قراءتي في نص(أبعد من الليالي)
للأديب التونسي صفوان بن مراد
Safouene Ben Mrad
——————
تـقـديـم:
كتبت في قصيدتي(نـــام شهريــار)
في الليلة الواحدة بعد الألف
تمتنع شهرزاد عن الكلام المباح
وتشهر العصيان في حضرة السفاح
تغتسل بماء الكبرياء
تتبتل
تتنفس نسيم الحرية
وتلسعها نار العزة والإيباء
ويستيقظ فيها مارد عزم حواء
وتكفر بالخنوع…
—
وفي هذا النص وفي نفس السياق [تخرج الحكايات من المألوف والعادي إلى تمركز الأنثى ودهشة الحكي حيث تعمل شهرزاد على تقويض
السلطة والسياسة والذكورة على السواء من خلال
تبادل الأدوار]
وهذا نلمسه من خلال
معمار النص الذي يحمل طابعا سرديا فلسفيا من حيث تناول الصراع بين شهرزاد وشهريار من منظور مختلف عن عقلية ومنطق القص في ألف ليلة وليلة فـيصبح شهريار هو الخانع الخاضع، المتوسل للرحمة…بينما تمسك شهرزاد زمام الأمور لا فقط بحكاياتها، بل برؤيتها الأوسع والأشمل للحياة والحكمة والسعادة…
والنص مستوحى من أجواء (ألف ليلة وليلة)، لكنه يتجاوز فلكلور الحكايات التقليدية ليطرح ثيمة البحث عن المعنى الحقيقي للحياة والتجليات التي تمنحها التجربة الإنسانية. ..
والصراع بين السلطان (السلطة)والساردة هنا ليس مجرد صراع على البقاء والتعلق بالحياة ، ولا يمثل حرب التموقع بل هو صراع على المفاهيم ذاتها ،ومَـن له مشروعية منح الحياة للآخر ؟
و من يحتاج إلى من؟
وهل العلاقة
تكاملية أوندية أوتنافر وجاذبية أو عدائية مبطنة
وتتعدد الاستفهامات…
وقد عمل السارد على تعزيز التوتر الدرامي في الحوار
الذي تنامى ونهج منهج التصعيد ويظهر ذلك في الانهيار الكلي لشهريار أمام جبروت شهرزاد
—أما النهاية فـتفتح باب التأويل على مصراعيه -مثلا هل مغادرة شهرزاد دلالة على تحررها من قيود السرد المفروض عليها؟ أم أنها تترك شهريار ليواجه ذاته دون الحاجة إليها؟
أم أن شهرزاد وصلت إلى إدراك عميق لم تصل إليه من قبل، وأنها لم تعد تهتم بالصراع، بل بالسفر نحو الحقيقة؟
إضافةً إلى حيرة هذا السؤال المتمثل في :مـا المغزى من فكرة أن العفو متبادل؟والسؤال مطروح ومفتوح
لـغـة الـنـص:
اللغة جزلة، تحمل نفسا شعريا واضحا وجليا، خاصة في المقطع الأخير (و ها أني أرد إليك بضاعتك فعليَّ الآن الالتحاق بمكاني الطبيعي **)
الذي يشبه الومضة الفلسفية
وفي المجمل النص محكم، يعيد قراءة الحكاية القديمة من زاوية جديدة أكثر عمقا وأقرب إلى ما عليها المرأة اليوم من وعي بذاتها وبقدراتها على تمزيق شرنقة الوصاية التي كبلتها طويلا وحشرتها في زاوية
( العورة والكيد ورجس من عمل الشيطان)
وأختم بالمقطع الأخير من نفس القصيدة وهي طويلة
[نام شهريار
واستفاقت شهرزاد
انتزعته من عينها
ووقفت له بالمرصاد
وما كان منها تمردا وعناد
وانما استعادة حق
منحها إياه رب العباد
الزم حدودك يا شهريار
وعلى فرعنتك أعلن الحداد
فأنا
صوت كل امراة أنا شهرزاد..]
