قراءة نقدية وفق مقاربة تحليلية نفسية:
الشاعرة الهام عيسى (سوريا)
القصيدة:”رحم المسافات”
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
قراءة نقدية وفق مقاربة تحليلية نفسية:
1- العنوان: “رحم المسافات”
أسندت الشاعرة إلهام عيسى عنوانا لقصيدتها “رحم المسافات” وهو مركب بالإضافة .ورد المضاف والمضاف اليه في علاقة محكومة بالتنافر :
لئن كان المضاف(رحم) يقتضي التقارب فالمضاف اليه (المسافات) يحيل على
التباعد .فأي تقارب يمكن أن يتغلب على التباعد؟
– ان مفردة الرحم مقترنة بعبارة (صلة الرحم) والرسول حثّنا على صلة الرحم في حديثه “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَصلْ رحمه”.
– المسافات تحيل على التباعد والمسافة مقترنة بقولنا حين نعبر عن التباعد “لا بد من اتخاذ مسافة من ..”.فأيّة رمزية للمسافات؟
والعنوان “رحم المسافات” محمول على المجاز لعلنا نقف على معناه في غضون التحليل لقصيدة الشاعرة الرباعية.
2- القراءة النقدية للرباعية وفق مقاربة تحليلية نفسية:
اوّل ما يطالعنا منذ الوهلة الاولى ان الرباعية كاملة محكومة بأسلوب المقابلة باستخدام الطباق اللفظي(دروب /غياهب- الضوء/الظلام- دمع الاستلهام/هديل الحمام(حاسة البصر/حاسة السمع)- لقاء المسافات/ الشوق- حليب اللواعج/ أوردة الخيال).
لعل هذه المقابلة التي غطّت أرجاء القصيدة الرباعية تعكس المقابلة التي تضمّنها العنوان (رحم المسافات) .
لعل هذه المقابلة بين المتناقضات تشي بالصراع النفسي والتمزق الداخلي الذي تعيشه الشاعرة مع هذه المسافات التي قد ترمز بها الى البون الشاسع الذي يفصلها عن غيرها.
تستهل الشاعرة رباعيتها بصفة “حزينة” وهي تعبر عن مشاعر الحزن لتسندها الى الجماد “دروب” التي أضافت اليها الضوء.
انها مفارقة عجيبة اذ كيف للإيجابي أن يُشحنَ بالسلبي؟
فكيف لدروب الضوء أن تكون حزينة؟
فالدروب هي الطرق التي تحقق الوصول الى الهدف وهي مقترنة بالمثل القائل
“من سار على الدرب وصل”.
والضوء ينير هذه الدروب ويضيئها للوصول الى الهدف.
وبالتالي فكيف لدروب الضوء أن تكون حزينة؟
والشاعرة وفق أسلوب انزياحي تركيبي قائم على التقديم والتأخير قدّمت الخبر على المبتدأ لان الخبر يستحق الصدارة في الكلام للتوكيد.(حزينة دروب الضوء)
ان الشاعرة في هذا السياق تؤكد على مشاعر الحزن التي تنتاب دروب الضوء.
ان هذه المفارقة بين الحزن ودروب الضوء نجد لها مبرّرا عند اتمام الحديث بالسطر .تقول الشاعرة:
“حزينة دروب الضوء المنبعث بعمق غياهب الظلام”.
ان ضوء الدروب والطرق التي تؤدي الى غاية الشاعرة ضئيل جدا لأنه ينبعث من أعماق الظلام فلا نكاد نراه وبالتالي:
– هل أن ما يُرادُ الوصول اليه يصعب تحقيقه ؟
– هل أن الأمل يعسر على الشاعرة التشبث به؟
– هل أن العراقيل تحُول دون تحقيق ما تصبو اليه النفس؟
ان هذه المقابلة المعنوية بين دروب الضوء وغياهب الظلام تليها مقابلة معنوية
أخرى . فتقول:” نستلّ منها دمع الاستلهام والمداد وهديل الحمام”
فلئن كانت المقابلة الأولى على مستوى حاسة البصر ففي المقابلة الثانية تقحمُ الشاعرة الى جانب حاسة البصر حاسة السمع .
وهنا يحدث الصراع بين حاستي البصر والسمع والتمزّق بين دمع الاستلهام والمداد وهديل الحمام.
والاستلهام مصدر من فعل استلهم واستلهم الأمر: جعله مصدر إلهامه وإبداعه.(معجم الرياض).
