الأمل بسورية الجديدة و المتجددة بحضارتها ..
د.علي أحمد جديد
إن سورية التي نعرفها ونعشقها تَمرُّ اليوم بمرحلة دقيقة تقتضي من جميع أبنائها التوافق والتماسك للثبات أمام تحديات الواقع والتكاتف بوعي متفتح ، لأن التوجسات و المخاوف تسود البعض من أطياف نسيجها الاجتماعي المتنوع نتيجة تراكمات الماضي الأسود و انتعاش عدم اليقين من القادم كما كانت الحال لأكثر من خمسة عقود مضت . إلا أن التطمين الواقعي يعتمد على التعمق في فهم الظروف المحيطة والمتوَقعَة ، لأنها الظروف الحالية تمس وبصورة مباشرة كل المصالح الدولية والإقليمية المتشابكة – إذا أحسنا الظن – والتي أدت إلى ما حدث في سورية . لأن ماحدث مؤخراً كان محصلة جهودٍ و تدخلاتٍ من قوىً عالمية وإقليمية شقيقة وصديقة يهمها ترسيخ الاستقرار في سورية نظراً لأهمية موقعها الجغرافي ، ومحورية موقعها الجيوسياسي بمواردها الطبيعية وبخطوطها التجارية ، إضافة إلى الحدود المشتركة مع الكيان المعتدي الدخيل ، وذلك مايضيف بعداً خاصاً لحساسية الوضع القائم . ومن الواضح أن هذه القوى لن تسمح بتعميم أو تسيّد أي شكل من أشكال التطرف الديني أو الفوضى المسلحة التي تهدد السلم الأهلي و العيش المشترك منذ فجر التاريخ البشري في سورية . لأن التعددية الثقافية والفكرية لأي دولة (مدنية) هي خيار المستقبل الآمن وضمانة لسلامة البناء و الاستمرار ، و يقتضي ذلك ألّا يكون هناك مكان لمظاهر العسكرة في الشوارع ، ولا للشعارات المتطرفة ذات الطابع الطائفي أو السياسي المتشدد إلا ضمن إطار الاعتدال والتعايش السلمي والمسالم . لأن مفهوم “الدولة الدينية” لم يعد مقبولاً على الساحة الدولية المتعددة المصالح ، وبصورة خاصة في هذه المنطقة المحورية من العالم لِما تتمتع به من التشابك الاقتصادي والجيوسياسي . مما يعني أنه لا مجال في سورية المستقبل سوى لدولة مدنية تتميز بفسيفساء العقائد والمذاهب والديانات والفكر الإنساني تحت مظلة قوانين عادلة تضمن التعايش السلمي والأمن لجميع الأطياف فيها . والحديث عن الأقليات بخطابات وبأساليب استفزازية غير منطقي ولا يقبله العقل ، مهما كان منغلقاً ، على الإطلاق . لأن من يطرح مشروع بناء وطن مدني يبتعد عن هذه المفاهيم المغلوطة والمُدمِّرة ، والحقيقة المجتمعية السورية هي أن الجميع في هذا الوطن هم في الواقع أقليات ، حتى الطائفة السنية التي تمثل الأكثرية العددية والتي كانت تعيش كأقليةٍ تحت قبضة نظامٍ ديكتاتوري عائلي طاغٍ يركِّز السلطة والمال والمناصب في أيدٍ معدودة من السنَّة محسوبة بولائها الذي أعمى بصيرتها عن رؤية ما كانت تعانيه معظم أبناء طائفتهم من الفقر والإذلال والتهميش .
أما أبناء الطائفة العلوية الصغيرة ، فقد استخدمهم النظام كأداة لتلميع طغيانه وتجميل صورة سلطته وفساده ، ولتحقيق مصالح عائلته بمنهجية شيطانية مدروسة ، إذْ تم تهميشهم اقتصادياً عبر منع بناء المنشآت الصناعية أو المشاريع الاقتصادية في مناطقهم ليُبقي غالبية أبنائها في حالة فقر يدفعهم إلى العمل كأدوات في الجيش وفي القوى الأمنية ليكونوا قبضته الضاربة التي يستخدمها في حماية سلطته وفي تحقيق مصالحه لقاء استفادة القلة القليلة من النخبة ، يجني النظام وعائلته من خلالها المليارات على حساب دماء وجماجم أبناء هذه الطائفة . وفي ذلك قال الأديب ممدوح عدوان – ابن الطائفة نفسها – يروي حال القلة منهم وحال الذين غُرِّرَ بهم بما وصفه القرآن الكريم في محكم التنزيل :
” دراهم معدودات ”
و هم من كتب عنهم ممدوح عدوان في وصفه الشعري لحال الوطن والمواطن :
سرَقَ الجوعُ مِنّا البلادَ ..
فقالَ الوُلاةُ :
” لا تَضيعُ المَدينةُ حتى تَصيرَ بأيدي الغزاة ”
قل إذن :
ما اسمه حين تأكلُ كلَّ البذارِ و مُدخراتِ الشتاء؟
ما اسمه النومُ خوفاً ؟..
أو الرقص خوفاً ؟..
أو الضحك خوفاً ؟..
أو العيش في مجزرة ؟..
ما اسمه حينما يُقفَلُ البابُ نحو غدِ الفقراء؟
لا تقُلْ لي ..
بلادُك مَحميةٌ بجنودٍ تَخَفوا فلم أرَهُم .
