🖌️📖قراءتي في قصيدة ( السير طويلا إلى مقالع الحلفاء)
للشاعر التونسي حمد حاجي
Hamed Hadji
———————-
-1–تــصــديــر
كان ومازال الفقر وحشا مكشرا عـن أنيابه يفترس الهشّ ويعمل براثينه في المهمشين ورغم أن معايير الفقر تبدّلت واختلفت بين المجتمعات فالفقر المتعارف عليه ما زال
مقيما بيننا لذلك ما زال الشعراء يهتمون بتيمة (الفقر) اهتماما خاصا ومن بينهم الشاعر حمد حاجي وقصيده هذا خير دليل..
قصيدة [السير الطويل إلى مقالع الحلفاء]
التي طابعها سردي شعري مكثّف، فمن خلاله يستعيد الشاعر ،ذكرى الطفولة في بيئة قاسية تحكمها الخصاصة حيث الفقر والشقاء، مع ذلك هذه العوامل المادية لم تؤثر على الأم ولم تجفف معين حنانها ولا تضحيتها ولا صبرها إنها الأم وكفى ،تحمي، رغم مشقة العمل والبرد والجوع
-2-في رحــاب القــصــيــدة
أبرز عناصر النص:
البصر واللمس يعززان المشهدية
وتظهر هذه التفاصيل، في حمل الأم أطفالها في زنبيل، وملامح التعب على الأم، وملمس الحلفاء والسعف…
أما الإيقاع الداخلي فـهـو قائم على التكرار، والمقابلة بين (الحنان والقسوة) وبين (التعب والدفء )الذي تحاول الأم قدر الإمكان منحه لفلذات كبدها
النص منفتح على بعد إنساني عميق حيث الفقر يُـقدّم على طبق، و كذا الجوع الذي يُنسى بالأغاني وهذا يذكر
بأحد الكتاب الذي على لسان الشخصية يقول (كان يشن هجوما معاكسا على الفقر بالنفخ في الناي(القصبة التونسية)
وهنا الام تردد أهازيج تنسي مرارة الحاجة
– 3–الــزمـان والـمـكـان
الــنــص اتكأ على (الزمان والمكان )
وفي هذه القصيدة يتجليان عبر التفاصيل الحسية والرمزية التي ترسم مشهدًا من الذاكرة، ممزوجًا بالتأمل والحنين…
اعتمد الشاعر على جلب المكان لحد المتلقي وهكذا ندخل
الريف أو البادية: وهذا يتضح من المفردات الموظفّة (مقالع الحلفاء/المراعي /دابتها/ سعف /الشوك/ وهــذا يوحي ببيئة ريفية بدوية حيث يعتمد الناس على الموارد الطبيعية والعمل اليدوي القاسي وينتشر شظف العيش
أما الكوخ الفقير الذي يؤثث القصيدة فهو يظهر كخلفية للمشهد حين يعود الأطفال (جثثًا) من التعب إلى كوخهم في (حالك الغسق)
الصورة مأساوية وبسقف عالٍ…
هذه الأم التي تخرج مع أطفالها
قبل طلوع الضوء وتعود ليلا
حيث تعمل كامل اليوم ويبدو أن ليس لها عائلا تقاسمه حِمل الاسرة الذي اثقل ظهرها
وهنا نلمس قدرة وصبر المرأة الريفية وكفاحها وحسها القوي بالمسؤولية تجاه الاسرة
مكان آخر يسطر المعاناة الطريق الوعرة التي تتجلى في صورة (يا حمار ترفّق بأكبادها عند مفترق الطرق)وهذا يعكس صعوبة التنقل وقساوة التضاريس التي تزيد الحياة تعقيدا وتبرز المعاناة والمأساة
وعبارة( المقالع) لها صدى في نفس المتلقي خاصة من عرف عن قرب (العمل في قطع الحلفاء حيث يتمّ اقتلاع (الحلفاء)، وهي نبات بري يُستخدم في الصناعة التقليدية،
ويستخرج منه عجين الورق
