مقالة نقدية للناقد الكبير كاظم ابو جويده بإسلوب( النقد التكاملي) للعرض المسرحي “تحولات الأحياء والأشياء” للكاتب الراحل قاسم محمد .. دراما تورج زيدون داخل .. سينوغرافيا وإخراج منعم سعيد والذي قُدِّم في مهرجان بغداد المسرحي الخامس وحصل على جائزة افضل سينوغرافيا
مع ملاحظة أن هذا النص العائد للراحل قاسم محمد كان قد أخرجه الإماراتي محمد العامري في سنة 2016 في مهرجان الشارقة ومهرجان القاهرة التجريبي. بعنوان “تحولات حالات الأحياء والأشياء”
البنية الحكائية…
في مخزنٍ للدمى يغشاه ظلٌ ميتافيزيقي لمحركٍ خفيّ تتراقص دمىً معلقة بخيوط شفافة، تؤدي أدواراً نمطية تحاكي حياةً بشرية مثالية، حيث الإنسان سيد الكون ومحور الوجود. في هذا الفضاء المعلق بين الواقع والخيال، تتنامى في وعي الدمى أسئلة وجودية عميقة، وتتسلل إلى كيانها المصنوع رغبة جامحة في تجاوز حدود طبيعتها الدميوية. تتساءل في لحظات تمردها الفلسفي: ما الذي يمنعها من أن تكون إنساناً؟ أليست تملك ما يملكه من أطراف وملامح وقدرة على الحركة؟
وفي لحظة فارقة، تقرر هذه الدمى الانعتاق من خيوطها الأثيرية، متسللة إلى عالم البشر عبر ثقب إبرة الحياة، ظناً منها أنها ستجد في هذا العالم الحر ما كانت تؤديه في عروضها من سعادة وكمال. لكن المفارقة الصادمة تتجلى حين تكتشف أن عالم البشر مثقل بالتناقضات، مليء بالحروب والنفاق، مسكون بالألم والخداع، عالم تتصارع فيه القيم مع المصالح، وتتحول فيه الإنسانية إلى مجرد شعار أجوف.
في هذه اللحظة المأساوية، تدرك الدمى المفارقة المريرة: أن حريتها المزعومة قادتها إلى سجن أكبر، وأن انعتاقها من خيوطها أوقعها في شباك واقع أشد قسوة وتعقيداً. وفي مشهد يجسد عمق المأساة الإنسانية، تختار الدمى العودة الطوعية إلى خيوطها، في رحلة عكسية من الحرية المتوهمة إلى القيد المريح، لتنتهي المسرحية في دائرة مغلقة تطرح سؤالاً فلسفياً عميقاً: أين تكمن الحرية الحقيقية؟ وهل القيد المدرك أفضل من حرية موهومة؟ لتبقى الإجابة معلقة في فضاء المسرح، كما الدمى المعلقة بخيوطها، في رقصة أبدية بين الحرية والقيد، بين الوهم والحقيقة.
العنوان …
في أفق مسرحي فلسفي، بزغَ عنوان “تحولات الأحياء والأشياء” كشمس معرفية سطعت بوهج سيميائي عميق، متجاوزاً حدود الدلالة اللغوية المباشرة نحو فضاءات تأويلية رحبة وخصبة أسست لرؤية وجودية عميقة عبر بنية دلالية مركبة تتأسس على ثنائية “الأحياء/الأشياء” التي تستدعي الثنائيات الفلسفية الكبرى كالروح/المادة، والوعي/الجماد، والإرادة/الجبر. غير أن العنوان يتجاوز هذه الثنائيات التقليدية من خلال مفهوم “التحولات” الذي يؤسس لحالة من السيولة الوجودية حيث تتداخل الحدود بين ما هو حي وما هو شيء مستدعياً فلسفة الصيرورة النيتشوية التي لا ترى ماهيات ثابتة بل حالة مستمرة من التحول والتغير وهو ما يتجلى في المسرحية عبر جدلية الدمى المتحولة من أشياء جامدة إلى كائنات واعية لتؤسس “ديالكتيك التحول” حيث يصبح التحول نفسه جوهر الوجود فالأحياء تتحول إلى أشياء في عملية الاستلاب والتشيؤ. والأشياء تتحول إلى أحياء في عملية الوعي والتمرد مكتسباً بذلك بعداً ميتافيزيقياً عميقاً يتجلى في السؤال الوجودي الأساسي حول ماهية الحياة والشيئية ليؤسس لما يمكن تسميته “فينومينولوجيا التحول” حيث تصبح ظاهرة التحول نفسها موضوعاً للتأمل الفلسفي في تقاطع مع الفلسفة الظاهراتية التي تركز على تجلي الظواهر في الوعي.
