدد الفجوات النصية (…) مائة وستّ وعشرين(126) فجوة نصية أي ما يقارب ثماني(8) فجوات لكل قصيدة وهذا يفتح باب التأويل لدى المتلقي لملء هذه الفراغات النصية.
+ تواتر السؤال بالقصيدة الواحدة :
وصناعة السؤال من أدوات الشعر الحديث.
ان وضع الأسئلة بغرض” توْريط” المتلقي في التأويل للإجابة عنها..
ان نقط الاستفهام انتشرت على أرجاء قصائد المجموعة الشعرية وقد انتشرت أكثر في قصيدة “زوبعة الايام” فيقول الشاعر متسائلا:
ضاقت بي الدنيا
وحتى الحب ضاع وسلب كل الخطوات
الى متى السبات؟
أين سعادة النفس؟
مللت من المشي في غرفة فارغة
حتى من ذرات الهواء
متى يا رحيق الحياة؟
يا نكهة عشقي؟
متى يرقص قلبي في نشيد الصباح؟
+ الأسلوب الانزياحي:
استخدم الشاعر ظاهرة الأسلوب الإنزياحي التي اهتمت بها الدراسات الحديثة:
“الانزياح باعتباره قضية أساسية في تشكيل جماليات النصوص الأدبية وبوصفه أيضا حدثا لغويا في تشكيل الكلام وصياغته.
والإنزياح هو خروج الكلام عن نسقه المثالي المألوف أو هو خروج عن المعيار
لغرض قَصَدَ إليه المُتكلمُ يَخْدمُ النص بصورة أو بأخرى “(7)
والأسلوب الإنزياحي يضفي جمالية على القصيدة مما يجعل المتلقي يستمتع بالتأويل وهو يغوص في بحر المجاز وجماليته.
+ أنواع الأسلوب الانزياحي:
– الانزياح الدلالي: استخدم الشاعر الأسلوب الإنزياحي الدلالي القائم على:
*الكناية :
– قصيدة ” سأضمّك في قلبي أيها الزهر”:
كنّى عن الحبيبة بالفردوس الذهبي وبالزهر “يا أيها الفردوس”
– قصيدة ” أجنحة المعنى”
هو ذا الافق ينتظر قبعة مزدحمة من أبناء الشمس
أين أنت يا عاصمة القلوب؟
يا زهرة الرمان والنارنج
*الاستعارة:
– قصيدة “سأضمك في قلبي أيها الزهر”
استخدم الاستعارة( آه يا قمري) (يا عطر الهوى)
التشبيه: يقول في قصيدة “وحيدا تقاسم صمتك”(وانت مثل كبسولة الوقت..)
(يا نمق اللحن ولون العنبر كالنور/ كقمر بغداد..)
– الانزياح التركيبي: تقديم المفعول فيه للمكان:
قصيدة “صحوة قبة تلبسني”:
بين خاصرة القلب
وقصب الفيضان
تورد عروسة الصباح
– الانزياح الايقاعي: استخدم الشاعر التكرار للتأكيد على معاناة الوحدة
لقد تكررت عبارة “حين تكون وحيدا “خمس مرات في قصيدة “وحيدا تقاسم صمتك” فكانت كاللازمة والترديدة الحزينة التي تؤثر على نفسية المتلقي ليتفاعل مع النص.
+ الرمزية:
* رمزية عناوين القصائد:
لقد وردت أكثر عناوين القصائد في أسلوب انزياحي دلالى يقتضي من المتلقي تفكيرا وتأويلا .ومن بين عناوين المجموعة الشعرية:
– شموس من القصدير تطلع في الصدى.
– امنح الوشم لذاكرة البيدر.
– قلبي كلمات طاعتها الاضواء
هذه الرمزية تجعل المتلقّي يغوص مع متعة التأويل والوقوف على جمالية المعنى
*رمزية الشخصيات المستحضرة أفلاطون/شهريار/غادة السمان/ نزار قباني/قيس بن الملوح/زرقاء اليمامة…
+ المفارقة بين – عنوان المجموعة الشعرية “قليل من الناي”
– آخر قصيدة” قليل من الناي”
انه يختم مجموعته الشعرية في القصيدة الاخيرة بتضمينها بيتا مقتبسا من قصيدة “المواكب” لجبران خليل جبران.