مما يشير إلى طبيعة العمل الشاق الذي تمارسه الشخصية الأمومية(الأم )
كما ان الزمان يعد فاعلا في بنية النص
الزمان فصل الشتاء: يظهر في إشارات مثل (وكان شتاء ونحن نيام، /الصقيع/، /دثر صغار العصافير بالدفء) فالشتاء هنا ليس مجرد طقس، فهو رمز لقسوة الحياة والفقر والعوز
زمن آخر فاعل في النص (وقت الفجر) (حينما بان نجم تخر له أنجم الأفق ) إذن فالرحلة الشاقة تبدأ باكرًا قبل بزوغ للضوء
والنهار الطويل فرغم أن النهار هو النور هو الفرحة وهو رمز انقشاع العتمة فهذه الأم تعيش طوله الٓمرهق بالعمل في المقالع (يمر النهار ثقيلا ) فنعيش بعمق مع الأم الإحساس بالبطء والمشقة
اما العشية والغسق — فتمثلان عودة مرهقة إلى الكوخ (في حالك الغسق ) رحلة تنطق مع الظلمة وترتد إلى العتمة وما الغسق إلا نهاية جهد وإجهاد وعودة إلى أحضان الفقر والجوع والحرمان
فهذه الأسرة ما هي إلا صورة من الواقع اختزلت حياة شريحة من مجتمعية عانت وما زالت مهمّشة كادحة على باب الكدية والاستجداء
-4–أخــلــص
القصيدة تنقل بأمانة يوما نموذجيا في حياة الطفولة الريفية الفقيرة خلال فصل الشتاء، حيث تبدأ الرحلة قبل الفجر وتنتهي عند الغسق، في بيئة طبيعية قاسية تمتد من المراعي والمقالع إلى الكوخ المتواضع لذا الزمن والمكان هنا ليسا مجرد إطار، بل داعمتان تساهمان في تشكيل دلالات النص …فبينما يرمز الشتاء والغسق للجوع والمعاناة، فإن المقالع والطريق هما عين المشقة والكدح
-5–أخــتــم
بالرجوع إلى الماضي
الذي استدعاه الشاعر فلبّى الدعوة وأقبل على هيأة قصيدة
عكست لوحة مبروزة في الوجدان والذهن وتماهيا مع الأزمنة والأمكنة التي سافرتُ اليها مع كل بيت ومعنى لا يسعني إلا أن أقول:
أن للفقـر لذات كلذات الغنى..
————-
نــصّ القصيدة
السير الطويل إلى مقالع الحلفاء
(1
وأجملُ ذكرى، تمرّ بخلدي
وما عاد يَحجُبُها البُعْدُ..
عَنِ رمشة العين أو حاسر الحَدَقِ ..
وكان شتاءٌ، ونحن نيام..
وتحزمنا فوق دابتها
حينما بانَ نجمٌ تَخُرُّ لَه أَنجُمُ الأُفُقِ..
توائم تحملنا…
كما قنفدان بزنبيلها..
يا حمارُ ترفق بأكبادها عند مفترق الطُّرُقِ..
ويا صقعُ…
دثّرْ صغار العصافير
بالدفء مِثلَ اِكتِساءِ الغُصونِ بتعريشة الوَرَقِ
وننزل مثل الكتاكيتِ من عين زنبيلها
وتحذّرنا
من صقيع البلاد.. من الطيش والنزقِ
وتنشئ دوحا تخبئنا فيه
تخشى علينا
من الدوارج.. والغول والذئبِ والجارح الأبقِ ..
تُسَرّحُ دابتها للمراعي
وتبدأ تقلع أغمارَ حلفائها..
تتهاوى من الجهد والضنْكِ والأرَقِ..
يداها على سعف الشوك تبقى تراقبنا..
ما أمرّ الحياة..
وما أفظع الفقر يُهْدَى على طبَقِ…
(2)
يمرُّ النهار ثقيلا
وتأتي العشية تحملنا جثثا..
ونعود إلى الكوخ في حالك الغَسَقٍ.
وأعجبُ كيفَ تُهَدْهِدُنا بالأغاني
إلى أن ننامُ جياعا..؟
ويبقى التذكرُ حبرا على ورق
—————
فائزه بنمسعود
Charlesbourg/13/3/2025