كما اكتسب العنوان بعداً سياسياً عميقاً حين نقرأه كاستعارة لتحولات السلطة والمقاومة ليصبح مدخلاً لفهم ديناميات الصراع بين القاهر والمقهور فضلاً عن كونه استعارة لإشكالية الهوية في العالم المعاصر حيث يكشف التحول المستمر بين الأحياء والأشياء عن هشاشة الهويات الثابتة وقابليتها للتحول والتغير في تقاطع مع نظريات ما بعد الحداثة حول سيولة الهويات وتعددها.
تجلى في التشكيل السيميائي لعنوان العرض المسرحي “تحولات الأحياء والأشياء” نسقٌ دلالي متفرد يتمثل في تقديم “الأحياء” على “الأشياء” كمرتكز أنثروبولوجي يؤسس لمركزية الكائن الحي في الفضاء المسرحي وبنيته الدرامية حيث يشكل الحضور الإنساني الفاعل جوهر الأداء المسرحي وديناميكيته ويتجلى هذا التأسيس السيميولوجي في بناء مسار درامي تصاعدي يبدأ من فضاء الحياة والحركة والفعل نحو فضاء التشيؤ والجمود ليخلق توتراً دراماتورجياً يستكشف جدلية التحول من الحيوية إلى السكون في المجتمع المعاصر.
فبينما تشير السيرورة الدرامية إلى تحول الإنسان نحو التشيؤ يأتي التحول العكسي للدمى نحو الأنسنة كفعل احتجاجي يؤسس لجماليات المقاومة في مواجهة آليات الاستلاب المعاصرة ليخلق العرض بذلك جدلية عميقة بين مسارين متضادين في بنية درامية محكمة تكشف عن أزمة الإنسان المعاصر وإمكانات تجاوزها عبر استراتيجيات الوعي والمقاومة والتمرد على منظومة التشيؤ المهيمنة.
التحليل…
ظهر العمق الفلسفي والجمالي في مسرحية “تحولات الأحياء والأشياء” عبر نسيج درامي متشابك يقوم على منظومة من الثنائيات الضدية، يتصدرها ثنائية الأحياء والأشياء كمدخل لجدلية وجودية تستكشف أزمة الإنسان المعاصر. يتعمق هذا البناء الدرامي من خلال سلسلة من الثنائيات المتداخلة: الحرية/القيد، الواقع/الخيال، المشاركة/المشاهدة، موظفاً تقنيات المسرح داخل المسرح والتغريب البريختي لخلق فضاء مسرحي متعدد المستويات. يستدعي العنوان فلسفة الصيرورة النيتشوية في تجاوزه للثنائيات التقليدية كالروح/المادة والوعي/الجماد، مؤسساً لـ”ديالكتيك التحول” الذي يجعل من التحول نفسه جوهراً للوجود. تتجسد هذه الرؤية في الاستعارة المركزية للدمى التي تتحول من أشياء جامدة إلى كائنات واعية، في حين كان النشوء الأول للبشر عبارة عن ولادة دميوية عبر خضوعهم الطوعي للقيود، خالقاً بذلك مفارقة عميقة تكشف عن ازدواجية الوجود الإنساني المعاصر. يكتسب هذا التحول أبعاداً سياسية واجتماعية عميقة في استكشافه لجدلية السلطة والمقاومة، وتحولات الهوية في عالم ما بعد الحداثة “عالم التشيؤ”، بتحول الإنسان تدريجياً إلى ما يشبه الشيء الجامد بظاهرة تعكس أزمة الإنسان المعاصر في فقدانه لإنسانيته وتحوله إلى مجرد أداة في نظام يحوله إلى عنصر آلي مبرمج، مما يجعل من حركة الدمى نحو الإنسنة صرخة احتجاج ضد هذا المصير المأساوي، ودعوة للوعي والمقاومة والتمرد على قوى التشيؤ والاغتراب.
