قراءة نقدية:
“القصيدة بين الرثاء والفخروالهجاء”
الشاعر:كمال الدريدي (تونس)
القصيدة: “جاء عيد الميلاد”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة بين الرثاء والفخر والهجاء”
1- العنوان:”جاء عيد الميلاد”
أسند الشاعر عنوانا للقصيدة “جاء عيد الميلاد” وقد ورد جملة فعلية بصيغة الماضي تفيد حصول الفعل وانقضاءه.
وعيد الميلاد هو الاحتفال بميلاد المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) بكل أنحاء العالم.
2- التحليل:
استهل الشاعر المقطع الأول بمقابلة معنوية بين الهتاف والصراخ باستخدام طباق لفظي(يهتف/ يصرخون) بين من يهتف احتفالا ومن يصرخ ألمًا .يقول الشاعر:
والكل يهتف “مرحبا بابا نوال”
وبأرض الزيتون يصرخون
“الدم ينزف”
“قطعت الأرض وقطعت الأوصال”
يقابل الشاعر أيضا في المكان بين “الكل”(بكل مكان) وبين أرض الزيتون(فلسطين).
– انها مقابلة بين الجمع (كل العالم) والمفرد (فلسطين).
– انها مقابلة بين قوة الجمع وبين ضعف الفرد
– انها مقابلة بين الفرح والحزن.
الفلسطينيون يصرخون للدم النازف من الجرحى والشهداء وتقطيع الارض وتقطيع الاوصال.
و”تقطيع الأوصال هو فعل بتر أطراف كائن حيّ أو تمزيقه أو سحبه أو انتزاعه
او إزالته بطريقة أخرى. وقد مُورِستْ على البشر كشكل من أشكال عقوبة الاعدام”(1).
وفي هذا الاطار:
“اتخذ زعماء الطوائف المسيحية الفلسطينية في بيت لحم قرارا بالغاء الاحتفالات العامة بسبب الحروب في غزة”.(2).
انها وحشية الكيان الصهيوني التي جعلت فلسطين تعيش هذه المفارقة التي حرمت الفلسطينيين من حق الاحتفال ككل أنحاء العالم.اذ لا طعم للاحتفال تحت وطأة الاستعمار الصهيوني ورحى الحرب.
ان الشاعر لا يُخفي عنّا وجَعَه آسِفًا على الأعياد التي ضاعت من الأمة العربية
فيقول:
وانا أحصي كم من عيد ضاع
وكم من عشق غادر وأمعن في العناد
وفاتتني بالوجد تؤلمني
كم هاجرت وكم تركت بالأ طلال أوجاع
ان الشاعر يواصل ويضرب المثل بغرناطة وبغداد فيقول:
غرناطة ..ضاعت وهي تناد
واليوم ..قدس تبكي ضياع بغداد
آه كم نسيت أمّتي من أعياد
– غرناطة: قد يستحضر القارئ ماحدث لغرناطة ومن منّا لا يعرف المثل القائل
“وسقطت غرناطة” عند تجسيد الهزيمة:
ويوم 2/ ينايركانون الثاني 1492م انتهى وجود المسلمين بالأندلس مع سقوط مدينة غرناطة – التي كانت أحد معاقل المسلمين- بعد حوالي أربعة قرون من حروب شنتها ممالك الشمال المسيحية على الثغور الأندلسية فيما سمي بحروب الاسترداد (2/جانفي/ 2017)”(3).
انها نكبة غرناطة وسقوط الأندلس وهو حكاية الفردوس المفقود.
هذا الفردوس المفقود الأندلس قد رثاه العديد من الشعراء العرب الذين لهم غيرة على العروبة والاسلام :
– يقول الشاعر اللبناني المعاصر(قد أسْلم بعد أن كان نصرانيا) أبو الفضل الوليد بن طعمة محاكاة لقصيدة ابن زيدون الأندلسي الغزلية النونية:
يا أرضَ أندلسَ حيينا// لعل روحا من الحمراء تحيينا
عادت الى أهلها تشتاق فتيتها// فأسمعت من غناء الحب تلحينا
كانت لنا فعنّتْ تحت السيوف لهم// لكن حاضرَها رسْمٌ لمَاضينا
جاءت من الملإ الأعْلى قصائدنا// والروم قد أخذوا عنا قوافينا
– يقول أحمد شوقي محاكاة لنونية ابن زيدون أيضا:
آها لنا نازحي أيك بأندلس// وإن حللنا رفيقا من رَوَابِينا
رسم وقفن على رسم الوفاء له// نجيش بالدمع والاجلال يثنينا
ويقول ايضاك
يا اخت أندلس عليك سلام// هَوَتِ الخلافة عنك والاسلام
زعموك هَمّا للخلافة ناصِبا// وهل الممالك راحة ومنام؟
– يقول نزار قباني:
في مدخل “الحمراء” كان لقاؤنا// ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
هل أنت اسبانية؟..ساءلتها// قالت: وفي غرناطة ميلادي
وصحت قرون سبعة// في تينك العينين بعد رقاد. !غرناطة
– يقول أبو البقاء الرندي:
لكل شيء اذا ما تم نقصان // فلا يسرّ بطيب العيش انسان
هي الأمور كما شاهدتها دول// ومن سره زمن ساءته أزمان
ان الشاعركمال الدريدي قد ضرب المثل بسقوط غرناطة وبسقوطها سقط الأندلس الذي اعتبره المؤرخون و النقاد الفردوس المفقود.
