المكان في نص الهام عيسى : المسافات والدروب نموذجا
قراءة تحليلية لشذرة ” رحم المسافات ” للإعلامية والشاعرة إلهام عيسى /سوريا
بقلمي سعيدة بركاتي /تونس
تقول الكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي :
تساءلت دائما … !
مَ هي نوعية المسافة التي تفصلنا عما نشتهي ؟
أتراها تقاس بالمكان ، أم بالوقت ؟
أم بالمستحيل ؟
“””””””””””””””””””””””””””
#القراءة : انطلاقا من العنوان عتبة النص ،
هو مركب اضافي :رحم مضاف و المسافات مضاف إليه : فهل للمسافات رحم ؟ و هل لها أجنة ؟ و موعد ولادة ؟
انطلاقا من شرح معنى الكلمتين نحاول أن ندخل هذا الرحم و نرى طبيعة الجنين الذي يحمله .
رحم : وجمعه أرحام : موضع تكوين الجنين و وعاؤه في البطن ، مشتق من الفعل المجرد رَحَِمَ ، رحما و رحمة ، ورد في العديد من الآيات القرآنية : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء : آل عمران 6. و أطيعوا الله و الرسول لعلكم ترحمون : آل عمران 132. ناهيك عن أسماء الله الحسنى : الرحمن و الرحيم .
المسافات بمفهوميها : مقدار المسافة بين الأشياء وحدتها المتر ، والزمن له مسافة ، الساعة ، ظل الشمس ، الشروق و الغروب … جمع لمسافة . فلا وجود للزمان دون مكان و لا للمكان دون زمان .
فهل تعاملت المبدعة مع المكان كمكان واقعي أم مكان متخيل؟
ثم مَ هي العلاقة بين الرحم و المسافات ؟
تعتبر الأماكن مخازن للذكريات و مدونة أحيانا إن ضاع منا القلم و القرطاس منهم من اتخذ الطريق و حوافه ، والجدران التي كانت شاهدا عن المعاناة في السجون و المعتقلات ، ثم ارتقت الى فن ” الجرافيتي ” ،
ومن اتخذ الأشجار و جذوعها و حفر عليها تاريخ اول لقاء او أول الحروف من الأسماء … فالمكان له تأثير و انعكاس باعتباره “شخصية” تؤثر على و في صاحبها .حاضنة هي في آخر المطاف لكل ما يمر بنا . و كأن الذكريات أجنة في رحم المكان .نستحضرها بمناسبة وغير مناسبة ثم نعيدها أين كانت مخافة ضياعها …
رحم مسافات الشاعرة ؟
تقول :
حزينة دروب الضوء المنبعث بعمق غياهب الظلام
الحزن والعتمة حروف هذا السطر :رغم استشعار لتحدي الضوء الذي يولد من رحم الظلام ، و لكن انطفأت آخر شعلة بين الحزن و العتمة .
حزينة ، عمق غياهب الظلام : الدروب : بمعنى المكان وبمعنى أدق المسافات وعمق الزمن : غياهب الظلام … ذكرت غياهب في القرآن الكريم : و ألقوه في غياهب الجب : يوسف 10. فبصيص النور ضاع في غياهب الظلام .
وليس الحزن إلا صدأ يغشى “الدروب”.
نستل منه دمع الإستلهام و المداد و هديل الحمام :
استل الشيء : أخرجه وانتزعة ـ الإستلهام بمعنى استوحى ـ المداد : هو الحبر الذي يكتب به ـ هديل الحمام : صوت الحمام ، وهو من علامات التواصل فيما بينها .
الشاعرة جمعتنا معها في هذا السطر من خلال فعل “نستل”. جميعنا يعيش هذا التحدي و كأن ما جاء به السطر من الشذرة يعنينا جميعا سواء كان من قريب أو بعيد ، من منا لا يشتاق إلى أماكن نُقِشت على دروبها أروع و أجمل الذكريات حتى و إن كانت حزينة .
ما يُكتب بالدمع ليس كالذي يُكتب بالحبر ، قيل أن الدمع مطافئ الحزن الكبير ، و السطر الأول توشح بالحزن ، دروب غاب فيها النور فلم يغب اسم الشاعرة عن السطر الثاني ” الإستلهام ” مما يفسر العلاقة المتينة بينها و بين ما جاء في الشذرة ، فالمكان حقيقي و استحضرته في مخيلتها ، فهديل الحمام من أسبابه التواصل فيما بينه ، فحين جمعتنا الشاعرة كانت تبحث عمن يرافقها في هذه الدروب فالدموع دماء الروح ، و ربما تبحث عن رفقاء و أشقاء روح ضاعوا في هذه الدروب .
