إنّ عرض مسرحية “وين رايحين” بأيام قرطاج المسرحية الممتدة بتونس من 23 إلى 30 نوفمبر 2024 في دورتها الخامسة و العشرين، و هي مسرحية عن نص “الحافلة” لخالد جمعة ، سينوغرافيا وإخراج “حيدر منعثر” و إنتاج شركة الثقافة العراقية بالتعاون مع دائرة السينما و المسرح يمثل حدثا هامّا تعرفنا من خلالها على المسرح العراقي الجديد.
شارك في التمثيل ممثلون ساهموا في البناء الدرامي للمسرحية و هم : زهرة بدن و إياد الطائي و لؤي أحمد و لمياء بدن و طلال هادي و أمير إحسان و وسام بربن و أحمد نادم و سجاد شاكر. وتمحورت المسرحية حول البحث عن الوطن داخل النفوس قبل البحث عنه في الطرقات. ذلك أنّنا نجد في مفتتح المسرحية ثلاثة ركّاب في سيارة بلا وجهة يقودهم سائق مجنون يميل مع الزمان كما يميل ورابعهم راكب أبكم ،ليجمع بينهم قارع طبول تتلون نغماته حسب إيقاع الحياة .
في المشهد الأول نجد تماثيل أدمية تتابع البحث دون حراك .و هي ترمز إلى سواد الشعب الذي لا يهمه البحث عن الوطن بقدر ما يهمه السكون في المكان. ليبقى قلة من الناس يطرحون سؤال “وين رايحين؟” و هو سؤال الحقيقة و الحيرة.
يصطدم الرّكاب بسائق يغلبه النعاس و بسيارة خزان وقودها مثقوب ،فلم يبق لهم غير حكايات الماضي التي اشترط السائق أن تكون مشوّقة لنظفر بثلاث حكايات من تاريخ الوطن هي حكايات الوجع و الوهم و الضحك الغروتسكي و الألم التاريخي:
أمّا الحكاية الأولى فلأم تبحث عن ابنها الذي سقط دون أن تدري ، هاربة من جحيم الحرب فقضت حياتها تبحث عنه أملا في العثور عليه، فاتخذت من السيارة رحلة للبحث عنه علّها تجده في إحدى المحطات. و قد استعان المخرج بالصورة المصاحبة وبالأضواء الكاشفة و بالصوت القارع على طريقة روبرت ويلسون في تعويله على الصورة لبناء المشهد المسرحي.
أمّا الحكاية الثانية فهي لرجل في العشرينات من العمر حيث حصل على شهادة جامعية و شهادة طبية في الأن نفسه تؤكد إصابته بمرض السرطان بسبب إشعاعات الحرب فاعتزل الناس واصطحب تماثيل والديه و حبيبته ليتكلم معهم خوفا على عقله على طريقة بيجماليون و جالاتيا، و لكنّ الحيرة عند المشاهد في مصير هذه التماثيل التي اختفت و لم نر أثرا لتحطمها عند دخول داعش في المشاهد الأخيرة و كان بالإمكان أن يجعلوا هذا الشاب يحطم تماثيله تحطيم بيجماليون لجالاتيا.
أمّا الحكاية الثالثة فلفتاة هربت من مجزرة إبادة الجماعية التي لحقت بأهلها، فوجدت هذه السيارة ملاذا لها ، وفيها تستعرض حكاية طفولتها و معلّمها المرح الذي يكتب في السبورة “يحيا القائد” ، و بين محو الصبورة و الكتابة عليها يكون الشكل غائما على المعلم و التلميذ.
يتلاعب السائق /القائد بفصول الحكاية و مصير الأبطال فنجد في خطابه نوعا من السخرية السوداء و الكوميديا الناقدة خاصة في مشهد تأويل التحرش بالحاجة. فيلعب مع المسافرين و يلعب بهم .فقد أنكر معرفته بهم عند دخول داعش التي أرادت أن تعبث بمصير الرحلة لصالحها فباع أصدقاءه كما باعنا قادتنا إلى الأخر.
لم تكن المسرحية في شكلها و ديكورها البسيط على مسرح مدينة الثقافة بتونس غير محاولة جديّة وزع فيها المخرج الممثلون بطريقة جيّدة تناغما مع الصورة والعرض رغم الفوارق بين تأثير الصورة السينمائية وبين وصول الكلام عنها إلى المشاهد…فقد وجدنا أحيانا تحليلا من الممثلين لما ورد في الصورة …وهو ما يجعل العرض تُعاد بعض مشاهده .فيشعر المشاهد بالملل رغم اجتهاد الممثلين في تحويل المأساة إلى كوميديا جلبا للمتفرج،أو أن يجتهد بعض الممثلين في تبيئة المسرحية ذكرا لشارع بورقيبة بتونس ولأشهر أكلة ” اللّبلابي”…ورغم جعلنا ننتظر المفاجأة بتسليم المشاهدين ظرفا مغلقا أعلن مقدّم المسرحية أنّه لا يفتح إلاّ عند السّماح بذلك …فكان في النهاية …والحقّ أنّه مشهد محذوف من المسرحية ، فهمه أغلب المشاهدين قبل فتح الظرف حيث تربّى الداعشي في حجر الحاجة”” مين أين تعرف اسمي؟ أنا لا يعرف اسمي الصريح ولا يناديني بخالة فطم إلاّ من نام في حجري ولدا وكبر يافعا”. فلم يحدث المخرج مفاجأة…وربما المفاجأة في عدم المفاجأة. !!!علما أن هذا الانتظار للمفاجأة قد جعل المتلقي في حيرة وهي من الغايات الكبرى للمسرح …فأحسن فعلا المخرج بإدماج المتفرج في القراءة والعرض…فكسر الخسبة عبر الصورة الخلفية وعبر النصّ في الظرف بين أيادي المشاهدين.
رغم متعتنا والمخرج يقوم بتقنية ” التلخيص ” السّردي لـ 21 سنة بعد سقوط بغداد سؤالا حائرا ” وين رايحين”؟ .وكأنّ السؤال حول العراق وحول المسرح كذلك…فحلقات المشاهد منفصلة متصلة وعند لحظة الفراغ في بعض المشاهد يقوم المخرج بتقنية الكولاج لبناء كليّة المسرحية التي ظهرت بعض مشاهدها مسقطة أحيانا وخاصة مشهد داعش الذي لم يكن محكم البناء دخولا وخروجا من المسرحية …فبان أن المخرج يلخص مأساة العراق منذ 2003. رغم علمنا أن وظيفة المسرح ليست كتابة التاريخ بقدرما هي التفكير فيه وفلسفته ومعرفة أنساقه..ولنا وقفات أخرى مع المسرح العراقي…في زمن آخر…ربما ! ربما !!.