تمحور النص المسرحي حول ثيمة “الألم” كمعادل موضوعي للوعي الاغترابي المعاصر، حيث يتجلى ذلك في الحوار الوجودي العميق:
– “ما هو الألم؟”
– “أن تكسرك يد باطشة على أن تتحرك كما تشاء هي لا كما تريد لك الحياة”
تحولت هذه المحاورة الدرامية إلى استعارة مركبة تستدعي مفهوم الاغتراب الماركسي، حيث تتجلى خيوط الدمى كرمز للعلاقات السلطوية القامعة التي تحول الإنسان عن غايته التنويرية وفطرته الجمالية. وتتعمق المأساة الوجودية عبر حوار آخر يكشف عن حتمية الأدوار المفروضة:
– “أدوارنا نحتت لنا بدقة”
– “سئمت هذا الدور”
– “هو من رسمها وقسمها بيننا”
كشف هذا التكثيف الدرامي عن جدلية القهر والتمرد، حيث يتحول الإنسان بفعل اليد المتجبرة من كائن تنويري يسعى للجمال والسلام إلى مسخ مغترب عن ذاته، أسير لأدوار محفورة بإزميل القدر ومرسومة بدقة متناهية من قبل محرك خفي يمثل القوى المهيمنة التي تسلب الإنسان حريته في تقرير مصيره.
دلالة الخيوط والحبال …
توهج البعد الفلسفي العميق للعرض المسرحي “تحولات الأحياء والأشياء” في جملة خطابية لواحدة من الدمى تكشف الحقيقة الوجودية لها ولرفيقاتها في معرض اقتراح احدهم بالتحول الى بشر “نحن خشب لا إرادة لنا”، تلك الجملة تؤسس لمفارقة وجودية حادة “الوعي بالعجز هو في حد ذاته تجاوز لهذا العجز” هذا ما يدخل ضمن سياق مفهوم “الوعي النقدي” حيث يصبح إدراك القيود أول خطوات التحرر منها.
تحولت الخيوط في النص من مجرد أدوات مادية إلى استعارة مركبة للبنى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تقيد الإنسان. هذا التحول يتقاطع مع نظرية “الاستلاب” الماركسية، حيث يصبح الاحساس بالقيود جزءاً من الوعي الذاتي للمقهورين.
أسس النص لجدلية عميقة بين المعرفة والتحرر، حيث تصبح “معرفة الإنسان” التي اكتسبها الخشب نقطة تحول وجودية. هذا ما يفعل مفهوم “الوعي التحرري” حيث تصبح معرفة المستعمِر نقطة انطلاق لتحرر المستعمَر.
ظهرت علاقة الحب بين الدميتين العاشقتين كقوة تحررية، حيث يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى قوة وجودية قادرة على تجاوز القيود المادية. وهذا يتقاطع مع مفهوم “الحب الثوري” حيث يصبح الحب وسيلة للتحرر من الاغتراب.
مثلّت استعارة “تجديد الحبال” في المسرحية عمقاً فلسفياً يفسر طبيعة السلطة وآليات عملها. فحين يقول أحد الدمى “هو كل يوم يختبر قوة حباله وما يتهرأ منها يقوم باستبداله”، فإننا نقف أمام تجسيد درامي عميق لما يسميه فوكو “تكنولوجيا السلطة”. تكمن براعة الاستعارة في كونها تكشف عن الطبيعة المتجددة للقمع. فالسلطة، وفقاً لفوكو، ليست مجرد قوة ثابتة تمارس من الأعلى إلى الأسفل، بل هي شبكة معقدة من العلاقات تجدد نفسها باستمرار. وهذا بالضبط ما تجسده صورة “تجديد الحبال” في المسرحية، حيث يصبح الفعل القمعي عملية مستمرة من المراقبة والتجديد والإحكام.
بانَ عمق الميتافورا في كونها تكشف عن ثلاثة مستويات لعمل السلطة: الأول: المراقبة المستمرة (“يختبر قوة حباله”)، وهذا يتقاطع مع مفهوم “المراقبة والعقاب” حيث تصبح المراقبة آلية أساسية من آليات الهيمنة. الثاني: الوعي بنقاط الضعف “ما يتهرأ منها” وهذا يكشف عن الطبيعة الذكية للسلطة في رصد مواطن التمرد المحتملة وتحييدها قبل أن تتحول إلى تهديد حقيقي. الثالث: التجديد المستمر “يقوم باستبداله” وهذا يجسد قدرة السلطة على تجديد أدواتها وتطوير آليات قمعها لضمان استمرار هيمنتها.
اكتسبت هذه الاستعارة عمقاً إضافياً حين نربطها بمفهوم “الخطاب” . فالحبال ليست مجرد أدوات مادية للسيطرة، بل هي أيضاً تمثيل رمزي للخطابات والمؤسسات والممارسات التي تضمن استمرار الهيمنة. كل حبل يتهرأ ويُستبدل يمثل تجدداً في آليات القمع وأساليبه.
