حراسة
في زاوية منسية من هذا العالم، حيث لا يُسمع سوى صدى نفسها، وجدت روحها هدوءًا غريبًا في المكان الذي قادتها إليه الصدفة، أو ربما كان قدرًا مخفيًا. بعيدًا عن كل شيء يربك الروح: عن رسائل الصباح المكررة، وعن الصور التي لا تختلف عن بعضها، وعن ضجيج التقنية الذي بات يطارد كل لحظة هدوء. هنا، في هذا السكون، كانت تستعيد شيئًا منها، شيئًا نسيته في زحمة الأيام. هنا فقط، كانت تسمع صوتها الحقيقي، تتلمس أصابعها التي اشتاقت لملامسة القلم، كأنها تكتشف ذاتها من جديد بين صمت الجدران.
تحدثت بصوتها الداخلي قائلة:
“كم اشتقت لهذا السكون! كم اشتقت أن أكون وحدي، بلا أصوات تتداخل في رأسي. كيف ضاع كل ذلك؟ متى تحولت الكتابة إلى عبء، إلى مكان آخر بعيد؟”
ومع كل هذه التساؤلات، حضرت أمها. دخلت المكان بصمت كأنه يحمل معه سنوات من الحنان والحكمة. نظرت إليها، نظرة مليئة بالمعرفة، وكأنها تقرأ أفكارها دون أن تنطق بحرف.
• هل أنتِ بخير؟ سألت أمها، لكنها لم تكن تنتظر إجابة؛ فهي تعرف.
ابتسمت بهدوء وكأنها تستجمع كلمات كانت مبعثرة في زوايا عقلها:
• أمي، هنا أستطيع أن أكون أنا. بعيدًا عن كل تلك الأشياء التي كانت تُثقل روحي. لكني في الوقت نفسه، أشعر بأنني غريبة عن هذا المكان. هل يمكن للروح أن تجد راحتها في العزلة، وفي الوقت نفسه تخشى السكون؟
الأم، بتلك الابتسامة الهادئة التي تحمل معنى أعمق من الكلمات، قالت:
• القوة ليست في التماسك الظاهري يا ابنتي، بل في معرفة متى نترك للأشياء أن تتداعى لتبني نفسها من جديد.
أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تبحث عن تلك القوة التي تحدثت عنها أمها. شعرت بأن هشاشة خفية تتسلل إلى قلبها، قلب اعتاد أن يكون صلبًا كالسنديانة.
• أمي، لطالما كنتِ تقولين إنني مثل جدي، عنيدة وقوية. لكن الآن، أشعر وكأنني قطعة مطاط، أتأرجح بين القوة والضعف. هل يمكن أن تكون الكتابة هي السبب؟ يقولون إنها أضعفتني، وإنني صرت أعيش في عالم وهمي لا يمت للحقيقة بصلة.
ابتسمت أمها مرة أخرى، وقالت بحنان عميق:
• العالم الذي نعيش فيه يا ابنتي مليء بالخذلان، لكن هذا لا يعني أن الطيبة خطأ. الطيبة ليست ضعفًا، بل هي خيار اختاره الأقوياء.
تسللت دمعة واحدة من عينيها، كأنها محاولة لغسل كل الألم الذي تراكم عبر السنين. الريح في الخارج كانت تعصف، لكنها لم تهتم. أغلقت نافذتها، وأغلقت أفكارها معها، تاركة نفسها تغرق في تلك اللحظة.
الضوء عاد يتسرب بخفة إلى الغرفة، والعصافير بدأت تنقر على الزجاج، وكأنها تناديها لتعود إلى الحياة. لكن في قلبها، كانت تعرف أن الطريق ما زال طويلًا.
أغمضت عينيها من جديد وقالت لنفسها: “ربما الضوء ليس بعيدًا كما كنت أعتقد. ربما في هذه العزلة، سأجد الإجابات التي كنت أبحث عنها.”
سمية جمعة سورية