قراءة نقدية :
“الثلاثية بين الأسطورة والفانتازيا”
القاص حمد حاجي(تونس)
ثلاثية القصص القصيرة جدّا: بائع الصرخات
الناقدة جليلة المازني(تونس).
المقدمة:
الشكل هو سر العمل الفني بودلار
لماذا ثلاث قصص قصيرة جدّا؟
نطرح السؤال التالي لعلنا ندرك المغزى من تنضّد الأستاذ حمد حاجي..
مسألة الثلاث المذكورة بالقران :يقول تعالى:” يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات”؟
لماذا ثلاث مرّات؟
والنبي صلى الله عليه وسلم قال:”من استاذن ثلاثا فان أذن له والا فليرجع”
هل من معنى للثلاث؟
ولم قيل:” ثلاثة حقّ على الله الا تردّ لهم دعوةّ .
وروي عن عمر قول الرسول :”ثلاث مهلكات وثلاث منجيات وثلاث كفّارات وثلاث درجات… ” لماذا التركيز على معنى الثلاث؟
ترى لماذا وضعت” ثلاثيات البخاري” وهي تلك الثلاثيات التي يكون عدّ رجال الاسناد من المصنف الى منتهاه ثلاثة رجال فقط .
وهذا يعتبر من جملة الاحاديث ومن أعلاها سندا.
لماذا وضع الامام أحمد بن حنبل..ثلاثيات في سند الحديث أيضا؟
ترى لماذا يقول الامام الغزالي:” أحذّرك ثلاثا” :هي الحسد والرياء والعجب فاجتهد في تطهير قلبك منها.. وغيره
هذه المرات الثلاث تمتعنا أكثر حينما ننفذ للسؤال ربما من خلال بروز ظاهرة الثلاثيات في الادب او الرواية الانسانية او رواية الاجيال(انظر أحمد سيّد محمد : الرواية الانسانية) حين تحدّث عن أشكال الرواية القديمة.
والذي أرجع ظهورها لروايات المائدة المستديرة “الدّائرية المسمّاة “جرجا نتيا”
لذلك تعدّدت نماذج من هذه الظاهرة نذكر منها أيضا ثلاثية نجيب محفوظ(بين القصرين/قصر الشوق/ السكرية) .
كذلك ثلاثية سهيل ادريس(الخندق العميق/ الحيّ اللاتيني/أصابعها التي تحترق)
كذلك ثلاثية محمد ديب( الدار الكبيرة /الحريق/النول)
كذلك ثلاثية حنّا مينا(بقايا صور/المستنقع/ القطاف)
كذلك ثلاثية أحمد حرب(اسماعيل/الجانب الآخر/بقايا)……
لو تأمّلنا بأهمّ سمات هذه الظاهرة نلاحظ انها تهدف بالأساس الى:
1- تصوير الواقع..أي ملمح يميل الى الجانب التصويري.
2- التميّز بالدّائرية (عودة الابطال بالظهورفي معظم المراحل الثلاث).
3- حصول نفع القراءة من أي مرحلة تبدأ..مع خيط رفيع رابط بينها.
لعلّ هذا ما جعل الشاعر حمد حاجّي يلتجئ الى ثلاثية القصص القصيرة جدا ليحقّق الملامح الثلاثة السالفة ويحقق الحكائية والقصصية بالثلاثية.
أسند الكاتب عنوانا شاملا للثلاثية “بائع الصرخات”
فمن هو البائع؟ وأية صرخات تتقاطع في الثلاثية؟
1- تصوير الواقع :
أ- قصة ق.ج “دون كيشوت”
استهل القاص حمد حاجي ثلاثيته ب ق.ق.ج “دون كيشوت” وهي شخصية أسطورية تجعل الثلاثية تندرج ضمن أدب الفانتازيا.
و”الفنتازيا في أصلها اللاتيني تعني “الخيال” وبمرور الزمن خصوصا مع كتابات
شكيبير وجون ملتن أصبحت الكلمة تعني أيضا “نتاج الخيال” واليوم هي جنس أدبي قائم بذاته..”(1)
والأدب الفنتازي هو الأدب العجائبي وهو التردد الذي يصيب المتلقي الذي لا يعرف غير القوانين الطبيعية ويجد نفسه أمام وضع فوق طبيعي حسب الظاهر
فعندما نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة يمكننا تفسيرها إما من خلال المسببات الطبيعية لكن التردد بين هذه المسببات هو الذي يخلق هذا التاثير العجائبي.(ويكيبيديا).