كما إنّ الاستعارة هذه كشفت عن وعي عميق بما يسميه فوكو “مقاومة السلطة”. فاهتراء الحبال يشير إلى إمكانية المقاومة وقدرة المقهورين على إضعاف أدوات القمع، لكن في المقابل، قدرة السلطة على التجديد تكشف عن طبيعتها المرنة والمتكيفة.
تتجلى أهمية هذه الاستعارة في كونها تتجاوز التصور التقليدي للسلطة كقوة قمعية بسيطة نحو فهم أكثر تعقيداً يكشف عن طبيعتها الديناميكية المتحركة التي تتجسد في قدرتها المستمرة على التجدد والتكيف مع المتغيرات المحيطة بها مدعومة بوعي عميق بمواطن ضعفها وقوتها مما يمكنها من استباق حركات المقاومة والتمرد قبل وقوعها وهو ما يدفعها نحو تطوير آليات هيمنتها بشكل مستمر ومتجدد يضمن لها الاستمرارية والسيطرة في ظل المتغيرات المتسارعة التي تواجهها مما يجعل منها قوة متحولة ومتكيفة تتجاوز مفهوم القمع البسيط إلى منظومة معقدة من آليات الضبط والتحكم. وهذا ما يجعل المقاومة عملية معقدة تتطلب وعياً عميقاً بطبيعة السلطة وآليات عملها.
محرك الدمى تشكل شخصية محرك الدمى في مسرحية “تحولات الأحياء والأشياء” محوراً جمالياً وفكرياً يتجاوز دورها التقني المباشر ليؤسس لرؤية مسرحية عميقة تستنطق أسئلة الوجود الكبرى عبر تقنية مسرحية بالغة الحساسية والتعقيد إذ يتحول محرك الدمى من مجرد تقني يحرك العرائس إلى استعارة مركبة متعددة المستويات تجمع بين البعد الميتافيزيقي والسياسي والاجتماعي في نسيج درامي محكم
يتجلى العمق السيميولوجي للخطاب المسرحي في توظيفه البنيوي لجدلية الحضور والغياب، حيث يشكل التغييب الجسدي لمحرك الدمى وحضوره الميتافيزيقي تقنية دراماتورجية تؤسس لظاهرة التشيؤ في السياق السوسيوثقافي المعاصر. وتتكشف هذه البنية الدلالية في لحظة النقاش الوجودي حول التحرر والتحول الإنساني، حيث يتجلى أثر السلطة الرمزية المخيفة عبر خطاب الترهيب “احذروا أن يسمعكم وإلا كانت نهايتكم العدم”، مؤسساً لنظام سيميائي يكرس الهيمنة الرمزية للسلطة الغائبة/الحاضرة.
وتتعمق المفارقة الدرامية في الدمية المتسلطة التي تمتلك سلطة ظاهرية، لكنها تظل محكومة بالبنية الاستلابية للتشيؤ، مما يكشف عن التناقض الجوهري في ميتافيزيقيا السلطة ذاتها. هذا التوظيف الديالكتيكي يؤسس لمستويات متعددة من القراءة التفكيكية تستكشف ثنائية القهر/المقاومة في سياق الوعي الجمعي وإمكانات التمرد على منظومة الاستلاب المهيمنة.
ويتحول الغياب الفيزيائي إلى حضور أنطولوجي طاغٍ يسيطر على البنية الدرامية في محاكاة عميقة لفكرة السلطة المطلقة، متقاطعاً مع المفهوم الصوفي للغائب/الحاضر، لكن برؤية نقدية معاصرة تستبطن آليات القمع وإمكانات المقاومة في الخطاب المسرحي المعاصر.
يؤسس النص لجدلية عميقة بين المرئي واللامرئي من خلال علاقة محرك الدمى بدماه حيث تتحول الخيوط إلى استعارة مركبة للعلاقات السلطوية في المجتمع إذ تمثل هذه الخيوط غير المرئية للجمهور آليات القهر والهيمنة التي تتحكم بمصائر البشر وهو ما يتقاطع مع مفهوم “السلطة اللامرئية” عند ميشيل فوكو.
تكتسب شخصية محرك الدمى عمقاً فلسفياً خاصاً من خلال توظيف تقنية “المسرح داخل المسرح” حيث يتحول محرك الدمى إلى استعارة للمخرج/المؤلف الذي يتحكم بمصائر شخصياته في تقاطع عميق مع مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” لبيراندللو لكن بمقاربة تتجاوز البعد الميتامسرحي نحو نقد سياسي واجتماعي عميق
يشكل الصمت المطبق لمحرك الدمى تقنية درامية بالغة الذكاء إذ يتحول هذا الصمت إلى لغة درامية تعبر عن سطوة السلطة وقهرها فالصمت هنا ليس غياباً للصوت بل هو حضور طاغٍ للقوة القاهرة التي لا تحتاج إلى الكلام للتعبير عن سطوتها.
