فى مثل هذا اليوم 5 ديسمبر 1979م..
جبهة الصمود والتصدي تقرر تجميد العلاقات الدبلوماسيّة مع مصر رفضًا للمبادرة المصرية للسلام مع إسرائيل، وذلك في ختام أوّل قمة لها في العاصمة الليبية طرابلس الغرب.
جبهة الصمود والتصدي هي جبهة أو حلف ضم كل من ليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. أُسست في نوفمبر 1977 بناء على دعوة الزعيم الليبي معمر القذافي للوقوف ضد المخططات الإسرائيلية في المنطقة، في أعقاب إعلان الرئيس المصري محمد أنور السادات في 9 نوفمبر 1977 أمام مجلس الشعب المصري استعداده للتوجه إلى إسرائيل.
عقدت جبهة الصمود والتصدي أوّل قمة لها في طرابلس الغرب في الفترة الواقعة ما بين 2–5 ديسمبر 1977. قررت جبهة الصمود والتصدي في أوّل قمة لها تجميد العلاقات الدبلوماسيّة مع مصر. واستطاع معمّر القذّافي تحويل جبهة الصمود والتصدي إلى كيان سياسي يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربيّ. وتمكنت جبهة الصمود والتصدي من أخذ موافقة أعضاء جامعة الدول العربية على قرار ينص على طرد مصر من جامعة الدّول العربيّة ونقل مقرها من القاهرة إلى العاصمة التونسيّة. وعقدت بعد القمة العربية في بغداد عام 1978. وهي القمة التي رفضت نهج السادات واعتبرت اتفاقية كامب ديفيد عملية استسلام من قبل النظام المصري للعدو الصهيوني، وضربة للتضامن العربي والنضال الفلسطيني. وفي قمتها الثالثة في دمشق أعلنت رفضها في دمشق اتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها مصر مع إسرائيل في 17 سبتمبر 1978.
الإنحلال
غير أن هذه الجبهة لم تدم طويلاً، وبالتالي لم تصمد ولم تتصدّ، لأنها ما لبثت أن انهارت عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وقرار الرئيس العراقي صدام حسين شنّ الحرب عليها في 22 سبتمبر 1980. ولأن إسرائيل أرادت، ضمن ما أرادت، إثبات أن جبهة الصمود والتصدي “أضعف من أن تصمد أو تتصدى، فقد تعمدت اللجوء إلى التصعيد العسكري من جانب واحد وأقدمت، في 7 يونيو 1981، على ضرب المفاعل النووي العراقي تموز لإحراج العراق، ثم راحت تضغط عسكريا على جنوب لبنان لإحراج سوريا.
بعد إعلان السادات في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977 أمام مجلس الشعب استعداده لزيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكنيست «الإسرائيلي» لتحقيق السلام، شكلت ليبيا، سوريا، العراق، منظمة التحرير الفلسطينية، وأيدتهم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ما عرف باسم «جبهة الرفض»، أو«جبهة الصمود والتصدي»، بناء على دعوة الرئيس الليبي معمر القذافي. وقرر أعضاء هذه الجبهة في ديسمبر/كانون الأول 1977 تجميد العلاقات مع مصر. واستطاع القذّافي ومعه سوريا، تحويل الجبهة إلى كيان سياسي يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربي، وتمكنت من أخذ موافقة أعضاء الجامعة العربية على قرار ينص على طرد مصر من الجامعة إذ استمرت على نهجها، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
بعد ذلك انعقدت القمة العربية في بغداد سنة 1978، وهي القمة التي أرسلت بعثة للتحدث مع السادات وعرض تقديم 5 مليارات دولار مساعدات مالية لمصر بشرط تراجعه عن السلام، فرفض مقابلتهم، كما رفض العرض؛ فعملت الجبهة على طرد مصر من العديد من المنظمات الدولية؛ فوقع على عاتقي باعتباري مديراً للهيئات الدولية بوزارة الخارجية العبء الكبير في التصدي لهذه المحاولات.
المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت في مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي العاشر في فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر المقرر افتتاحه في 8 مايو/أيار 1979. وعندما شرعت القاهرة في التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة. كنت عضواً في الوفد المصري الذي تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامي، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامي يتعامل من دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر في مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان أثناء التحضير للقمة يعطي مواعيده من دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب..»، وهو ما جعلني أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة، وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامي، وكانت الأدبيات السياسية مملوءة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة.
