مصطلح ( العلمانية ) تاريخاً و واقعاً ..
د.علي أحمد جديد
كانت (العلمانية) حركة اجتماعية شكّلت اتجاهاً لبعض أنظمة الحكم في العالم ، وفي الحياة الاجتماعية ، وهو الاتجاه الذي يقوم في أساسه على استبعاد الصِبغة الدينية من حكم المجتمعات و اعتبار أن السياسة لاصلة لها بالدين ، لأن حكم المجتمع ، أي مجتمع ، يقوم على تنمية النزعة الإنسانية ، وعلى الإنجازات الثقافية والبشرية . واليوم صارت العلمانية نظاماً اجتماعياً في الأخلاق يؤسس القيم السلوكية والخُلُقية للحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعيّ دون النظر إلى الدّين .
وقد نشأت فكرة ( علمانية الحكم ) في أوروبا إبان عصر التنوير النهضوي في مواجهة الكنيسة ومعارضة سيطرتها على المجتمع بمؤسساته ، ولمحاربة تنظيم الكنيسة للمجتمع وتقسيمه حسب الانتماءات الدينية والطائفية ، لأنّ وظيفة الدين لا تخرج عن وظيفة تنظيم العلاقة بين الفرد وبين الخالق ، ورأى معتنقوها أنه بإبعاد سطوة أباطرة التدين سيكون تنظيم الدولة الاجتماعي قائماً على أساسٍ إنسانيّ بحت .
انتشرت العلمانية بشكل واسع وسريع بعد نشوئها في الغرب ، وتحديداً بعد قيام الثورة الفرنسية والتي تُعد أول نظام دولي وُجِدَ بشروط علمانية صريحة وحسب عقدٍ اجتماعي جديد بدأ صياغته ( جان جاك روسو ) بعيداً عن سلطة الكنيسة ، وباتت العلمانية الجديدة تتمتع بجاذبية عالمية قوية وإنسانية في المجتمعات المتنوعة بشكل كبير وصارت الأسلوب المُجدي والناجع لمنع الحكومات من التمييز بين ديانات الشعب الواحد وعقائده الفكرية . وبهذا تتعدد مذاهب العلمانية كأي منهج فكريّ وتتنوع لتشمل بمفهومها جميع مقوّمات المجتمعات الإنسانية التي تتبناها الدولة كمنهجٍ للتعامل . فكان منها العلمانية السياسية في الأيديولوجيات والسياسات التي تسعى إلى إبقاء الأفراد بعيداً عن الهيمنة و عن الخيارات والتفضيلات الدينية ، وإبقاء الدولة خارج الاهتمامات الدينية للأفراد . وكذلك العلمانية الفلسفية التي تهتم بالسعي إلى استيعاب الأفكار والآراء والأبحاث التي تصدر من الأفراد في نقد الدين ، وفي تحدي السلطات الدينية بفرض احترام حرية تعبيرهم . أما العلمانية الاجتماعية والثقافية فهي الوصول بالأفراد إلى تقليص اهتماماتهم بالشؤون الدينية في حياتهم اليومية ، وعدم اعتبارها ذات أهمية أساسية في تشكيل هويتهم الوطنية والقومية .
وقد مرت العلمانية بمرحلتين رئيسيتين :
* – العلمانية السطحية وهي العلمانية النضالية أو علمانية الصراع ، التي تنطلق من منطلقات عقلانية سطحية ، تُنادي بسيادة العقل البشري القائم على الفحص ، والتجريب ، والقياس الرياضي الدقيق ، وتُشكل هذه المرحلة أساس الحضارة الغربية ذات العقلية الضيقة والمتصلبة ، وتُعتبر مرحلة انتقالية أوصلت إلى العصر الأمريكي والتكنولوجي والاستهلاكي الحالي .