عودة الدمى الى عالمها الخاص في مخزن عرائس ودمى المحرك تستدعي هنا مفاهيم فلسفية ونقدية معاصرة تعمق من دلالاتها وتفتح آفاقاً جديدة لتأويلها فتتقاطع مع مفهوم “الخوف من الحرية” لإريك فروم في تصوير انتكاسة الدمى وعودتها الطوعية إلى قيودها وكشف وهم الحرية السطحية والهيمنة الثقافية في تحليل آليات القهر غير المباشر.
يتجلى العمق السيميولوجي للنص المسرحي في توظيفه الميتاثياترالي لظاهرة النكوص الحضاري في سياق تحولات “الربيع العربي”، حيث تتحول عودة الدمى إلى قيودها إلى استعارة مركبة تستبطن المآل المأساوي للمجتمعات العربية في فقدانها للأمن الوجودي والقانوني لصالح الفوضى والخراب.
يقدم بيراندللو في مسرحيته “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” رؤية فلسفية عميقة حول العلاقة المعقدة بين الواقع والوهم، وهي الرؤية التي تتقاطع بشكل لافت مع فكرة انتكاس الدمى وعودتها الطوعية إلى عالمها الأول في تحولات الاحياء والاشياء . فكما أن شخصيات بيراندللو تجد نفسها في مأزق وجودي بين كونها شخصيات مسرحية وكونها تطمح للحياة الحقيقية، كذلك تجد الدمى نفسها في صراع بين عالمين: عالم القيود المادية الواضحة وعالم الحرية الموهومة.
يؤسس النص لمفهوم جديد للحرية يتجاوز التصور السطحي المرتبط بغياب القيود المادية المتمثلة بالخيوط المتحكمة كما اعتقدتها الدمى ساعة تخلصها منها في اول مراحل الوعي، ليطرح الحرية كممارسة وجودية مرتبطة بالوعي والمسؤولية والقدرة على صناعة المعنى. وبهذا يتحول النص من مجرد عمل مسرحي إلى نص فلسفي عميق يستنطق أسئلة الوجود الإنساني الكبرى في سياق سياسي واجتماعي معاصر.
يتجلى التقاطع العميق بين الطرحين في فكرة “الخوف من الحرية”. فشخصيات بيراندللو، مثل الدمى، تكتشف أن الحرية تحمل في طياتها مسؤولية ثقيلة وخوفاً عميقاً من فقدان الهوية. وكما أن شخصيات بيراندللو تفضل البقاء في إطار النص المسرحي على مواجهة غموض الواقع، تختار الدمى العودة إلى عالمها الأول هرباً من تعقيدات الحرية وثقل المسؤولية واحباط ما لمسته من قسوة عالم الإنسان وافتقاره للسلام والتعايش.
هذه المفارقة الدرامية تكشف عن حقيقة فلسفية عميقة: أن الإنسان قد يفضل القيود الواضحة والمألوفة على الحرية الغامضة والمخيفة. وهو ما يتوافق مع طرح بيراندللو حول نسبية الحقيقة وتعقيد العلاقة بين ما هو حقيقي وما هو وهمي في الوجود الإنساني.
لذلك تقودنا مفارقة الصدمة بالنسبة للدمى وهي ترى قبح العالم الإنساني وافتقاره للسلام والحب الى تبني المثل العربي القديم “تسمع بالمعيدي خير من أن تراه” الذي يعد معادلاً موضوعياً يختزل الفكرة المركزية للمسرحية وفقا لهذا القول المتبرعم من هذا النسق الشعبي “تسمع بالحرية خير من أن تعيشها” مؤسساً لخطاب نقدي يعري زيف المثاليات وأوهام الحرية المطلقة. وبهذا تتجاوز المسرحية كونها عملاً درامياً بسيطاً لتصبح نصاً فلسفياً عميقاً يستنطق أسئلة الوجود الإنساني الكبرى.
تشكل تجربة المخرج منعم سعيد في فضاء المسرح التعبيري والبانتومايم نموذجاً متفرداً في المشهد المسرحي المعاصر، حيث اتضحت بنجاح براعته في توظيف البيوميكانيك المسرحي وتقنيات الكوريوغرافيا الجسدية لخلق لغة مسرحية بصرية متفردة. وقد أسس عبر تجربته الطويلة مدرسة إبداعية تستثمر الجسد كأداة تعبيرية في فضاء السيميولوجيا المسرحية على مدى عقود.
