قراءة وتأويل لنص “برتقالة فاسدة” – كرّار السّعد
برتقالة الفساد المقدسة : جدلية الشك والمصير
رياض عبد الواحد
مقدمة:
التمرّد الشعري بين الشكّ والخلاص
يقدّم كرّار السّعد في نصّه “برتقالة فاسدة” تجربة شعرية مشحونة بالسؤال الوجودي والاحتجاج الميتافيزيقي، إذ تتكئ القصيدة على بنية فلسفية تستدعي ثنائيات الخلق والهلاك، الإيمان والشك، القدر والحرية. يبدو النص وكأنه تأمّلٌ سوداويّ في خراب العالم، متخذًا من “برتقالة تعفنت في يد الإله” استعارة مركزية تختزل رؤيته إلى الوجود بوصفه شيئًا فاسدًا آيلًا للسقوط.
إن هذا النص يستدعي خطابات شعرية وجودية سابقة، مثل تجليات أمل دنقل في “لا تصالح” أو نبرة الاحتجاج عند أدونيس، لكنه يضيف إليها بُعدًا خاصًا يتمثل في إعادة تفكيك المفاهيم الدينية والتاريخية عبر عدسة التآكل والفساد الكوني.
أولًا: بنية النص وأسلوبه – عالم يتآكل تحت جيوش الشكّ
منذ السطر الأول، يعلن الشاعر عن مجاله الدلالي العاصف:
“جيوش الشك تزحف فوق زجاج المعجزات”
إن الصورة هنا تمثل تصادمًا عنيفًا بين الشكّ والمعجزة، وكأنّ القداسة أصبحت هشّة كزجاجٍ يمكن للشكّ أن يزحف عليه، بل وربما يحطّمه. وهذا التوصيف ليس محض استعارة، بل هو تشكيك مباشر في ثبات المقدّسات، وتصويرها على أنها هشة وقابلة للتحطّم أمام زحف الأسئلة الوجودية.
ثم تأتي الصورة المركزية في النص، التي تلخص رؤية الشاعر للعالم:
“هذا الكوكب يا ربي مثل برتقالة تعفنت في يدك”
إن اختيار البرتقالة كرمز للعالم يحمل دلالات عميقة؛ فهي في الأصل ثمرةٌ ناضجة تمثل الحياة، لكنها هنا تعفنت، أي أن الفساد قد أصاب أصل الوجود ذاته. وهذا التوصيف يعكس تأثر النص برؤى نيتشه عن موت الإله، إذ
يبدو الشاعر هنا وكأنه يعاين عالمًا تُرك ليهلك دون تدخلٍ إلهي، فيسائل:
“أين ملائكتك يكنسون الذنوب؟
أين شياطينك تلصق أخطائنا على بالون القناعة؟”
هذان السطران يعيدان طرح مفهوم العدالة الإلهية، لكن بروحٍ ساخرة؛ إذ يسأل الشاعر عن غياب التدخل الإلهي، سواء عبر الملائكة التي تطهّر، أو عبر الشياطين التي تُحَمِّل الإنسان خطاياه. فهل أصبح الإنسان متروكًا لقدره؟ هذا السؤال يتعزز في السطر المحوري الآتي:
“هل اكتفيت من رمي النرد؟
وجعلت الأقدار بأيدينا؟”
هنا يبلغ النص ذروته الفلسفية، إذ يُصور القدر كفعلٍ عبثيّ، شبيه بلعبة نرد. وهذا يعيدنا إلى رؤى كامو عن العبث الوجودي، إذ يتساءل الشاعر: هل الإله رمى النرد وانتهى دوره؟ هل تُرك الإنسان لمصيره دون تدخل؟
ثانيًا: الجذور الفاسدة والإنسان العاري – تماهٍ مع خطيئة آدم:
يتابع النص مسيرته في تفكيك صورة الإنسان المعاصر، فيقارنه بآدم العاري، لكن هنا بلا براءة:
“عارية أيدينا مثل آدم
وجذورنا فاسدة تركض فوق الأرض
ترتدي الحديد والرصاص”
إن الإنسان في هذه الصورة فقد براءته الأولى، وأصبح مُحاطًا بالفساد المسلح، إذ يحلّ الحديد والرصاص محلّ الطبيعة والنقاء. ثم تأتي صورة نووية مهيبة:
“وبين أصابعنا ذرة قابلة للانشطار”
هنا يتماهى النص مع المخاوف الحديثة عن قدرة البشر على تدمير أنفسهم، وكأن الإنسان أصبح مشروع فناء ذاتي، يحمل في داخله بذور انفجاره.