* – العلمانية الجديدة تُسمى أيضاً بالعلمانية المنفتحة ، وجاءت بعد فشل العلمانية السطحية ، إذ بيّن الواقع أنّه لا بد من وجود تقارب إيجابي وبَنّاء بين المؤسسات الدينية وبين الدولة ، وبناء جسور التعاون بينهما للوصول إلى صيغة جديدة من علمنةٍ تُتيح إمكانية وجود روحانية في بناء المجتمع على أسس و مبادئ رئيسية تقوم عليها العلمانية السليمة ، وتكوّن هذه المبادئ جوهر العلمانية التي تعتمد المبحث المادي البحت في تفسير العالم بقوانينه وحياة البشر . وكذلك اعتماد العلوم التجريبية والمنهج التجريبي القائم على الشّك في كلّ شيء وعدم اعتماده إلا بعد إجراء التجارب والتوصل إلى النتائج المُرضية فلا يقتصر المنهج العلمي على العلوم التجريبية بل يشمل علم الاجتماع والسياسة والنفس.. إلخ ، وبالتالي يكون ذلك هو المنهج الوحيد المقبول باعتباره قد اتخذ التجارب والإحصاء والعقلانية والمنطق وسيلة للوصول إلى الحقيقة ، بعد رفض الإيمان بالغيبيات والميتافيزيقيات على أساس فصل الدين عن الدولة لأن المعاملات الاجتماعية والسياسية والدنيوية خارج نطاق الدين ، ولأن العلاقات الدينية تنحصر بين الإنسان وربه . وبذلك تكون العلمانية تسعى بمبادئها إلى تحقيق مستهدف إليه من تحسين الحياة البشرية في الدنيا عن طريق استخدام الوسائل المادية البراجماتية العلمية . واعتبار العلم وحده قدر الإنسان لأن العلمانية ترفض الإيمان بالقدر وبالمجهول وبعمل الخير في الدنيا لتحسين الحياة البشرية وجعلها سعيدة قدر الإمكان دون انتظار الجزاء من الله سبحانه وتعالى ، والعمل الصالح هو قلب الإيمان الفعلي الذي تقوم المؤسسات الدينية بتشويهه .
وهناك علاقة معقدة بين مستويات العلمنة وتأثير الجهات الفاعلة المختلفة في النزاعات العديدة حول دور الدين في الحياة حيث تمر العلمانية بثلاثة مستويات من العلمنة وهي : * – العلمنة المجتمعية : إذ أن العلمنة المجتمعية تكون نتيجة نموذجية لعمليات الحداثة وبرامج التطوير التي تُروّج لها الأحزاب السياسية .
* – العلمنة الفردية : تتجلّى العلمنة الفردية في تراجع الالتزام الديني للأفراد لأنها تحدث نتيجة تَقلِّب الأفراد في تكوين معتقداتهم وممارساتهم الشخصية بعيداً عن الدين ، كما تتجلى بتجزئة نظام الحرية الفردية ، وإبعاد الدين عن مجالات الحياة الأخرى .
* – العلمنة التنظيمية : تغطي العلمنة التنظيمية مدى تكيّف الهيئات الدينية مع المجتمع بكل أطيافه دون تطرّفٍ ولا تمييز في ظل الدولة ومؤسساتها الاجتماعية .
ولهذا فإن العلاقة الصحيحة بالديمقراطية تتبلور في مدى تبني الفكرالعلماني مفاهيم الديموقراطية والعدالة وفي دعم حقوق الإنسان وحريته في الرأي والتعبير فوق أي مطالب أو أي اعتبارات دينية ، وتحقيق المساواة لجميع المواطنين في الحقوق وفي الواجبات أمام قانون لا يُميز بين انتماء ديني أو طائفي أو مذهبي ولا انتماء سياسي يُعطي مزايا أو عيوباً ، لأن العلمانية السليمة تدعم قوانين المساواة و تحمي الأقليات في المجتمعات من التمييز الديني ، وبذلك تضمن حقوقهم وواجباتهم ، كما تضمن حقوق وواجبات المؤمنين الدينيين على حد سواء .