تميزت مقاربته الإخراجية بتوظيف السينوغرافيا الدلالية، حيث يتحول هيكل زقورة بابل من مجرد خلفية سينوغرافية تراجعت مكانيا عند خلفية الخشبة إلى علامة مسرحية مركبة تؤسس لفضاء درامي متعدد المستويات يحمل في طياته الأصالة والانتماء.
تجلت براعة المخرج في معالجته البصرية لشخصية محرك الدمى عبر توظيف الإضاءة والظلال والمسرح الأسود بحيث يتحول غياب الشخصية إلى حضور بصري مؤثر يهيمن على الفضاء المسرحي فالظلال المتحركة والإضاءة الخافتة وتقنيات المسرح الأسود تخلق إحساساً بالحضور المخيف للقوة المتحكمة مما يعمق من التأثير الدرامي للعرض.
تمظهرت بقوة براعة المخرج في توظيف تقنيات المسرح الأسود لخلق ميزانسين ديناميكي بتحول المركب وسط الأمواج إلى ميتافورا بصرية للتحول الوجودي من حالة التشيؤ إلى فضاء الإنسانية الرحب بمغامرة حقيقتها حياة الإنسان وواقعه المضطرب والتي انتهت بصدمة كبيرة أجبرت الدمى على العودة لسجنها راغمة.
أشار هذا التوظيف السينوغرافي لوعي عميق بتقنيات المسرح التعبيري، حيث يتحول الفضاء المسرحي إلى حامل دلالي يجسد رحلة التحول من القيد إلى الحرية عبر تشكيلات بصرية وحركية تستثمر جماليات البانتومايم والإيماء في سياق رؤية إخراجية متكاملة تمزج بين التراث (الزقورة) والمعاصرة (تقنيات المسرح الأسود) في نسيج مسرحي متفرد.
كشف عرض “تحولات الأحياء والأشياء” عن أزمة منهجية في توظيف البوتو الياباني، حيث تم استنساخ شكله الخارجي بحركة واحدة محددة دون تفعيل فلسفته العميقة. فالإفراط الحركي والتكرار غير المبرر درامياً يتناقض مع جوهر هذا الفن التأملي، كما يكشف الأداء التمثيلي عن قصور في تطويع تقنيات البوتو للسياق المحلي فتبدو الحركات منفصلة عن السياق الدرامي وكأنها تمارين تقنية أكثر منها أداءً متكاملاً.
يعكس العرض مأزقاً عميقاً في الهوية المسرحية العربية المعاصرة. فمحاولة محاكاة البوتو الياباني في سياق يدّعي تقديم هوية شرقية عربية تكشف عن اغتراب ثقافي ذاتي، حيث يصبح الشرق محاكياً لذاته عبر عيون الآخر. كما أن امتداد العرض لستين دقيقة يكشف عن سوء فهم للزمن التأملي في البوتو، مما يؤدي إلى إرهاق بصري وذهني للمتلقي وفقدان الإيقاع الدرامي.
وبنفس السياق تتجسد إشكالية أنطولوجية عميقة في المسرح العربي المعاصر، تتجلى من خلال محاولة التوفيق بين المتناقضات الثقافية والجمالية. إن محاولة المزج بين البوتو الياباني – بطابعه التأملي العميق وفلسفته الروحانية – والرقص الشرقي المستمد من الموروث الشعبي، تؤدي إلى انهيار داخلي في بنية العرض المسرحي. هذا التناقض الجوهري بين نمطين مختلفين في الفلسفة والأداء يخلق ما يسميه دريدا “التفكيك الذاتي”، حيث تنهار البنية الدرامية بسبب عدم قدرتها على التوفيق بين هذين العالمين المتباعدين.
كما تؤدي محاولة المزج بين تقنيات المسرح الأسود والبوتوه والبانتومايم والدمى إلى تشتت بصري واضح. فبدلاً من تحقيق التكامل التقني، نجد تراكماً لتقنيات متنافرة، كل منها يتطلب معالجة خاصة ومهارات محددة. فقد كشف العرض عن ما يمكن تسميته بـ”التناقض المنهجي المركب” في محاولة المزج بين ثلاث اشكال وتقنيات مسرحية متباينة جوهرياً. فالمسرح الأسود، بتقنياته المحددة (الإضاءة السوداء، الملابس السوداء، الأدوات الفسفورية)، يتعارض جوهرياً مع فلسفة البوتو الياباني الذي يسميه تاتسومي هيجيكاتا “رقص الظلام” – وهو فن روحي عميق يتجاوز مجرد الخدع البصرية.