ان الكاتب حمد حاجي صور لنا حالة من الواقع المرير الذي يعيشه الشعب من تهافت على الغاز ونفاد الخبز اليومي وتخاطف النساء للسكر ومن نقص في المواد الغذائية بصفة عامة.
انه نقص يعيشه الشعب التونسي في معيشهم اليومي.
انه نقص تسبب الى جانب غلاء الأسعار في مجاعة حدّ الموت.
وفي أسلوب تهكمي صوّر لنا الكاتب مشهد طوابير الناس أمام بائع الأكفان اذ لم يعد هاجس الناس لقمة العيش والحياة بل استسلموا للموت تاركين الحياة المريرة
وهل أكثر من أن بوابات المقابر قد أغلقت وهذا يعني أن المقابر لم تعد تتسع للأموات لكثرة عددهم.
إنها نبرة ساخرة ومفارقة عجيبة جعلت الشعب يستبدل شراء الغذاء من أجل حق الحياة بالأكفان من أجل حق الموت.
والمفارقة الثانية أن وليّ الأمر حين لم يجد ما يبيع للناس من مواد غذائية ومن أكفان اشترى ناعورة هواء ليبيعه للشعب.انها العجائبية والعبثية السياسية .
ان وليّ الأمر لم يُؤمّن حقّ الحياة للشعب بتوفير المواد الغذائية ولم يمْنحْهم حق الموت بتوفير الأكفان وبغلق أبواب المقابر بل إنه لم يكن بوسعه الا بيع الهواء لهم الهواء الذي يتنفسونه .
وناعورة الهواء مُقترنة بدون كيشوت بطل رواية الروائي الاسباني “ميغل دي ثيربانتس”
و”تحكي رواية دون كيشوت قصة رجل نبيل أصيب بالجنون بعد قراءة الكثير من كتب الفروسية..ويعتقد انه هو فارس ضال وان واجبه هو حماية الضعفاء”(2).
وترمز طواحين الهواء الى “مهاجمة أعداء او شرور خيالية غير حقيقيين” وفق ما يصوره خياله من أوهام ومن أشهر معاركه معركة طواحين الهواء”(3).
وتمثل أفعاله وأوهامه العديد من الموضوعات الحاضرة دائما في الحضارة الغربية.
ويختم الكاتب بقفلة مدهشة لم يكن القارئ ليتوقعها كسرت أفق انتظاره بأن جعل الناس يهللون ويشيدون بعدله في الصرخات:
– صرخات طوابير الجياع من أجل حق الحياة.
– صرخات طوابير أمام بائع الأكفان والمقابر المغلقة من أجل حق الموت
انهم يرددون:”ما أعدل الوالي يوزع بالعدل الصرخات”
=== يتبع ===
===يتبع ===
ج- اضراب عن الصمت:
يصور الكاتب في هذه ق.ق.ج.البائع الجوال حافي القدمين من أجل لقمة العيش
ولما لم يجد ما يبيعه من سكر وقهوة سيبيع الصرخات:
– صرخات للساسة لانهم لم يوفروا الحاجات الحياتية للشعب.
– عويلا للثكالى لفقدان أبنائها في الحرب .
– زفرات لأيتام الحرب حسرة على ما أصابهم من فقد.
انها مفارقة عجيبة فبدل بيع المواد الغذائية يبيع هذا البائع المتجول الصرخات
لئن كان ولي الأمر في القصة الأولى يبيع الهواء فان المواطن في ق.ق.ج الثانية يبيع الصرخات لاطراف مختلفة ومن ثم كان الاضراب عن الصمت لن الضغط الذي يعيشه الشعب قد أخرجه من صمته وولّد الانفجار والصرخات.
ويختم بقفلة مدهشة تلخص كل الصرخات وهي عبارة يرثي فيها البائع نفسه والبائع الجوال هو المواطن المفرد بصيغة الجمع فيقول :
وحدها صرخة يتيمة خبّأها..
– ها جوحي أنا..ها حلالي أنا
ج – ثلاث فسحات لصيحات:
يصوّر الكاتب ثلاث صيحات:
– صيحة المرأة وهي تعد الخبز بالفرن الذي أحرق أصابعها (واح واح بيب أح ..أح.. أببب)
– صيحة الرضيعة وهي تتقلب بين الأحساك تنغرس في رقبتها الاشواك…وتصرخ(واك..واك..واك)
– صيحة في القفلة المدهشة التي تقاسمها الزوجان في مفارقة عجيبة :
لئن كانت الزوجة كادحة لإعداد القوت اليومي ونار الفرن يلهب وجنتيها كان الزوج يكتب رسالة تتأجج فيها مشاعره لعشيقته .(أحححح..أححح..)