جاءت ساعة السفر، وبينما نحن في صالة كبار الزوار بمطار القاهرة، تلقى التهامي مكالمة هاتفية تفيد بأن «العرب لن يتركوكم وشأنكم في المؤتمر.. وقد يتعرض أعضاء الوفد للاعتداء». بعدها بدأ التهامي يشيع بين أعضاء الوفد أن الأمور ستكون صعبة علينا، وأن مسألة طردنا من «المؤتمر الإسلامي» ماضية إلى النهاية، وبالتالي لا بد من عدم السفر قبل أن نجتمع بمبعوث المنظمة الذي نصح ملك المغرب بالاستماع إليه قبل السفر. كان رد الكثير من أعضاء الوفد على التهامي بعبارة «اللي تشوفه»؛ لكنني قلت له: «يا حسن بك.. يجب أن نسافر ونحضر القمة.. ذهابنا سيمكننا من تغيير الموقف، وربما نتمكن من استصدار قرار جيد، أو منع قرار سيئ، أما الغياب فسيكون ضاراً بمصلحة مصر». لكن الذي حدث أنه في 6 مايو / آيار 1979، وصل القاهرة السفير يوسف سيلا، مبعوث الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. بغرض إقناع الحكومة المصرية بعدم حضور المؤتمر، لتفادي حدوث مجابهة مع بعض الدول العربية التي قطعت علاقاتها مع مصر، موضحاً أن وفود بعض الدول ستنسحب من المؤتمر إذا حضر الوفد المصري. أسفرت هذه التطورات عن غياب مصر، وانتهى المؤتمر بتعليق عضويتنا في المنظمة.
موقعة سريلانكا
نجاح «جبهة الرفض» في تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامي» ـ من دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجهاً لوجه ـ شجعها على المضي قدماً في محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدي له بمنتهى القوة، والحزم، والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتباراً من الاجتماع الوزاري لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذي انعقد في كولومبو بسريلانكا في يونيو/ حزيران 1979 ، وهو اجتماع تحضيري للقمة التي كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد في هافانا خلال شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام. والحقيقة أن وزارة الخارجية، وفي القلب منها إدارة الهيئات الدولية التي كنت أترأسها، قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» في عزل مصر بإخراجها، أو تجميد عضويتها في المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حرباً دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدي لها بشجاعة وبسالة.
وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو/ حزيران ، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعي الجبهة لوقف عضوية مصر في «عدم الانحياز»، انطلاقاً من المعلومات التي وفرتها السفارة المصرية في سريلانكا في هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل في الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلاً من التخندق في مواقع دفاعية.
كانت اللجنة التحضيرية في هذا الاجتماع الوزاري تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات في دول الحركة الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شيء أبداً من دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعاً. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا في الجانب الآخر، وأصبحت وحدي ضدهم في هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع «إسرائيل». كان رئيس الجلسة سفيراً من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبي)، وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالي لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزاً؛ فبحثت عن نقاط الضعف التي يمكن أن أستفيد منها في التراشق الذي أعرف أنه قادم لا محالة.
بدأت بمناقشة البند الخاص بالشرق الأوسط الذي يتضمن مشروع قرار مقدم من دول «الرفض» بوقف عضوية مصر في «عدم الانحياز»، وإدانة اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ـ «الإسرائيلية». كان هجوم بعض الوفود العربية، لاسيما أعضاء «الرفض» شديداً ضدنا، لكن نبرة الدول الأخرى كانت أقل في حدتها بنسبة تصل إلى 50%؛ فالدول العربية لديها إصرار كبير على طردنا من الحركة، أما الدول الإفريقية والآسيوية فغير متحمسة، كان حديثهم في الجلسة يصل إلى حد لوم مصر على توقيع اتفاقية السلام لوماً شديداً، لكنه لا يصل إلى حد المطالبة بطردها من الحركة.