أما إشكالية مسرح الدمى الذي صرح بتواجده في بنية العرض الدراماتورج الفنان القدير “زيدون داخل” فتتجلى تلك الإشكالية ما يمكن وصفه بـ”الخلط المفاهيمي”. فهناك فرق جوهري بين “الدمية كأداة” و”الممثل كمحاكٍ للدمية”. هذا الخلط أدى إلى ما يمكن تسميته بـ”التشويه المزدوج” – تشويه لفن الدمى وتشويه للأداء البشري.
تجسدت هذه الإشكالية بشكل صارخ في المشهد الافتتاحي، حيث تظهر راقصة ترتدي الأبيض في محاولة لمحاكاة طقوسية البوتو، لكنها سرعان ما تنزلق إلى أداء رقص شرقي تقليدي. هذا التناقض الأسلوبي يؤسس لـ”الانفصام الثقافي”، حيث تتصارع الهويات المسرحية بدلاً من أن تتحاور.
تعمق هذا الخلل البنيوي عبر محاولة دمج تقنيات المسرح الأسود والبانتومايم مع عناصر البوتو، مما يخلق ما يسمى “فوضى الدلالة”. فالتداخل غير العضوي بين هذه العناصر يفضي إلى تشظٍ في الرؤية الإخراجية وفقدان الجسد المتوهج ليتحول العرض إلى مجرد تجميع آلي لتقنيات متنافرة.
تمظهرتبقوة المعضلة الدراماتورجية في الاقتصاد المسرحي للزمن، فاستغراق المشهد الافتتاحي عُشر زمن العرض يكشف عن خلل في التوازن الدرامي. يتعمق هذا الخلل مع عودة الدمى في نهاية العرض إلى واقعها الشيئي بإعادة وتدوير، مما يشكل انتهاكاً لمبدأ التصاعد الدرامي الأرسطي والذروة.
شكَّل مشهد الولادة الرمزي للدميتين أزمة في الطقوسية المسرحية. فالخمس دقائق التي استغرقها المشهد تكشف عن انفصام بين الشكل والجوهر، حيث تتحول الحركة المسرحية إلى دال فارغ وتكرار آلي يفتقد إلى الشحنة الطقوسية الضرورية لتحقيق تجاوز الجسد لحدوده المادية.
تواجد التوظيف اللوني الأحادي بقوة أي نعم هو من أساسيات البوتو، لكن ظهور أغلب الشخصيات باللون الأبيض يكشف عن توتر في فهم مفهوم الفضاء المسرحي المقدس. فبدلاً من أن يخلق اللون الأبيض حالة من التجريد الدلالي الموحي، يتحول إلى عامل تشويش بصري يمنع تمييز الشخصيات وتحولاتها الدرامية.
قدم هذا العرض نموذجاً لأزمة التلقي المسرحي المعاصر، حيث تتصارع العناصر التقنية والبصرية مع غياب الرؤية الدراماتورجية الشاملة. فرغم توفر الإمكانات التقنية، يظل العرض أسير التجريب البسيط ومحاولة للتجديد الشكلي تفتقر إلى الواقع الجمالي الضروري لتحقيق التجاوز الحقيقي في المسرح المعاصر.
كشف توظيف تقنية الليبسينك في العرض عن مفارقة صوتية تؤسس لإشكالية جوهرية في بنية العرض المسرحي. فالمخرج، المعروف بتخصصه في المسرح الصامت، يجد نفسه في مواجهة تناقض أدائي واضح حين يحاول المزج بين تقنيات المسرح الصامت والأداء الصوتي المسجل.
اتضحت هذه المفارقة بشكل خاص في الأداء الصوتي لأحد الممثلين الذي يستحضر أسلوب القراقوز في مسرحية “الليلة الكبيرة” المصرية. هذا الاستدعاء للموروث المسرحي الشعبي يخلق انفصاماً سمعياً واضحاً، حيث يتحول الصوت من عنصر درامي فاعل إلى مجرد محاكاة سطحية للتراث المسرحي.
أسس التباين الصارخ بين الأداء الصوتي “القراقوزي” المنفرد وبقية الأصوات الطبيعية غير الدرامية لتشظٍ سمعي في بنية العرض. فبدلاً من أن يشكل هذا التنوع الصوتي حالة من التعددية الدلالية المثرية، يتحول إلى عامل تشتيت يضعف من تماسك النسيج الدرامي. مع ملاحظة لابد من ذكرها أن جميع أصوات المؤدين للحوارات المسرحية المسجلة في العرض هم بعيدين كل البعد عن الممثل المسرحي الذي يستحق الثقة من قبل المخرج لصيرورة درامية مؤثرة وممتعة.