وتاريخياً ، كانت فكرة العلمانية نتيجة تسلط وقهر السلطة الدينية في التخلي عن قاعدة (الشورى) تحت مسميات (الأمير أو السلطان أو الملك) ، كما كانت سلطة (الكنيسة) في أوروبا ، وهو ما دفع المفكرين الناشطين في أوروبا إلى وضع منهج فكري جديد بعقد اجتماعي يقوم على فصل الدين عن سلطة الدولة السياسية وعن سلطتها على القوانين والأفراد كما جاء ذِكر ذلك المنهج مع وضع (جان جاك روسو) أولى مبادئ العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين المواطنين وبين الدولة (المدنية) .
ثم توسع هذا المنهج حتى وصل إلى عالمنا ، مروراً بالعديد من الدول حول العالم التي تبنت الفكر العلماني في بناء مجتمعاتها ، وسنّت دساتيرها وفقًا لها . وقد مرّت هذه الفكرة بمرحلتين اثنتين كانت الأولى منها تنطلق من منطلقات عقلانية سطحية قديمة ، تُنادي بضرورة سيادة العقل البشري ، بينما عرفت المرحلة الثانية أهمية تقارب المؤسسات الدينية وتعاونها مع الدولة .. وكانت العلمانية من أكثر المفاهيم الإشكالية المُثيرة للجدل والخلاف . ولكنه رغم ذلك كان هناك اتفاق على أنَّ جوهرها هو مبدأ فصل الدين عن السياسة ، بمعنى أن لا تتدخل المؤسسة أو السلطة الدينية في السياسة ، وأن لا تتدخل المؤسسة أو السلطة السياسية في الدين . لأن العلمانية في أساسها كانت نتيجة أزمة بنيوية في العلاقة بين الكنيسة وبين الدولة، أحدثها طغيان الكنيسة وتحالفها مع الملكية والإقطاع وهو ما أتاح إلى استبداد رجال الدين وانحرافهم المالي والأخلاقي ، وجمود الكنيسة الديني والفكري وهو ماتعيشه مجتمعاتنا اليوم ، وما تبع ذلك من حركة إصلاح ديني بدأ بظهور المذهب البروتستانتي ، ثم قيام الثورة الفرنسية الرافضة لهيمنة الاستبداد الديني والسياسي ، وقيام الثورة العلمية والتنويرية المرتكزة على الحِسِّ والتجربة بدلاً من المعرفة الدينية المعتمدة على الإيمان الكنسي ، وبذلك تقدم العلم على الدين ، وطغت الحرية على الاستبداد ، ولو بشكل ظاهري في الغرب الأوروبي والأمريكي ، واستولت الدنيا على الآخرة ، وتسلطت المعتقدات المادية على الروحية ، وهو ما رسّخ المفهوم الخاطئ عن مبادئ العلمانية التي كانت في جوهرها الفصل بين الدين وبين السياسية .
لقد ساهم فصل الدين عن السياسة في أوروبا بتحريرها من القيود التي فرضتها الكنيسة على العلم والحرية والإبداع ، كما ساهم أيضاً في التخلّص من التخلّف العلمي ، وفي تعزيز الحرية السياسية ، وعجّل في تحقيق التقدم العلمي ، الذي تبعه التوسع التجاري ، والاكتشافات الجغرافية التي كانت نتيجتها نشاط الحركات الاستعمارية في القارات الثلاث (أمريكا وآسيا وأفريقيا) ، ورغم مبدأ فصل الدين عن السياسة ، كان الدين حاضراً في حركة الاستعمار الأوروبي خارج القارة البيضاء باعتماد التبشير الديني المسيحي تمهيداً للاستعمار ومثبتاً له أو مُرافقاً ومساعداً له كما كان في جنوب أفريقيا وفي استراليا ونيوزيلندا ، لأنه في كل الأحوال كان الاستعمار يستحضر الدين على ألسنة قادته العسكريين ، ومنه ما قاله الجنرال البريطاني (اللينبي) يوم سقوط القدس :
“الآن انتهت الحروب الصليبية” ..