– بغداد : يضرب المثل بسقوط بغداد مهْد الحضارات ولعل القارئ الذي كان شاهد عيان عند اسقاط تمثال الرئيس العراقي يستحضر ما سجّله التاريخ من الغزو الامريكي عام 2003 فيقول:
“في 9 ابريل/ نيسان دخل الامريكيون بغداد واسقطوا تمثال الرئيس العراقي حينها صدام حسين الامر الذي رمز الى سقوط العاصمة العراقية بغداد والنظام الحاكم (4).
يقول الشاعر صبري زمزم في رثاء بغداد:
بغداد يا نجم العلا// بغداد يا رمز الندى
يا دار الرشيد الأعظم// بالمجد كان توسدا
يا مهد معتصم الذي// أضحى مثالا للفدا
يا أخت أندلس التي// بالامس كانت مسجدا
اليوم صرت أسيرة// والقدس بات مقيّد
ان الشاعر كمال الدريدي يُسرّ الوجع وهو يستحضر سقوط الاندلس وبغداد فيستدعي شخصيات من حكام ذاع صيتهم مثل هارون الرشيد والمعتصم ولعله يريد من الحكام العرب أن يعتبروا بهم ليكونوا فعلا “أسيادا”
انه ينفي عن القادة العرب صفة القيادة والسيادة باستخدام اللام النافية للجنس فيقول : “فلا هارون ولا معتصم ولا سيد من الأسياد”
وما ضرب المثل الا للاعتبار يقول تعالى في سورة ابراهيم (25)”ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون”.
ان الشاعر يذكّرُ الحكام العرب بالتاريخ (غرناطة/ بغداد) حتى لا يُعيد التاريخ نفسه مع فلسطين وغزة لان التاريخ يُعيد نفسه إن لم نعتبر وإن لم نستفد من أخطائه.
ولعل القارئ هنا يستحضر مقولة ابن خلدون تعاطفا مع الشاعر” التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الاخبار وفي باطنه نظر وتحقيق”
ان الشاعر يريد من الحكام العرب أن ينظروا ويُحققوا ليعتبروا بأخطاء الماضي التي أدّت الى سقوط غرناطة وبغداد .
ان الشاعر لا ينفك عن رثاء الماضي المفقود من غرناطة الى بغداد ومن سادة عرب كانوا قدوة (الرشيد/ المعتصم).
يعود الشاعر ليرسم لنا مرة أخرى لوحة تشكيلية يزاوج فيها بين الشعري والتشكيلي تتضمن مقابلة بين المُهَللين بعيد الميلاد وبين الذين يذبحون ويحرقون في العراء والبعاد فيقول:
تموج الدنيا بعيد الميلاد
وطفل يذبح..
ورجل يحرق ..
هناك في العراء والبعاد
والشاعر يلمّح هنا للنازحين من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الخيام تحت البرد والعراء والجوع وقد يستحضر القارئ ما يدور بالخيام قائلا:
“في رفح التي أضحت مدينة خيام بلا خيام كافية لحماية أهلها من البرد والمطر,
يتضوّر الناس جوعا بعد ما نفد لدى الكثير منهم ما يسدّ رمقهم”(5).
وفي هذا الاطار من معاناة أهل غزة وفي نبرة فخرية حماسية يفخر الشاعر بما تقدمه غزة من تضحيات من أجل كرامتها وما يتحمله أطفالها من مسؤولية فهم كالاوتاد يشدون أزرها.فيقول:
غ..ز..ة والغصة بالحلق.. أنت الشرف
أنت العزّة..
أنت للأمة شرف وأطفالك الاوتاد.
انه يفخر بهم لمزيد شحذ عزائمهم ولعل لسان حاله يردّد قول الشابي:
ولا بد لليل أن ينجلي// ولا بد للقيد أن ينكسر.
وفي هذا الصدد فان الشاعر قد جمع بين غرضيْ الرثاء (والرثاء مدح لشيء مفقود جميل) والفخر.
بيد ان حسه العربي وشعوره بالانتماء العربي الاسلامي وغيرته على القضية الانسانية الفلسطينية ..كل هذا لم يُخْفِ عنه الجانب المظلم والظالم من الحكام العرب فيقول:
عرب أذلة يوم التناد
عرب البترول تنعجوا
شريفهم يعمر البيت مكبرا وهو سيّد
الاوغاد..
ان الشاعر يعمد الى الهجاء السياسي:
“والهجاء السياسي يظهر من خلال الشعر في الدرجة الأولى. كان الشعراء يبدون غضبهم وانزعاجهم من الوضع السياسي عن طريق الهجاء والسخرية من الحاكم”(6).
