في مثل هذا اليوم 15 ديسمبر1973م..
وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر يزور دمشق للمرة الأولى، تبعتها زيارات أخرى ضمن جولات مكوكية بين سوريا وإسرائيل انتهت بالتوصل إلى اتفاقية فض الاشتباك بين الجانبين في أيار 1974
.في شتاء عام 1973، وبينما هدأت وتيرة المعارك في سيناء بين الجيش المصري وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وانشغل وزير الخارجية الأميركي “هنري كيسنجر” بمفاوضات وقف إطلاق النار بين الطرفيْن، وبمفاوضات رفع حظر النفط الذي فرضته السعودية ودول الخليج العربية على الدول الغربية؛ جاءته أنباء سعيدة من العاصمة النرويجية أوسلو. لقد حصل الرجل على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الزعيم الفيتنامي “لِه دوك ثو” بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصَّلا إليه بعد حرب ضروس أثبت فيها الفيتناميون صلابة ونفسا طويلا أعجز الجيش الأميركي، حتى قرَّر أن يتخلَّى عن أهدافه في جنوب فيتنام وينسحب من البلاد تدريجيا، بالتزامن مع انفتاح سياسي على نظام الزعيم “ماو تسي تونغ” الشيوعي في الصين.
بيد أن نبأ حصول كيسنجر على جائزة نوبل للسلام لعله أثار الدهشة، إن لم يكُن السخرية، في بقاع أخرى من العالم ارتبط فيها الرجل بسياسات هي أبعد ما يكون عن العدل والسلام. فلم تكُن دماء الزعيم الاشتراكي “سلفادور أليندي” قد جفَّت بَعْد في تشيلي بعد أن رعت واشنطن انقلابا عليه قبل أشهر أدى إلى تصفيته في سبتمبر/أيلول 1973 وتأسيس ديكتاتورية عسكرية دموية في البلاد، ولا دماء ثوار بنغلاديش الذين حاربتهم واشنطن بالتحالف مع باكستان قبل أن تُهزَم الأخيرة رغم الدعم الأميركي، ولا دماء المدنيين في كمبوديا الذين قصفهم الجيش الأميركي في خضم المعارك الأخيرة من حرب فيتنام، ولا دماء سكان إقليم تيمور الشرقية الذين دعمت واشنطن الحملة الدموية لنظام سوهارتو الإندونيسي ضدهم.
لقد سالت دماء كثيرة بسبب سياسات كيسنجر التي تُوصف بـ”الواقعية الشديدة”، ورغم تعالي أصوات كُتّاب ومفكرين كُثُر لمراجعة سيرة الرجل، بما في ذلك معارضوه من الأميركيين، فإنه نجح في الحفاظ على منزلة دبلوماسية منيعة حتى وفاته، ولعب دور المستشار لسلسلة طويلة من الرؤساء الأميركيين، كما أنه نال التقدير الرسمي الكافي بعد وفاته. أما ما دون الرسمي، فعلى الأرجح سيستمر السجال حيال سياساته ومدى أخلاقيتها سنوات طويلة
وُلِد “هاينز ألفرِد كيسنجر” عام 1923 لأسرة يهودية ألمانية في بافاريا، قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1938 حين لاح في الأُفُق خطر الهولوكوست. وصل هاينز إلى مدينة نيويورك على متن سفينة من لندن، وسرعان ما واجهت أسرته ظروفا اقتصادية عصيبة جعلته يعمل في صِباه في أحد المصانع. وقد التحق الفتى الألماني بمدرسة ثانوية في نيويورك، وتعلَّم اللغة الإنجليزية وإن احتفظ بلكنة بافارية لم تفارقه طيلة حياته. وفي عام 1943، حصل هنري على الجنسية الأميركية وهو ابن عشرين عاما، وبدأ من فوره خدمة بلده الجديد في خضم الحرب العالمية الثانية
بوصفه مواطنا أميركيا، جُنِّد كيسنجر في الجيش الأميركي أثناء الحرب، وقاتل على الجبهة الألمانية في بلده الأصلي ضد النظام النازي، وشارك في تحرير مُحتجزين من معسكرات الاعتقال النازية، كما خدم في الوحدات الاستخباراتية حيث لعبت معرفته بالألمانية دورا بارزا، وهي الفترة التي لقَّب نفسه فيها بـ”مِستر هنري”، لأنه اسم أميركي أكثر على حد وصفه. عاد هنري إلى وطنه بعد الحرب من أجل دراسة السياسة، ونجح في الالتحاق بجامعة هارفارد العريقة، ومكث فيها بين عامي 1947-1954 حتى أنهى الدراسة الجامعية والدكتوراه برسالة عن الدبلوماسي النمساوي المعروف “كليمنس فون مِترنيش”، صاحب الدور المُهِم في التسويات السياسية الأوروبية بعد سقوط نابليون في النصف الأول من القرن التاسع عشر .