سأقولْ :
بلادُك مُحتَلَّةٌ بجنودٍ تَخَفوا فلم تَرَهُم
هُمُ الولاةُ ..
بعد أن جاؤوا من قراهم فقراء ..
صاروا أغنياء ..
ثم صاروا طواغيت
وسرعان ما عادوا
مُحمَّلين بالتوابيت .
أما عن الطائفة الشيعية في سورية ، فقد عاش أبناؤها بسلام إلى جانب جيرانهم يعتمدون في معيشتهم على اقتصاد بسيط يقوم أساساً على الزراعة وعلى امتهان الأعمال الحِرَفية الصغيرة التي لا تحقق لهم مواردَ تكفيهم قوت يومهم . ومع استفحال الأزمة السورية في آذار 2011 ، استُدرِج الكثيرون منهم إلى الصراع تحت تأثير سياسات التحريض والتخويف التي لم تتوقف عنها أجهزة النظام الأمنية ، فحملوا السلاح مُكرَهين لحماية أنفسهم بعد أن تم تهديدهم من خلال تصوير جيرانهم أعداءً يريدون أذيتهم ، رغم أنهم وعلى مدى عقود سابقة كان الفلاحون في المناطق ذات الغالبية الشيعية يتقاسمون الأرض والعمل مع جيرانهم من السنّة في أجواء يسودها التعاون والتعايش . وكان هذا الحال ظاهراً وملحوظاً في قرىً مثل نُبّل والزهراء في تعاملهم مع محيطهم في حيان وبيانون وعندان ، كما كانوا في الفوعة وكفريا مع جيرانهم أيضاً . وكانت تقوم العلاقات في حالات كثيرة على المصاهرة والقربى ، إلى أن فرضت الأجهزة الأمنية للنظام واقعاً جديداً يعمل على تعميق الشرخ بين أبناء الوطن الواحد خدمة لاستدامة سطوة النظام وسلطته حسب المبدأ الاستعماري المعروف ” فَرِّق تَسُد ” !!.
أما عن الدستور الذي يتم إعداده حالياً ، فهو – وحسب ماينبئ عنه مشروع الإعلان الدستوري – فهو يتضمن مبادئ دولة القانون التي تحمي الممتلكات العامة والخاصة وتحمي ثقافات الأقليات وعقائدها ، وتضمن حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي ، وبذلك فإنه يؤسس لمرحلة انتقالية تنظِّم صون الحقوق والواجبات ضمن إطار مدني بَنّاء . وكل ما يُثار عن المطالبة بتأكيد علمانية الدولة في الدستور ، كما هو الحال في الدستور التركي ، فإن أغلب دول العالم لا تنص دساتيرها بشكل صريح على العلمانية ، لكنها تؤكد مدنية الدولة واحترام حقوق العقائد و الديانات ، وأقول ذلك كحقوقي له اطلاعاته في القانون الدولي . وبالتأكيد فإن الثورة السورية لن تُلبِسَ البلاد إلى طابعاً إسلامياً متشدداً أو متطرفاً كما يخشى البعض ، لأنها وكما يقول زعيم قيادتها العامة ويؤكد بأن سورية المستقبلية ستكون دولة يحميها دستور مدني وجيش يمثل كل أبنائها دون تهميش طيفٍ من أطيافها ولا استثنائه . ولذلك فإنه لامجال للخوف ولا للتوجس أو للقلق من المرحلة الانتقالية لأنها ستكون الأساس الضامن لبناءٍ سوري شامخٍ وحضاري عريق .
لقد استمر النظام السابق أكثر من نصف قرنٍ من السنوات في الحكم والتسلط ، وكان يرفع شعاراته الكاذبة والتي تَوَّجها بديكتاتورية يحيطها المنتفعون والفاسدون الذين كانوا أداته في تفشي الفساد والفكر الطائفي بين أبناء البلد الواحد والقمع الذي كان لا أفق له ولا حدود . فكانت شعارات الوحدة مرفوعة في الوقت الذي يعملون فيه على التفريق حتى بين أبناء العائلة الواحدة ، ويتحدثون عن الحرية وهم يبنون السجون والمعتقلات ، ويَدَّعون الاشتراكية كذباً ليسرقوا الوطن والمواطن !!.
ولهذا فإن العهد الجديد يحتاج وقتاً في ترسيخ العدالة للجميع من أجل تحقيق تطلعات الشعب السوري بعيداً عن التهديد والقمع والاعتقال . لأنه لايمكن تغيير ترسبات نصف قرن مضى مابين ليلة وضحاها .
إن تغيير نظام الأسد الديكتاتوري الذي مارس القتل والإذلال والتركيع والتهميش والتجويع بحق الجميع ، سواء كانوا من الأقليات أوالأكثريات ، لا يعني الخوف ولا القلق كما يروِّج البعض . لأن سورية اليوم تشهد ولادتها الجديدة ، ورغم أنها كانت ولادة صعبة وقيصرية ، إلا أنها تفتح أبواب الأمل على وطنٍ يسوده السلام وتكلله تيجان الحرية والمحبة دون خوف ولا قلق ، وطن يتجاوز أحقادَ الماضي ليكون وطناً للحريات وللعيش المشترك بكرامة و دون تهديد .
فلننتظر ، ولنراقب ونتابع .. ولنعمل معاً على نشر الوعي من أجل بناء سورية الجديدة ، سورية الحضارية والشامخة كما هو قدرها منذ بدء التكوين .