التشاؤم آفة بشرية
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * الإصبع الخامس *
للأديبة / ريم محمد Reem Mohammad
%%%%%%%%%%
الإصبع الخامس
____________
لم أكن في يومٍ من الأيام بحالٍ أفضل ممّا أنا عليه الآن، فمنذُ أن كُتِبَ عليّ الولادة في هذا الزمن وهذا التاريخ، وحمل كل تلك الحمولات التي تؤرق مستقبلي وأنا أعاني من السقطات المتتالية…
في البداية ثُرت وبكيت، ثم امتثلت لنصح والديّ وبعض الاقارب:
– هيي بني، لاتتطيّر من أشياءٍ ورموز فوق طاقتك وقدرتك الاستيعابية، هذا ماقاله أبي لي عندما كنت في سن الخامسة.
– حبيبي، وما معنى ذلك !
هذا ليس مبرراً لفشلك ووحدتك، وليس من المعقول أن تحمّل دوماً كل شيء للقدر، ذلك ماقالته لي أمي في سن العاشرة.
ثم توفي والديّ، وبعد خمسة أشهر توفيت والدتي، وفي الذكرى الخامسة لوفاتهما فقدت إصبعي الخامس إثر سقطة من باص النقل الدّاخلي وأنا أهمّ بالنزول بعد أن دفعني شخص ما كان يحمل مصنّفاً حفظتُ رقمه جيّداً وذُعرت كثيراً عندما رأيته…
لكن اكثر ما أثار رعبي آنذاك، وأرجف فؤادي هو دخول زوجتي بعد الذكرى الخامسة لوفاة والديّ، وهي تحمل ولدنا الخامس بين ذراعيها وقد أحضرت له سيارة عليها ذلك الرقم…
شريطٌ طويل من المآسي بدأ منذ ولادتي ماراً بمحطات حياتي المرعبة التي تحتفظ بذلك الرقم بين ثنياتها.
زوجتي والتي ضاقت ذرعاً بمخاوفي، كنت كلما أخبرتها بحادثة من تلك الحوادث والتي تحيلها بذكاءها الأنثوي للصدف، وأحياناً تذهب لمسافة أبعد من ذلك، وتطلب مني مراجعة طبيب نفسي.
أذكر أنها في إحدى ليالي الصيف الحارقة، في اليوم الخامس من الشهر الذي أخاف أن أذكر رقمه، وفي الساعة الخامسة، حضر خمسة من أقاربها بينهما طبيب، هذا استنتجته بعد أن بدأ يلاحظ تعرق جبهتي واضطرابي وحركات يدي العصبية وهي تبحث عن الإصبع الخامس والذي كنت أتسلى بتفقده عند ارتيابي، عندها انتفضت وقلت بأعلى صوتي:
-لست مجنوناً فلم أحضرتهم؟
عيب عليكِ يازوجتي!
ولم يخفّ توتّري إلا بعد أن دقّت السّاعة الثانية عشر لتعلن مضي ذلك اليوم …
أقنعتني زوجتي المصون بتناول خمسة عقاقير مهدئة بالتناوب، وبمراجعة قريبها بعد خمسة أشهر،…
ازداد جنوني ولكني ضبطت انفعالاتي وقررت أن أمتثل لأوامرها حتى لا تذهب أبعد من ذلك …
هاقد مرت خمس سنوات منذ تلك الحادثة، شربت خلالها العقاقير خمس مرات متتابعة، ونمت أكثر بمقدار خمس مرات كذلك، ولم أستطع محو ذلك الرقم من ذاكرتي،
لكنّ دخولها عليّ بهذه الطريقة، ومعها طفلنا الخامس وهو يحمل تلك السّيارة وعليها ذلك الرقم مجدداً، أفقدني صوابي وأعادني إلى ذلك اليوم عندما كنت بين ذراعي أمي وأحمل تلك السيارة وبذات الرقم وفي نفس التوقيت والتاريخ بفارق وحيد فقط، فحينها كانت أصابعي مكتملة…
هرعتُ بسرعة إليهما، سحبت السّيارة من يده وقذفتها من النافذه بسرعة، ولم أتفطن وقتها إلى ضرورة عد أصابعه.