وصوت الحاء صوت مزدوج المعنى:
– صوت الحاء تعبير عن ألم الزوجة من ألم نارالفرن.
– صوت الحاء تعبير عن متعة الزوج وهو يكتب رسالة نارية لعشيقته.
– صوت الحاء تعبير عن وجع الشعب كادحا كان أم بطالا.
2- التميز بالدائرية:
لضمان الحكائية بالثلاثية نجد الأبطال يعودون في القصص الثلاث التي تتميّز بالدائرية فصرخات الشخصيات قاسم مشترك بين قصص الثلاثية:
بائعو الصرخات:
– الوالي الذي يوزع بالعدل الصرخات.
– البائع المتجول الذي يبيع الصرخات للساسة وكأني به يرد عليهم بنفس البضاعة
– صيحة الرضيعة وهي تتألم من الأشواك التي تنام عليها.
– صيحة الزوجة من النار التي تُلهبُ وجْنتيْها.
– صيحة الزوج من نار الحب الذي يُلهب قلبه ويتأجّج بداخله.
=== يتبع ===
=== يتبع ===
3- حصول نفع القراءة :
ان القصصية أو الحكائية في الثلاثية نتلمّسُها من أية مرحلة تبدأ اذ نجد خيطا رفيعا رابطا بينها.
ان الثلاثية قد صورت لنا ثلاثة مشاهد:
لقد صور الكاتب في الق.ق.ج الاولى مشهد الازمة الغذائية الشعبية ليرسم لنا موقف ولي الامر السلبي.
وفي الق.ق ج الثانية رسم لنا مشهد ردة الفعل من المواطن(البائع الجوال) وهو فرد في صيغة الجمع ويمثل كل الشعب والكاتب جعله بائعا جوالا بالشوارع ليرمز الى خروج الشعب بالشارع احتجاجا على السياسة الفاشلة اجتماعيا واقتصاديا ولعل الكاتب هنا يُحيلنا على الثورات التي ملات الشوارع وجعلت الساسة يهربون.
اما الق.ق.ج الثالثة فكانت نتيجة حتمية لفساد الساسة وردة فعل الشعب الجائع
والذي لم يجد خبزه بالسوق فالتجات الزوجة الى اعداده بالبيت من ناحية وردة فعل الشعب البطال الذي ينحرف ويملا فراغه بمغا مراته العاطفية التي تلهيه عن المشاغل الحياتية لتشجعه على الخيانة الزوجية من ناحية ثانية.
ان فضل الثلاثيات الدوارة يتمثل في ان القصصية فيها يمكن ان نبدأها :
– من أول ق.ق.ج كما حصل اعلاه.
– كما يمكن أن نبدأها من الققج الثانية فنبدأ بصرخات الشعب الناتجة عن فساد الساسة والنقص الغذائي وما ينجر عنه في الققج الثالثة التي هي نتيجة حتمية للأولى والثانية.
– كما يمكن أن نبدأ من الققج الثالثة باعتبارها نتيجة تسبب فيها ما ورد بالققج الاولى والققج الثانية.
وفي كل الثلاثية استخدم الكاتب لغة شاعرية هي بين الشعر والنثر تستهوي القارئ وتحرك مشاعره ليتعاطف معها من ناحية ولتورّطه في التأويل والاستمتاع به من ناحية ثانية فالايحاء وتكثيف المعنى هو من خصائص الققج.
وفي هذا الاطاران الكاتب استخد م أسطورة دون كيشوت وجعل الثلاثية تنحو منحى الفانتازيا التي تعكس الملامح العجائبية بالقصة فتخرج البيع من طبيعته المادية الى بيع الصرخات وفسحات الصيحات.
وفي هذا الاطار قد يستحضر القارئ ما قيل في شخصية دون كيشوت:
” ان شخصية دون كيشوت التي عرضها الروائي الاسباني ميغل كان هدفها نشر الحق والعدل وكل القيم النبيلة بالرغم من ان منهاجه كان في طريق الخطإ
المبني على الأوهام ولكن دون كيشوت في زماننا هذا تتملكه الظنون وتسيره الأوهام ويفسر الأمور على مزاجه وما تمخضت عنه نفسه المريضة. انطفأ فيه سراج البصيرة ليقاوم كل ما هو عكس رؤيته ويرى الخطأ والصواب من وجهة نظره وما يراه هو مناسبا.انما يفعل ذلك بسبب تضخم الأنا وانتفاخ الذات وقصر البصر وعمى البصيرة الذي هو على المصالح الشخصية هي الهدف الأسمى الذي لأجله يحارب طواحين الهواء وكل المعارك الوهمية التي يخوضها ولو كلفه ذلك ثمنا باهضا من محبة الاخرين واحترامهم ولو خسر بذلك الدنيا باسرها”(4)
وقد يكون دون كيشوت انت او انا او اي شخص آخر يتوهم الاعداء والخصوم في كل انسان..