ان الشاعرقد هجاهم دينيا وأخلاقيا:
– دينيا :أذلة يوم الحساب ويوم القيامة (يوم التناد) والشاعر يلمح الى الآية 32 من سورة غافر:”ويا قوم اني أخاف عليكم يوم التناد”
والشاعر حين وصفهم بالأذلة يوم القيامة فالله سيحشرهم في النار.
– أخلاقيا :عرب البترول تنعجوا
شريفهم يعمر البيت مكبرا وهو سيد الاوغاد
لقد وصفهم بالجبن والنفاق لان منهم المطبعين مع الكيان الصهيوني ومنهم المتخاذلين ومنهم المتواطئين.
وهل أكثر من أن الشاعر يختم بقفلة مدهشة تكسر أفق انتظار القارئ بقرار حاسم وباستخدام اللام النافية للجنس يحسم أمره ولعله يحسم حتى أمر القارئ لإلغاء العيد والعود و الفرحة بالأعياد فيقول:
لا عيد ولا عود ولا فرحة بالأعياد
ان قفلة القصيدة تمثل مفارقة عجيبة بينها وبين العنوان(جاء عيد الميلاد).
ان الوجع الذي يسكنه جعله لا يبيح لنفسه ما حُرِمَ منه أهل غزة.
وأكثر من ذلك فان سخطه وغيظه وكمده جعله يختم بقفلة ثانية داعمة للأولى باستخدام جملة اسمية مؤكدة بلام التوكيد ليجعل منها حقيقة ثابتة فيقول:
لَهَدْمُ الكعبة أهون عند الله من حرق العباد.
انه يضعهم أمام الدين مُلمّحا الى الآية الكريمة (33) من سورة الاسراء
“ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله الا بالحق”.
ان الشاعر قد عبر عن سخطه وغضبه وغيظه باستخدام رويّ وهو صوت “الدال” وهو من الأصوات المجهورة والشديدة التي تعكس حالة انفعال نفسية لدى الشاعر وكأني به لا يُشفي نفسَه ولا يُبْرِئ سُقمها الا الجهر بغضبه وسخطه وبشدّته في حسم الأمر حتى لا يموت بغيظه .
وخلاصة القول فان الشاعر كمال الدريدي قد جمع في قصيدته بين الرثاء والفخر والهجاء وهذا الجمع بين أغراض الشعر يعكس حالة نفسية مضطربة وساخطة وغاضبة ومتمزقة بين الرثاء والفخر من جهة وبين الهجاء من جهة أخرى.
وكل ذلك خدمة للقضية الفلسطينية وايمانا منه بانسانية القضية.
سلم قلم الشاعر كمال الدريدي وعاش جليل حرفه المتأجج رثاء وفخرا وهجاء.
بتاريخ:08/01/ 2025
المراجع:
https://ar.wikipedia.org>..(1)
تقطيع اوصال
https://www.quora.com>why-was…(2)
لماذا تم الغاء احتفالات عيد الميلاد في القدس؟
https://www.aljazeera.net>…(3)
سقوط الاندلس..حكاية الفردوس المفقود| الموسوعة-الجزيرة نت
https://www.aljazeera.net>..(4)
وقائع ومناسبات سقطت فيها العاصمة العراقية بغداد| الموسوعة- الجزيرة نت
https://asharq.com>reports>..(5)
رفح الفلسطينية تتحول لمدينة خيام..والنازحون يواجهون الجوع والعراء.
https://ar.wikipedia.org>wiki..(6)
هجاء سياسي- ويكيبيديا.
” جاء عيد الميلاد” (الشاعر كمال الدريدي)..
“مرحبا بابا نوالْ” والكلّ يهتف
وبأرض الزيتون يصرخون
“الدم ينزف ”
“قطّعت الأرض وقطّعت الأوصالْ”
وانا أُحصى كم من عيد ضاع
وكم من عشق غادر وامعن في العناد
وفاتنتي بالوجد تؤلمني
كم هاجرت وكم تركت بالاطلال اوجاع
غرناطة ..ضاعت وهي تنادِ
واليوم..قدسٌ تبكي ضياع بغدادِ
أه كم نسيت أمتي من اعيادِ
فلا هارون ولا معتصمّ ولا سيّدمن الأسيادِ
تموج الدنيا تهليلا بعيد الميلاد
وطفل يُذبح …
ورجل يُحرقُ..
هناك فى العراء والبِعاد
غ..ز…ة والغصة بالحلق..أنت الشرف
أنت العزة ..
أنت للأمة شرفٌ وأطفالك الأوتادِ
عربٌ أذِلّة يوم التنادِ
عربُ البترول تنعّجوا
شريفهم يعمُر البيت مكبّرا وهوسيّد
الأوغادِ..
لا عيد ولا عوْد ولا فرحة بالأعياد
لهدم الكعبة اهون عند الله من حرق العبادِ