كنطفة لقاء المسافات تبللها محبرة الشوق
تدر حليب اللواجع في أوردة الخيال
سطران لهما علاقة وطيدة بعنوان الشذرة ” رحم المسافات”:النطفة هي قطرة مختلفة بين مائين ” إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج”الانسان 2.
اللواجع : شدة الحب الحارق ، و تدر : تفيد الكثرة فجرى وسال
العلاقة بين النطفة والحليب والظلمة التي كانت في أول الشذرة : النطفة في رحم مظلم تكبر فيه حتى تولد و ترى النور ، وصف أو انزياح لهذه الذكريات التي مرت بها المسافات و الزمن في آن واحد ،
الحليب حين يكون مدرارا نعرف جيدا أن الرضيع في حالة بكاء و في حاجة أكيدة للرضاعة باعتبار ربط فعل ” تدر ” ، و كأن لقاء المسافات أصبح مستحيلا ” في اوردة الخيال ” ( هذا الجانب التخييلي للمسافات في الشذرة ) ، لواجع سكنت الأوردة فجرت مجرى الدم فيها ، مسافات لسيقة بذات الشاعرة صعب الخلاص أو التخلي عنها .
“صراع الضوء ” عساه يولد من رحم العتمة و تحدي حين يستل الدمع الإستلهام .
من خلال الشذرة يتضح أهمية المكان الذي أشارت إليه الشاعرة أولا بالمسافات و ثانيا بالدروب و بينهما مسافة الزمن و الذكريات و المعاناة من خلال هذا الفائض من الحنين ، حنين منذ الولادة بل منذ بَعْثِ النطفة في الرحم إلى مرحلة إدرار الحليب ( و للأسف حليب اللواجع ) وهي المرحلة الأولى بعد الصرخة الأولى ، ثم ما تشكل في المكان من ذكريات .
تتنزل هذه الشذرة ضمن أدب المكان فعن صحيفة رأي اليوم تقول الكاتبة #سعاد_خليل : المكان هو المرجع الذي يوفر الانطباعات الأولية ، أو القناعات الإبتدائية حول ما دعاه تزفيتان تودوروف المتن أو النظام في المتن الحكائي الذي يكتنز مضمونات مأخوذة من الواقع و وظيفة هذا المكان تقف عند حدود توفير المرجعية التي تلتقي عندها فعاليات الابلاغ و التلقي ،فهي منطلق الابداع ، فمعاناة المبدع في واقعه الأصلي هي التي تحمله على الانعتاق من ذلك الواقع واستشراف واقع جديد ،و على أساس مدى المعاناة التي يمر بها المبدع في واقعه ستبدو علاقة النص بمرجعه .
فهو حجر الزاوية و بداية خيط الإلهام لدى الكثير من المبدعين خاصة في الرواية .
و المجال مفتوح للمتابعين للبحث و التقصي حول أدب المكان. فعلى سبيل الذكر لا الحصر العديد من الأدباء كتبوا في و عن المكان :
مثل ”زقاق المدق” و ”خان الخليلي” لنجيب محفوظ، و”لا أحد ينام في اسكندرية” لإبراهيم عبدالمجيد، و” اسكندريتي” لادوار الخراط، و” بيروت مدينة العالم” لربيع جابر، و”ثلج القاهرة” للنا عبدالرحمن.
وغيرها من الأعمال الروائية والسردية البارزة في تاريخ الإبداع والأدب العربي التي حملت أسماء أماكن. فالمكان مرتبط بالذاكرة و الماضي …
يقول الروائي يوسف القعيد :ما إن أبدأ القراءة و أكتشف أن المكان غير محدد أو افتراضي حتى تقل سعادتي إلى النصف .
و عن الكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن صاحبة رواية حدائق السراب تقول : الكتابة داخلي تميل إلى التفكير بالأماكن على نحو أممي أكثر ،و تبني مقولة :أن في كل مكان من هذه الأرض سرير لي .
#السطر_الأخير ، يقول الروائي و الشاعر و المترجم كامران حرسان في روايته كوكبة النسور : Kamiran_Hersan#
سيبكي هذه المرة لأجل الوجوه التي فقدها ، و لن يبكي الأمكنة ، لأن المكان لا يموت .
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️/ تونس