ثم ينتقل الشاعر إلى صورة أخرى أكثر رمزية:
“نحن الغصن الذي تنخره دودة الموت
لا نأكل إلا لحمنا”
هذه الصورة القاتمة تذكرنا بنظرة توماس هوبز عن “حرب الكل ضد الكل”، إذ يصبح البشر وحوشًا تفترس نفسها. لكن النص لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل يُعيد استحضار المشهد الإبراهيمي بنحو مغاير تمامًا.
ثالثًا: الحلم الإبراهيمي وغياب الفداء – انقلاب السردية المقدسة
يقدّم الشاعر أحد أقوى مقاطع النص حين يقول:
“ما زلنا نعيش في حلم إبراهيم
وسكين المنامات كل ليلة تلعق أعناقنا
هل أكباشك نفدت؟
هل أخطأت بين إسحاق وإسماعيل
أم ترى رؤوسنا تعفنت بالكامل؟”
هنا يعيد النص قراءة قصة إبراهيم وذبح الابن، لكن من زاوية جديدة: البشر جميعًا عالقون في “حلم إبراهيم”، في انتظار سكين الفداء التي لم تأتِ. فهل انتهت الأكباش؟ هل لم يعد هناك فداءٌ للبشرية؟ أم أن الرؤوس أصابها العفن لدرجة أن الفداء لم يعد ممكنًا؟
هذه الأسئلة تعيدنا إلى مفهوم الضحية في الفكر الديني، لكنها تنقلب هنا إلى احتجاجٍ ضدّ صمت الفداء وتأخر الخلاص، ما يمنح النص بُعدًا وجوديًا عميقًا يتقاطع مع صرخة إليوت في “الأرض الخراب”، حين يصور عالماً ينتظر الخلاص عبثًا.
خاتمة:
قصيدة احتجاجٍ وجوديّ ومساءلة للقدر
“برتقالة فاسدة” ليست مجرد قصيدة، بل هي إعلان تمرّد ضدّ صمت السماء، ونقد للقدر بوصفه لعبةً عبثية. ينجح كرّار السّعد في صياغة عالمٍ ينهار تحت وطأة الشك، حيث تتحول المفاهيم الدينية الكبرى إلى أسئلة قاسية بلا إجابات.
إن قوة النص تكمن في قدرته على استخدام صور شعرية مشحونة بالتمرد والاحتجاج، من “البرتقالة الفاسدة” إلى “سكين المنامات”، ما يجعله نصًا مفتوحًا على قراءات فلسفية عميقة. وإذا كان المتنبي قد صرخ يومًا:
“إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ … فلا تقنعْ بما دونَ النّجومِ”
فإن كرّار السّعد يعكس هذه المعادلة، ليقول إن النجوم نفسها قد سقطت، ولم يتبقَّ سوى شظايا المعجزات المهشّمة، و”برتقالةٍ فاسدة” في يد الإله.
النص الاصلي:
جيوش الشك تزحف فوق زجاج المعجزات
هذا الكوكب ياربي مثل برتقالة تعفنت في يدك
أين ملائكتك يكنسون الذنوب؟
اين شياطينك تلصق أخطاءنا على بالون القناعة؟
هل أكتفيت من رمي النرد؟
وجعلت الاقدار بأيدينا
عارية ايدينا مثل ادم
وجذورنا فاسدة تركض فوق الأرض
ترتدي الحديد والرصاص
وبين اصابعنا ذرة قابلة للانشطار
نحن الغصن الذي تنخره دودة الموت
لا نأكل إلا لحمنا
مازلنا نعيش في حلم ابراهيم
وسكين المنامات كل ليلة تلعق اعناقنا
هل اكباشك نفدت؟
هل أخطات بين اسحاق واسماعيل
أم ترى رؤسنا تعفنت بالكامل!