وفي هذا الاطار:
– هل أن الشاعرة تجد صعوبة في مصدر إلهَامهَا وإبداعها؟
– هل انها تجد ضغوطات على ابداعها وخاصة عل حرية الرأي التي هي حق من حقوق المبدع؟
ان الشاعرة يحدوها الأمل ولا تستسلم لما يعترض دروب ضوئها من ظلام وظلم لتستبدله بما تسمعه بداخلها من هديل الحمام وكأني بها تتناص في حديثها مع قول جبران خليل جبران”
في قلب كل شتاء ربيع يختلج// ووراء كل ليل فجر يبتسم.
وهي أيضا تتناص بهذا التفاؤل مع الشابي وهو يقول:
ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.
ان شاعرتنا الهام عيسى ستكسر دمع الاستلهام لتستبدله بسماع هديل الحمام.
انها تحوّل الضغوطات الى موارد .انه التحدي الذي جعلها لا تبالي بالعراقيل لتتجاوزها من أجل ابداعها.
وفي هذا الاطار يمكن ان نعتبر ان الشاعرة قد استخدمت الكناية فكنّت عن ابداعها والهامها بدروب الضوء باعتبار ان ابداعها هو الذي ينير دربها في الحياة وكنّتْ عن العراقيل التي تواجهها بغياهب الظلام .
وفي هذا الاطار كأني بالشاعرة وهي تستخدم ضمير المتكلم الجمع (نحن) تتبنّى قضية كل المبدعين الذين يواجهون عراقيل أمام ابداعهم ومن ثم تدعو الى تقريب المسافات فيما بينهم فتقول:
نستلّ منها دمع الاستلهام والمداد وهديل الحمام.
وبالتالي فهي تتحدّى كل من يقف ليغطي دروب ضوئها.
ورغم ان الشاعرة أخبرتنا بأن دروب الضوء( التي هي كناية عن ابدعها ) حزينة لانها تنبعث من عمق غياهب الظلام (كناية عن العراقيل التي تواجهها).
فهي لا تستسلم ولا تنهزم فتشبه دروب الضوء المنبعث بعمق غياهب الظلام بنطفة لقاء المسافات.
والنطفة هي خلية تناسلية ذكرية ناضجة .والتناسل تقارب وبالتالي فدروب الضوء
رغم ضآلتها وباعتبارها بصيصا من الأمل ستقرب المسافات بين المبدعين لتكون صلة الرحم التي تصل بين المبدعين وتجعل التنافر تقاربا و تحاببا والبعد لقاء. فتقول:
“كنطفة لقاء المسافات تبللها محبرة الشوق”.
انه الشوق الى النور والضياء لينير وليضيء دروب ابداعها.
انه الشوق الى اللقاء بين المبدعين لتحويل اليأس الى أمل والظلام الى نور وضياء.
وأكثر من ذلك فدروب الضوء رغم حزنها فهي تمنحها الحليب الذي تدرّه اللواعج عليها.
واللواعج هي الاحزان والاشجان والحليب غذاء قد ينتشل الشاعرة من أحزانها ليغذي خيالها وابداعها. فتقول:” تدرّ حليب اللواعج في أوردة الخيال”
ان الشاعرة استخدمت معجمية لها علاقة بصلة الرحم (رحم المسافات/ نطفة لقاء المسافات/ حليب اللواعج / اوردة) وهذا في خدمة التقارب والتراحم والتجاور بعيدا عن التنافر والتباغض وقطع صلة الرحم في معناها المجازي.
ان الشاعرة إزاء هذا الصراع الذي يزدحم بداخلها هي بين مجموعة الثنائيات التي من جهة تعوق إبداعها ومن جهة أخرى تمنحها الأمل الذي به تتحدى الواقع المرير مع المبدعين.
ان نفسية الشاعرة واعية ومعنوياتها مرتفعة وعزيمتها قوية وارادتها حديدية لتواجه كل العراقيل بهذا التحدي رغم ما ينتابها من تمزّق بين المتناقضات
ان الشاعرة تتوق الى التقارب بين المبدعين الذي عبرت عنه بامتياز من خلال ذاك الصراع بين المتناقضات والتمزق بين الثنائيات لتحقيق ما تصبو اليه نفسها وقد عبرت عن ذلك بامتياز باستخدام معنى صلة الرحم وهي في ذلك ذات مرجعية دينية وأخلاقية.
سلم قلم الشاعرة الهام عيسى على بلاغة طرحها لهكذا قضية.
بتاريخ 13/ 12/ 2024