————-
الــنــصّ:
أبعد من الليالي
اقتعد شهريار الأرض تحت قدميها قانتا مُتبتِّلا متعبدا في محرابها ، و لكن متهيبا سطوتها، يسري الرعب في مفاصله، من إمكانية مصير أسود ، مسرى النار في جافِّ الهشيم و تكاد الدماء تتجمد في عروقه حتى فقد الإحساس بنبض قلبه..ما عساها فاعلةٌ به لو لم تَرقْ لها حكاياته ؟ هل سيلتحق بقافلة ضحاياها و ما أكثرهم؟..يرتعب من نشوب سهام الضياء في لحم الظلام بقدر ما كان ينتشي بها مُؤْذنةً بدم عذراء جديدة تروي شهوته العمياء.
استسلم صاغرا لقدره منتظرا حكمها..حدجته بنظرة قاسية من عينيها النجلاوين..غريزة ما ألهمته أن شهرزاد تداري خلف ستار تلك النظرة الكثيف لمسةَ شفقة..عطف..حنو..حب؟؟ و لكن جاءه صوتها البارد ساخرا ملولا :
_ لم تأت بجديد في حكاياتك..ليس فيها أية إثارة
_ و لكني اجتهدت ، و لكل مجتهد نصيب
_ لم تجتهد و إنما كررت كلاما ممجوجا عن الرخ و العنقاء و رحلات السندباد الفاشلة و التي كان حصاده منها بعضَ حِكَمٍ باهتة و مالا وفيرا
متشجعا بانسياقها للمساجلة قال:
_ و لكنّ حِكمه نفعت الناس
هزت كتفيها استهانة قائلة و هي تهم بالنهوض
_ الشر كما هو بل استشرى و الخراب يعم فأي نفع لحِكمك تتحدث عنه ؟
_
و لكني منحتك كنوز الدنيا و صولجان السلطان فاستويتِ على العرش آمرة ناهية و بمشيئتك يتحدد الموت و الحياة
نهضت و ضحكت ضحكة عريضة ساخرة و داست بطَرَف حذائها على أصابعه مشيرة بيدها للسياف و قالت:
_ و لكنك لم تمنحني السعادة
تشبث بذيول ثوبها في اختلاجة أمل أخيرة قائلا :
_ لا إخالك تنكرين أن حكاياي منحتك من التجليات ما لا تمنحه الحكمة و لا العلم و لا السلطان
تراجعت خطوتين ..تشبث بخيط النجاة الواهي ..أدرك بشكل ما أنه يُثبّتُ موقعه الهجومي قال:
_ لأجل هذه التجليات تخليت لك بإرادتي عن الحكمة و السلطة
التقط بعينيْ صقر نظرتها الساهمة المتحيرة في اللامدى فأردف بنبرة منتصرة :
_ و لا أحسب أنك لا تدركين أن هذا ليس بالأمر الهين ، بل هو ضد قوانين الأرض و نواميس السماء.
أولته ظهرها مدبرة و تبعها السياف و تناهى إلى سمعه بالكاد صوتها الخافت يهمس:
** عندما تنساب من قرص الشمس الملتهب نسماتٌ قمرية رُخاء ، و يركن العاشقون إلى تجليات الكون الوضيئة مسفرة عن سر الكينونة الكبرى ، معانقة رحلة الباحثين عن الحقيقة ، مدركين أنها في متعة السفر و معاناته كامنة ، و هي الهدف في حد ذاته ، و هي قدر العشاق النبيل..عندها يغزوك إحساس إنساني واعٍ بالتجليات ، و تدرك أن عفوي عنك لا يقل عن عفوك عني بسببها ، و ها أني أرد إليك بضاعتك فعليَّ الآن الالتحاق بمكاني الطبيعي **
همست شهرزاد بهذه الكلمات و التفتت إليه و منحته نظرة مشجعة ، و سرعان ما ذابت في الزحام..زحام الناس..زحام الناس الهادر..
————
فائزه بنمسعود
Québec/25/3/2025