في هذا النص، ينسج الدكتور حمد حاجي مشهدًا شعريًا ينبض بالحسّية، حيث تتحوّل الرغبة إلى كيان يتلاشى داخل الآخر، ويتداخل الحلم مع الواقع في توازن هشّ بين التماهي والانفصال. عبر صور متوهجة وإيقاع متدفق، يخلق النص عالمًا يقف فيه الشاعر على حافة الأمنية، قبل أن يصطدم بجدار الاستحالة، وهو ما يتجلّى منذ السطر الأول الذي ينفتح على عتبة حسّية موحية: “ياليتني كنتُ رشة عطرٍ بأثوابها…”.
هنا، لا يحضر العطر كمجرد استعارة، بل ككيان يرغب في الاندماج، في التحوّل إلى أثر حميمي يتلاشى داخل الآخر. هذه النزعة للتحول، التي تتكرر لاحقًا عبر “حبّات قمح”، “فرخ حمام”، تكشف توقًا عميقًا للذوبان في حضور الأنثى، لا كذات مستقلة، بل كظلّها أو حتى كشيء من أشيائها.
الجمال في النص لا يعتمد على الزخرفة اللفظية، بل ينبع من الانسيابية الموسيقية التي تتخلل الأبيات، حيث تُمزج الرؤى البصرية بالمجازات الشعورية، فتتكوّن مشاهد تنبض بالحياة. الصورة المركزية للمرأة التي تطعم الأفراخ، المستلهمة من لوحة فيغو جوهانسن، تتجاوز مجرد إعادة إنتاج بصري، بل تتحوّل إلى مشهد وجداني يمتدّ بين الفعل اليومي والبُعد الأسطوري، حيث يصبح حضورها أشبه بـ*“سماء عطايا”*، ويقف الشاعر أمامها كما جاء موسى على قدر، في إحالة تستبطن موقف التلقّي والانتظار، وكأن المرأة هنا ليست مجرد إنسانة بل كيان ذو قدسية.
غير أن النص لا يبقى في فضاء الحلم، بل ينكسر في آخر مقطع، حيث يظهر “القلب الأقسى من الحجر”، ليحطم دوائر التمني التي بُنيت في السابق. هذه المفارقة بين الرغبة في الذوبان وبين جدار الرفض الصلب تمنح النص توترًا داخليًا يجعله أكثر كثافة وتأثيرًا.
إذا ما قرأناه برؤية نقدية تستلهم أفكار جاك دريدا عن “الأثر”، يمكننا القول إن النص بأكمله محاولة للكتابة داخل أثر المرأة، التحوّل إلى كيان غير مرئي لكنه حاضر داخلها، سواء كان عطرًا أو قمحًا أو وشمًا على معصمها. غير أن هذا الأثر يظلّ محكومًا بالمحو، حيث ينتهي النص إلى الإقرار بأن القلب أقسى من الحجر، مما يُحيلنا إلى استحالة التحقق الفعلي للرغبة.
الجمالية هنا إذن ليست فقط في الصورة الشعرية أو الموسيقى الداخلية، بل في التوتر بين التماهي والانفصال، بين الحضور والغياب، بين الذوبان والجدار الصلب الذي يمنع ذلك. هو نص يخلق حوارًا غير متكافئ بين الرغبة والواقع، بين الحلم والاستحالة، ويترك القارئ مع إحساس بالافتتان الممزوج بالخذلان، وكأننا أمام لوحة ليست للفرح، بل لرقصة الضوء والظلّ على أطراف المستحيل.
تحياتي والإكبار دكتور دمت قديرا