أعطني الناي وغني
فالغناء سر الوجود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
والشاعر جبو بهنام بابا يضرب مثلا لوجع الانسان الذي يلاحقه بأنين الناي المستمر بعد أن يفنى الوجود..انه أنين أزلي.
وهو هنا قد يتفق مع جبران خليل جبران في قوله في قصيدته المواكب:
الخير في الناس مصنوع اذا جبروا // والشر في الناس لا يفنى وان قبروا
وأكثر الناس آلات تحركها// أصابع الدهر يوما ثمّ تنكسر
وفي هذا الاطار قد يتفاعل المتلقي مع النص متسائلا:
– هل ان بين عنوان المجموعة الشعرية “قليل من الناي” وآخر قصيدة في المجموعة الشعرية “قليل من الناي”حين ضمّنها بيتا لجبران خليل جبران(وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود) مفارقة؟:
– هل أن هذه المفارقة تكسر أفق انتظار المتلقي وتنْتهكُ حرمة تفاؤله الذي افترضه في البداية حين اعتبر عنوان المجموعة الشعرية مشحونا بمفارقة:
– باعتباره يجهر بالقليل ويخفي الكثير. “فقليل من الناي” يعني القليل من الأنين وهو يُخفي الكثير فالعنوان محمول بالقوّة على ثنائية القليل والكثير.
– باعتباره يعلن قليلا من الألم و يخفي كثيرا من الأمل خاصة بالربط مع اللون الاصفر بالغلاف والدال على الأمل واللون الأسود الدال على الألم والوجع.
ان المجموعة الشعرية حين خُتمتْ قصيدتها الأخيرة بتضمين بيت جبران خليل جبران(وأنين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود)هي تُلغي كل أمل افترضه المتلقي من عنوان المجموعة..
– ان هكذا تساؤل يُجسّد جمالية التلقي النابعة من محور العلاقة التفاعلية بين النص والمتلقي…
انها الدهشة الجمالية وخيبة انتظار المتلقي ..هذه الدهشة التي تكسر افق انتظار المتلقي هي جوهر جمالية النص الادبي.
وفي هذا الاطار أختم وأقول:
“تُعد نظرية القراءة الحديثة وجماليات التلقي أبرز اتجاه نقدي ظهر في ما بعد البنيوية.
وقد أعادت هذه النظرية بآلياتها الاعتبار للنص وقارئه لأن النص لا يوجد الا بوجود قارئ منتج كما تهدف نظرية التلقي الى تغيير النظرة نحو عملية القراءة
من الاستهلاكية الى الانتاجية فالنص حسب روّاد هذه النظرية يتوالد ويتجدد بتتابع القراءات وتباينها المرهون باختلاف مستويات قرائها.”..(8)
سلم قلم الشاعر جبو بهنام بابا الذي جعل مجموعته الشعرية “قليل من الناي” في خدمة نظرية التلقي الحديثة فارتقى بالقارئ من قارئ مستهلك الى قارئ منتج وانتقل به الى دور الشريك الفاعل الذي يملأ الفراغات ويُنتج من تأويلاته وقراءاته المتعددة دلالات جديدة للنص.
بتاريخ 25/11/2024
المراجع:
https://www.asjp.cerist.dz> article(1)
نظرية التلقي في الفكر الغربي..الجذور والمفاهيم
https://www.iasj.net>iasj>pdf(2)
التلقي بين ياوس وآيزر.
Https://www.alarabiya.net>..(3)
سر عن الالوان والشخصية..اختر ما تحبه واكتشف- العربية.
https://aawsat.com>home>article(4)
ان كنت من محبي اللون البني..اكتشف ابرز دلالاته- الشرق الاوسط.
https://www.alarabiya .net>..(5)
تعرف على سيكولوجية اللون الاصفر وتاثيره على حالتك المزاجية- العراقية
https://www.ejaba.com>question(6)
ماذا يسمّى صوت الناي- اجابة-
https://journal.oiu.edu.sd>fal>view(7)
الانزياح في التراث البلاغي امجلة كلية اللغة العربية
https://www.asjp.cerist.dz>article(8)
أبعاد التجربة الجمالية ومستويات التلقي عند ياوس وآيزر.