برزت إشكالية التشكيل الجماعي للجسد الذي كان منفصل الاعضاء في ارتباك تقني واضح. فالمسرح الأسود، بما يتطلبه من دقة في التحكم بالأجسام المضيئة في الظلام، يحتاج إلى السيطرة المطلقة على عناصر العرض. لكن الأداء كشف عن فجوة بين متطلبات التقنية وقدرات المنفذين.
تعمقت إشكالية التقنيات السينوغرافيا في ما يمكن وصفه بـ”التخمة السينوغرافية” التي تتناقض جذرياً مع ما يسميه غروتوفسكي “القداسة الفقيرة”. فالإفراط في العناصر البصرية – من خيوط وخشب وأزياء ومكياج وموسيقى ما بين شرقية وغربية ويابانية وزقورة أور الضخمة كل ذلك يؤسس لـ “فوضى الدلالات المتصارعة”، حيث يتحول الفضاء المسرحي إلى ساحة صراع بين العلامات البصرية المتنافرة.
يتفاقم هذا التناقض مع إعلان دراماتورج العمل الفنان القدير زيدون داخل عن احتواء العرض على أربعة أشكال مسرحية متباينة (الدمى، البوتو، البانتومايم، المسرح الأسود). هذا التهجين المرتبك يؤسس لما يمكن تسميته بـ”التشتت المنهجي” لإنتاج حالة من الارتباك المعرفي تربك المبتدئين والمتخصصين على حد سواء.
أزمة الأداء الجسدي في ما يسمى “خيانة الجسد لذاته” تواجدت بقوة في أداء الممثلين. فالتخشب وغياب المرونة في حركات الممثلين يكشف عن فجوة عميقة بين النظرية والتطبيق، بين طموح التحول والصيرورة وواقع الأجساد المقيدة بمحدوديتها التقنية.
كشف العرض عن مأزق أدائي مركب يتجلى في سقوط الأداء في فخ “التمثيل الغني” الذي حذر منه غروتوفسكي، وخاصة حركة اليدين المتكررة التي لا تهدأ متجاوزاً مبدأ “المسرح الفقير” الذي يسعى لتعرية الفعل المسرحي من زخارفه الشكلية.
أسست العلاقة بين الحركة كمسرح صامت والبوتوه والموسيقى المرافقة لما يمكن وصفه بـ”الاستلاب الكوريوغرافي” – حالة من التبعية الآلية تفقد الجسد قدرته على إنتاج “التوهج الدرامي”. حيث كشف المستوى التقني عن فجوة عميقة بين الشكل والمضمون، حيث تتحول الحركات إلى مجرد استجابات آلية للمؤثر الموسيقي، متجاهلة مبدأ “الضرورة الدرامية” الذي نادى به ستانسلافسكي. الحركات الواجب ان تكون درامية يتصاعد معها الحدث لذروته متحررا من “أسر الإيقاع المسبق” وإعادة بناءها على أساس الضرورة الدرامية، مؤسساً لعلاقة عضوية بين التشكيل الحركي والبناء الدرامي للعرض.
لكن تبقى التجربة ريادية كونها اقتحمت أسوار خط درامي فلسفي يحذره الجميع بالتردد في ولوجه إلا ان المخرج الكبير منعم سعيد ولإيمانه بقدراته الفنية على صنع الحياة والاكتشاف وهاجس التجريب الذي يسكنه وكعادته في سبر أغوار المسرح العالمي وصناعة هوية متفردة كان هذا العمل الذي من خلاله قدم لنا عرضا مسرحيا مغايرا يبشر بولادة مسرحيين تعبيريين يجيدون مواكبة هذا الفن الجميل الذي اسمه المسرح. وبالتأكيد هي تجربة مهمة ومميزة لهم ستكون لهم عونا في قادم إبداعاتهم. وبرأيي الجاد كان من الجميل لو منح هؤلاء التقنيين والممثلين والدراماتورج والمخرج الكبير منعم سعيد جوائزا تضاف لجائزة أفضل سيناريو تناسب إصرارهم على صناعة شيء مغاير وجميل ومعرفي وفلسفي رصين من خلال جهود جبارة ومحترمة تستحق الثناء، ونحن بانتظار إبداعاتهم القادمة إن شاء الله.
المصادر
1. مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” للكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو
2. كتاب “المراقبة والعقاب” لميشيل فوكو
3. كتاب “نحو مسرح فقير” لغروتوفسكي
4. “نظرية الاستلاب” ماركس