تابع رئيس الجلسة المعركة حامية الوطيس مع ممثلي «الرفض»، وقال: أرى أن هناك consensus (توافق آراء) على طرد مصر من الحركة، وإدانة اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وبالتالي سيرفع القرار إلى اللجنة الوزارية، التي سترفعه بدورها إلى القمة المقبلة في كوبا. وبينما يرفع رئيس الجلسة يده بالمطرقة لإعلان «توافق الآراء» صرخت فيه بأعلى صوتي: قف «stop»، فأخذ الرجل، أو «كش»، وأنزل يده، ونظر لي، ولم يعلن اتخاذ القرار. في هذه اللحظة دخل مندوب الهند على الخط، وقال له: سيادة الرئيس أرى أنك متعجل في إعلان «توافق الآراء»، وطلب «نقطة نظام»؛ فأعفاني من القيام بمناورة أو مماطلة سياسية filibuster كنت أستعد للقيام بها، عبر إلقاء خطبة طويلة جداً لإضاعة وقت الجلسة، وهو ما جعلني أحتفظ بهذا الإجراء لوقت لاحق.
بدأ بعض العرب الذين كانوا مائلين لصف مصر مثل سلطنة عمان والصومال بالتدخل. قالوا لرئيس الجلسة: ليس من الطبيعي أن تقول إن هناك (توافق آراء) على طرد مصر، ونحن لم نأخذ فرصتنا في الحديث والتعبير عن مواقف بلادنا من هذا الأمر. عندها أخذ رئيس الجلسة في اعتباره أن هناك وفوداً لدول لا تتحدث بذات اللهجة المتشددة ضد مصر، وأنها لم تعبر بعد عن مواقف بلادها، وأنه من المبكر اعتبار أن هناك «توافق آراء» بشأن هذا البند الخاص بالشرق الأوسط.
جاءني في اليوم التالي رئيس الجلسة، وقال لي: سيد موسى سأقول في تقريري الذي سيرفع للوزراء «كان هناك رأي أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفي المقابل كان هناك رأي يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافياً جداً بالنسبة إلي لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم الانحياز» في مهده باللجنة التحضيرية. يمكنني القول: إن صرختي هذه في رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» في إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيداً كتوصية رسمية إلى قمة كوبا.
تجدد الحرب في هافانا
خلال الفترة بين 3 – 9 سبتمبر/ أيلول 1979، انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز في هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية في أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبد المجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقي، ليدعمه باتصالاته الإفريقية. كان الهجوم عنيفاً على مصر في اللجنة السياسية، التي كان يترأسها السفير عصمت كتاني وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة، وهو من الأكراد العراقيين، وكان شخصية جيدة جداً، وعاقلة، بل وراقية، وكان لي معه بالطبع سابق معرفة.
في بداية الجلسة قلت لكتاني ـ الذي تقود بلاده «جبهة الرفض» ـ أريد التحدث في البداية لمدة 5 دقائق، وذلك في البند الأول الخاص بمصر ووضعها (وذلك حتى يكتمل حضور الدول الداعمة لمصر والتي تم الاتفاق معها على موقف واضح ضد طرد مصر من الحركة)، فرد عليّ الرجل باسماً بقوله: charity begins at home، بما معناه بالمثل المصري الدارج «ما يحتاج إليه البيت يحرم على الجامع». كان كتاني متمرساً ومتوقعاً ما سأقوم به، ومن هنا لجأت إلى تكتيك ال filibuster أي «المماطلة الخطابية»، وتضييع وقت الجلسات في المناكفات والمناقشات، وتمكنت من كسر «توافق الآراء» داخل هذه اللجنة على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، بعد أن تكتل معنا نحو 17 دولة، في مقابل 20 دولة أخرى ضدنا. وكان تقرير اللجنة الذي قدمه رئيسها إلى القمة يماثل ما صدر عن المجلس الوزاري في سريلانكا، بأن الأغلبية تؤيد تعليق عضوية مصر في الحركة، ولكن هناك أقلية معارضة، وهذا كاف لنسف توافق الآراء.
الوفدان السوري والفلسطيني، كانا في غاية القسوة ضد مصر في هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلي مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعاً في هذا الأمر. لكنني أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقي، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لي«لا تؤخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصياً.. وهي السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال في جلسة هادئة للغاية، فالكل نظر إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذي خسر كثيراً جداً من مصداقيته بهذه اللقطة؛ ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى في الجلسة. وربما يسهران معاً. وانتهت المناقشات التاريخية في اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لمصلحة الطرد، والأقلية غير موافقة.!!