شغل كيسنجر مباشرة مقعدا بين مُدرسي السياسة في الجامعة نفسها، لكن مسيرته الأكاديمية لم تمنعه من الانخراط في صُنع القرار، حيث أصبح في مطلع الستينيات مستشارا في إدارتَيْ الرئيسيْن جون كينيدي وليندون جونسون، ثم ترك المسار الأكاديمي برُمَّته حين عيَّنه الرئيس ريتشارد نيكسون مستشارا للأمن القومي عام 1969 ثم وزيرا للخارجية عام 1973 وحتى عام 1977. وعلى مدار سنواته في الإدارة الأميركية، كان كيسنجر في القلب من المفاوضات بين مصر وإسرائيل، وبين بلاده والنظام الشيوعي في الصين، وكذلك مع النظام الفيتنامي، من أجل إنهاء الصراعات العسكرية والسياسية بشروط مناسبة لواشنطن. لكنه كان حاضرا أيضا في اتخاذ قرارات بقصف المدنيين والإطاحة بحكومات ديمقراطية والقيام بحملات قمعية ضد شعوب كثيرة من أجل مصالح الولايات المتحدة
تمحورت نظريات كيسنجر السياسية حول الواقعية التي تبنّاها منذ سنوات دراسته. وقد اعتقد بأن الولايات المتحدة هي القوة الحُرة الأهم في العالم، ومن ثمَّ عليها أن تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة إلى أقصى مدى ممكن، لما في ذلك من حماية للعالم الحر بحسب رأيه، دون النظر كثيرا إلى الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بحق الشعوب الأخرى في تقرير مصيرها بعيدا عن الهيمنة الأميركية. ولذا كان لزاما على الولايات المتحدة في نظره أن تنتصر في الحرب الباردة وتعزز موقعها الإستراتيجي ومكانتها بوصفها قوة كُبرى في العالم بأي ثمن
شكَّل كيسنجر (يسار) علاقة وطيدة مع أنور السادات، وهو إطار حافظ على الاستقرار والمصالح الأميركية لعقود طويلة. (الفرنسية)
اشتهر كيسنجر أثناء توليه المسؤولية في الخارجية الأميركية بالدبلوماسية المكوكية، حيث قام بجولات مُطوَّلة بين عواصم متعددة للتفاوض ونقل الرسائل بين الزعماء حتى يتحقق الهدف المرجو في أسرع وقت ممكن، تماما مثلما فعل أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر. ولعل ذلك الأسلوب قد قاد كيسنجر إلى النجاح في إنشاء إطار سياسي للشرق الأوسط في السبعينيات، لا سيَّما وقد شكَّل علاقة وطيدة مع الرئيس المصري حينئذ “أنور السادات”، وهو إطار حافظ على الاستقرار والمصالح الأميركية في المنطقة لعقود طويلة حتى اندلاع الثورات العربية عام 2011.
في السنوات الأخيرة قبل وفاته، عانى كيسنجر من مشكلات صحية، فكان يسمع بصعوبة ويرى بعين واحدة، وأجرى عمليات جراحية في قلبه، لكنه ظلَّ يُدلي بآرائه في الشأن العام ويتابع آخر المستجدات، وأشهرها تعليقه على الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة، حيث دعا إلى وقف الحرب وبدء التفاوض والعودة إلى حدود ما قبل فبراير/شباط 2022، ما اعتبره البعض قبولا بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم . ولم يكن غريبا هجوم بعض السياسيين الأوكرانيين عليه، وتعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وفاته قائلا: “كان رجلا حكيما وبعيد النظر”، ومُثنيا على دوره في الوصول إلى سياسة الوِفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (8). هذا ونعاه الرئيس الصيني “شي جينبينغ” في برقية إلى نظيره الأميركي، واصفا كيسنجر بأنه صديق طيب وقديم للشعب الصيني لدوره في فتح باب العلاقات بين بكين وواشنطن !!!!!!!!!!!