وقد يجد القارئ نفسه امام ظاهرة غريبة كبيع الهواء او بيع الصرخات يمكن تفسيرها من خلال المسببات الطبيعية واما غير الطبيعية لكن تردد القارئ بين هذه المسببات هو الذي يخلق هذا التأثير العجائبي.
والسؤال المطروح :
هل ان الكاتب استخدم أسطورة دون كيشوت بما تحويه من فانتازيا ليجعل ذلك الفارس الضال يعتقد ان واجبه هو حماية الضعفاء ونشر العدل الحقيقي وليس عدل وليّ الأمر الوهمي والزائف؟؟؟
أترك الجواب للقارئ.
سلم قلم المبدع حمد حاجي الذي استخدم أسطورة دون كيشوت وفق أدب الفانتازيا.
بتاريخ29/ 12/ 2024
المراجع:
https://thmanyah.com>post(1)
لماذا اترجم الفنتازيا؟ لانها أدب حقيقي- ثمانية
https://escuelape.com>resumen-d..(2)
ملخص رواية دون كيشوت
https://www.alyamamahonline.com>..(43/)
دون كيشوت مصارع طواحين الهواء.
( الكاتب حمد حاجي)============ ثلاث قصص قصيرة جدا
.بائع الصرخات
ا=========
1- دون كيشوت
ا=========
تكاثرت الطوابيرُ ٠٠ ناس في صف طويل لقنينة غاز.. ونفد الخبز٠٠
نساء يتخاطفن علب السكر.. وأغلقت المقاهي..
طوابير أمام بائع الأكفان٠٠ وأقفلوا بوابات المقابر..
لمّا لمْ يجِدْ وَلِىّ الأمرِ ما يبيع للناس اقتنى ناعورة رياح عجيبةً.. (تدور… تلوك ألواحُها الهواءَ لتبيعهُ للشعب)..
واختار لها الوالي ناسَ الطوابير، يُرَدِّدُون خلفها:
– ما أعدل الوالي، يُوزع بالعدل الصرخات..
فيما تظل للأبد
مع الرياح..
تدوووور الألواح…
…….تد
وووووووور.. ورررر ورررااااراااااء .
.
.
ا=============
2- اضراب عن الصمت
ا=============
البائع الجَوّالُ الذي قطع الشوارع برجليه الحافيتين.. يحملُ مصدر رزقه في صندوق خشبي، كان ربطه برقبته وتعب من الهتاف “حلوى .. بسكويت، يا سادة…”
لما لم يجد سكرا وقهوةو..و..
قرّر ان يبيع صرخات للساسة.. عويلا للثكالى .. وزفرات لأيتام الحرب..
وَحدها صرخة يتيمة خبّأها…
– ها جوحي أنا .. ها حلالي أنا …
.
.
ا==========
3 – ثلاث فسحات لصَيْحَاتٍ
ا===========
هى تسارع تمسح جوانب الفرن بقطعة ثياب مهترئة مبللة بالماء.. وتزج بالرغيف للفرن.. توشك تحرق كل أصابعها بالداخل.. تلمظ أناملها صائحة:
– (واح واح ببب أح.. أح.. أبببب)..
وترفع رأسها تتأمل الرضيعة التى أجلسَتها فى حجر مصنوع من جريد النخل والسعف وحوّطتها بوسادات صغيرة محشوة بالقش..
تركتها تتقلب بين الأحساك، تنغرس فى رقبتها الأشواك، ما إن تلامس جنبها الوخزات حتى تنقلب على الجانب الآخر.. وتصرخ:
– (واك.. واك.. اك)..
وفيما الصهد اللافح لفرن رقاق الخبز يلهب وجنتيها، يُنبِتُ عرقا سائلا من تحت عصابتها المشبعة بهباب الدقيق والدخان..
كان زوجها ينقر.. ينقر.. يعالج بهاتفه الجوال رسالة نارية لعشيقته٠٠٠
– (احححح ااح حح.. ببببب ااااا ككككك).
.
.
ا===== أ. حمد الحاجي ====