- قراءة نقدية:” القصيدة بين الحبّ وتحجّر المشاعر”
القصيدة: ” يا ليتني كنت رشة عطر بأثوابها”
الشاعر حمد حاجي (تونس)
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: ” القصيدة بين الحبّ وتحجّر المشاعر”
1- العنوان: ” يا ليتني كنت رشة عطر بأثوابها”
استخدم المبدع في قصيدته أسلوبا انزياحيا تركيبيا قائما على التمني (يا ليتني) منذ العنوان وكرره في مقاطع من القصيدة .
والتمني هو طلب المستحيل وكأني بالمبدع منذ عتبة العنوان يستشرف تجربة مستحيلة مع هذه الريفية التي استهوته وحط في حَرَمِها رحاله.
لقد راهن المبدع على متعة الحواس فتمنى لو كان رشة عطر بأثوابها لتستنشق رائحته باستمرار ويستهويها فتبادله الحب.
2 – التحليل
استهل المبدع قصيدته مُسْتفيقا على حاسة البصر ليصف جمالها الجسدي والمعنوي فيقول:
وألمحها بالفناء..عمود رخام ..
يداها سماء عطايا..
لعل المبدع يصف كرم يديها طمعا في أن يصله كرما عاطفيا منها .
وأكثر من ذلك أضفى عليها قدسية عند مجيئه اليها فاستدعى الشخصية الدينية المتمثلة في شخصية صورة موسى حين جاء ربه فيقول:
“وجئت كما جاء ربه موسى على قدر”
ان شغف حرصها على إطعام أفراخها جعلها لا تبالي حتى بسلامه فبالكاد حركت شفتيها . يقول:
وتطعم أفراخها ..
لا تبالي بحرف سلام على طرف الشفتين
يدندن كاللحن يسري على وتر.
وها هي حاسة السمع تستيقظ فيه رغم عدم اهتمامها به.
ولعل المبدع قد استلهم اهتمامها بفراخها وعدم انشغالها بما يحيط بها لا سمعا ولا بصرا من تلك اللوحة المصاحبة للقصيدة للفنان الرسام الدنماركي فيغو جوهانسن التى رسمها في أواخر القرن التاسع عشر لتحرك حواس مبدعنا ويرسمها بالكلمات:ويعود الى متعة الحواس شمّا وبصرا فيشتم عطرها و يبهره نورها وهي تنثر الحب لفراخها وليكمل الصورة الشعرية الحسية باستخدام أسلوب انزياحي دلالي قائم على التشبيه والكناية فشبه أزهار فستانها بالكواكب وكنّى عنها بالقمر فيقول:
تدور وتنثر عطرا ونورا..
وأزهار فستانها
كالكواكب في الأفق يحففن بالقمر..
وكأني بالمبدع بالانبهار بجمالها الجسدي وكرم يديها وقدسيتها في تعففها يشرّع حبه الروحي والجسدي لها ويبرر للقارئ مدى انبهاره بها.
ويعود الى استخدام الأسلوب الانزياحي الإيقاعي القائم على تكرار تلك اللازمة
“يا ليتني” ليتمنى متعة حاسة اللمس التي هي أمّ الحواس في العلاقة العاطفية
فيتمنى لو يكون حبات قمح أو فرخ حمام بين كفيها لتكون مأواه كما الشجرة بالنسبة للحمام.
والمبدع لم يكتف باقناع القارئ بها بل يسعى لاستعطافها حين انتقل من ضمير الغائبة الى ضمير المخاطبة ليخاطبها قائلا:
فيا ليتني حبات قمح أقول..
ويا ليتني كنت..
فرخ حمام بباطن كفيك..حطّ على شجر..
انه يتمنى ان يرسم وشم الخلود وقلب الحب على معصميها ويقرن اسمه باسمها فيقول:
لأرسم وشما وقلبا
وأكتب اسمي على معصميك..
والمبدع وهو بين التمني والاستحالة وبين مدحها وعدم مبالاتها به يختم بقفلة وإن كان قد استشرفها منذ العنوان باستخدام التمني إلاّ أنها قفلة مدهشة لم يكن القارئ ليتوقعها وانتهكت حرمة الحب المتبادل بينهما هذا الحب المتبادل الذي دأب عليه مع المبدع بيد أنه مع هذه الريفية قد عجز على تطويعها لتبادله الحب .فيقول مخاطبا إياها:” ولكن قلبك أقسى من الحجر”.
قد يتدخل القارئ هنا متسائلا:
– هل هي قفلة ذمّ بما يفيد المدح؟:
فهو يذمّ تحجّر مشاعرها بما يفيد مدح تعففها.
– هل هي قفلة مدح بما يفيد الذمّ؟
فهو يمدح تعففها ليذمّ تصلّبها وتحجر مشاعرها نحوه.
لعل المبدع هنا يطرح مأساة الحب من طرف واحد ولسان حاله يقول:
“ما أشدّ وقعه على قلب الرجل”.
انه أحبها بكل حواسه وجوارحه وفي المقابل لم تبادله هذا الحب بل كان قلبها “أقسى من الحجر”
ومن خلال هذه القفلة فالمبدع لا يخفي عنّا وجعه وجرح قلبه .ولعلني هنا أستدعي شاعر المرأة والحب لينصحه قائلا:
” لا تحبّ بعمق حتى تتأكد بأن الطرف الآخر يحبك بنفس العمق فعمق حبك اليوم هو عمق جرحك غدا”.
سلم قلم المبدع حبّا وتحجر مشاعر.
بتاريخ 20/ 03/ 2025
==== القصيدة ===ياليتني كنتُ رشة عطرٍ بأثوابها…
ا=======
.
.
.
وألمحها بالفناء.. عمودَ رخام..
يداها سماء عطايا…
وجئتُ كما جاء ربَّهُ موسَى على قَدَرِ
.
.
وتطعمُ أفراخها ..
لا تبالي بحرف سلام على طرف الشفتين
يُدَنْدِنُ كاللحن يسري على وترِ..
.
.
تدور وتنثر عطرا ونورا..
وأزهار فستانها
كالكَواكب في الأفق يَحفُفنَ بِالقَمَرِ..
.
.
فيا ليتني حبّاتُ قمحٍ، أقولُ..
ويا ليتني كنتُ..
فرخ حمام بباطن كفّيْكِ.. حطَّ على شجَرِ..
.
.
لأرسم وشما وقلبا
وأكتب اسمي على معصميك ..
ولكنّ قلبك أَقسى من الحجرِ..
.
.
.
ا======= أ. حمد حاجي ====
ا======
” امرأة تطعم الدجاج “بريشة الفنان الرسام الدنماركي فيغو جوهانسن ( 1851 – 1935 ) رسمها عام 1878 بالألوان الزيتية على القماش ، أبعادها 50 × 34.5 سم.