وما قاله الجنرال الفرنسي (غورو) يوم سقوط دمشق :
“ها قد عُدنا يا صلاح الدين” .
وكان لارتباط الدين بالحركة الاستعمارية الأوروبية ، رغم علمانية أوروبا التي تفصل الدين عن السياسة ، وضوحاً لا لبس فيه حين قام البريطانيون بتأسيس الجمعيات الدينية المتطرفة لخدمة مصالحهم من وراء ستار ديني لا علاقة له بالدين اساساً ، ولترويج فكرة الفوقية الإلهية واعتبارهم “شعب الربّ المختار” ، مُشبعين بالروح التلمودية و التوراتية التي اقترنت بالصليبية العنصرية ، وأنَّ الأرض الجديدة (أميركا) هي أرض الميعاد (كنعان الجديدة) ، وأنّهم ركبوا المحيط وبحثوا عن الخلاص في أرضٍ جديدة ، كما خرجت أسلافهم من بني إسرائيل من مصر إلى فلسطين لإقامة “مملكة داود المُقدّسة” ، وسمّوا مستوطناتهم الأولى أسماء عبرية ، واعتقدوا أنَّ لهم رسالة دينية مسيحية اختلطت بالعقيدة العنصرية العرقية القائمة على فكرة ” الأنغلوساكسون – الجنس الأبيض المتفوّق” ، وعلى العقيدة العنصرية الدينية القائمة على فكرة “شعب الربّ المختار” .
وقد ظهر الارتباط بين الدين والسياسة في علمانية أوروبا بشكل أكثر وضوحاً في دورهم المركزي في إقامة “مملكة إسرائيل” الحقيقية في فلسطين ، بعد أنْ نشأت في أميركا تقليداً . وكان لظهور المسيحية الصهيونية المنبثقة من المذهب البروتستانتي دورها البارز في ذلك كجزء من عقيدة الخلاص المسيحية ، القائمة على الإيمان بأسطورة عودة اليهود (شعب الربِّ المختار) إلى فلسطين (أرض الميعاد) ، لإقامة “مملكة إسرائيل” الجديدة التي ستهدم المسجد الأقصى وتقيم هيكل سليمان الثالث في مكانه .
وقد ترجمَت عقيدةَ المسيحية الصهيونية في السياسة الأوروبية بقرارات كان أهمها :
” وعد بلفور و سايكس- بيكو وصكوك الانتداب ، وقرار التقسيم ، وتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وتسليح العصابات الصهيونية ، ودعم الكيان اللقيط بالمال وبالسلاح الغربي وبالرجال المرتزقة . لذلك لانتفاجأ عندما نرى بأن الدين ما زال حاضراً في القرار السياسي الأوروبي ، رغم دساتير دوله العلمانية كفرنسا المتطرفة بالعلمانية وبتقديس الحرية الشخصية بما فيها حرية التدين نظرياً ، ولكنها عملياً تفرض القيود على ارتداء الحجاب في مؤسساتها الرسمية ، وتتيح للمرأة حرية التعرّي والإباحية ، وما زالت توظف الكنيسة الكاثوليكية فيها لخدمة أهدافها الاستعمارية في البلاد التي كانت تحتلها ، وكذلك هي ألمانيا كنموذج آخر لارتباط الدين بالسياسة ، من خلال الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني الحاكم الذي دمج بين القيم المسيحية والليبرالية في السياستين الداخلية والخارجية .
إن فكرة العلمانية واللهاث وراء تطبيقها واعتمادها إنما هو ستارة تخفي وراءها البلاء والكوارث بهدف انتزاع الناس من انتماءاتهم القومية الاجتماعية خدمة للمصالح الاستعمارية التي بات إخفاؤها اليوم أكثر صعوبة وأغلى كلفة على مروجيها .