ريم محمد
الأحد ٥/ كانون الثاني/ ٢٠٢٥/
____________
القراءة
________
* منذ بداية التاريخ البشري، وربما قبله لأمم سبقتنا، للأرقام سحرها الطاغ المسيطر على الألباب والأفئدة، فمنها ما هو مصدر للتشاؤم والتطير والخوف، ومنها ما هو منبع تفاؤل واستحيان وغبطة…فالرقم ٦٦٦ يمثل الشيطان في الأساطير، والرقم ١٣ رقم يمثل الرعب والفساد والقتل، أما الرقم ٥ فهو من الارقام شديدة التفاؤل بها، وأشهر استخداماته المتوارثة جيل بعد جيل؛ درأ شر العين الحاسدة، وإذ بالمخيلة العبقرية التي خص الله بها أديبتنا الرائعة، تقلب الأمور الراسخة عبر آلاف السنين إلى نقيضها، فها هو الرقم خمسة رقم التفاؤل ذو القوة الساحرة، يتحول بين يديها لرقم تشاؤمي مغرق في التشاؤمية، كما نرى في المتن السردي الذي صاغته أناملها الذهبية.
* الخطاب السردي
يقول رسولنا الكريم عليه وآله الصلاة والسلام في حديث شريف فيما معناه * لا طيرة ولا هامة في الإسلام * والطيرة من التطير، والتطير من معانيه التشاؤم، وقصتنا تعالج هذه القضية ومدى تأثيرها على النفس البشرية، وتدعو إلى اتباع الهدي النبوي وترك التطير والتأثر به.
* الحبكة
أجادت القاصة تضفير أحداث قصتها لتصب جميعها لخدمة الفكرة دون شطط وبتبئير شديد.
إذ استهلت سردها بالدخول المباشر دون مقدمات إلى عمق الحدث (منذُ أن كُتِبَ عليّ الولادة في هذا الزمن وهذا التاريخ)، متكئة على عنصر المباغتة الضمنية لتشويق القارئ، وتخليق السؤال الافتراضي الذي لا مناص منه، ألا وهو ” ماذا عن هذا التاريخ؟ وما هو هذا التاريخ؟”، ثم بدأت من تضفير الأحداث وربطها المباشر بالرقم خمسة، سواء كان يومًا أو شهرًا أو…إصبعًا، والإصبع الخامس هو محور الفكرة التشاؤمية من هذا الرقم المحدد وتكراره المأساوي في حياة السارد، بل وإيهامه لنفسه وبنفسه إلى الروح الشريرة التي يعنيها هذا الرقم ويخصها بها دونًا عن باقي البشر الذين يتفاءلون به، بل ويستعيذون به من الشرور المحاطة بهم، كما ورد في الأمثال الشعبية ( خمسة وخميسة في عين اللي ما يصلي على النبي)، والتخميس بالأصابع الخمسة للكف الواحد في وجه من نظن أنه حاسد!، وكما نرى الأيقونة الشهيرة مدلاة في البيوت والسيارات، وأحيانا كعقد ترتديه بعض السيدات حول أعناقهن.
* المعالجة
لعبت القاصة بتقنية التدوير كمعالج سردي لربط نهاية القصة ببدايتها، وهذا التدوير التقني يتجلى في (دخول زوجتي بعد الذكرى الخامسة لوفاة والديّ، وهي تحمل ولدنا الخامس بين ذراعيها وقد أحضرت له سيارة عليها ذلك الرقم…)//( وأعادني إلى ذلك اليوم عندما كنت بين ذراعي أمي وأحمل تلك السيارة وبذات الرقم)، والبراعة هنا تتجلى أيضًا في قدرتها على تبديل تقنية التدوير ، إذ أن التقنية تتكئ على العودة بالنهاية إلى البداية كترتيب زمني، لكنها ها هنا عادت بالبداية إلى النهاية كترتيب زمني، ولإيضاح ذلك ينبغي علينا أن ننتبه إلى إنها استعانت بتيار الوعي السردي في فرعه ( التداعي الحر) لتحقيق ذلك التبديل(وأعادني إلى ذلك اليوم).
* اللغة والأسلوب
كعادتها دائمًا تعتمد قاصتنا الأسلوب السردي المتدفق البسيط السلس، وبلغة مطواعة سهلة الفهم دون تقعر أو مبالغة.
* الفكرة
نقص الإصبع نقص اكتمال، ونقصه هو لحكمة أرادها الله هو يعلمها ونحن لا نعلمها، إذ إنها قدرٌ مقدر لا دخل لنا فيه إلا كأسباب، وعند القضاء والقدر يمتنع اللسان، ويستسلم العقل للمشيئة الإلهية، فلا مبرر للتشاؤم أو الاعتراض.
محمد البنا / القاهرة في ٦ يناير ٢٠٢٥
______________________________