قراءة نقدية مزدوجة:
“القصيدة بين الحب والوجع والوفاء”
فقرة جمع بصيغة المفرد (مبدع/ مشاكس/ ناقدة )
المبدع حمد حاجي (تونس)
القصيدة “السقاء والسنونوة”
المشاكس عمر دغرير (تونس)
القصيدة: “ستظل تعيش بلا هدف”
الناقدة جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة بين الحب والوجع والوفاء”
أ – المشترك بين الابداع والمشاكسة:
– التناص المعجمي:
– الاطار الزماني
– مشاعر الحب والوجع
– قيمة الوفاء
ب – المختلف بين الابداع والمشاكسة:
1 – المبدع حمد حاجي وأسطورة الحب والوجع والوفاء
أ- العنوان :
اختار المبدع عنوانا لقصيدته “السقاء و السنونوة” وقد ورد مركبا عطفيا.
فما علاقة السقاء بالسنونوة؟
لقد كنّى المبدع عن نفسه بالسقاء وكنى عن حبيبته بالسنونوة.
والسنونوة هي طائر من فصيلة الخطاطيف وهي من الطيور الدورية
والسقاء هي مهنة عرفت قبل التطور الحضاري بإيصال المياه الى البيوت بواسطة القرب.
إن العنوان مشحون بثنائية العطش والحرية.
فهذا السقاء الذي يروي الناس من عطشهم:
– هل سيُرْوَى ضمأ شوقه الى حبيبة مهاجرة وتعود بصفة دورية في الربيع؟
– هل هذا السقاء سيقضي وطرا من حبيبة محلقة في السماء وهو مشدود الى الأرض؟
ب – التحليل للقصيدة:
استهل المبدع قصيدته بتحديد الاطار الزماني(أوائل فصل الربيع) وهو زمن دوري وموسم عودة أسراب الخطاطيف لبنا ء أعشاشها في السقف بحثا عن الدفء .فهل هذا السقاء سيروي عطشها دفءا؟
هذا التعشيش بأركان الغرف يوقظ حواس المبدع ويشعره بالقرب من السنونوة فيقول:
تحلّ أوائل فصل الربيع
كسرب خطاطيف
أجنحة حائمات الى أركن الغرف..
ويوشك طيب النسائم يحملها في جوانحه ولطافته
وتكاد النسائم تمسكني
او تشدّ على كتفي..
ويقحم المبدع القارئ ليوقظ فيه حاسة الشمّ مستمتعا بشذى رائحتها ليشرّع حبه لها ويقنعه بذلك فيخرج من طور التجربة الشخصية الى التعميم. فيقول:
وتحسبها حين ترفع عن خدها طرف منديلها
مسكة فوق كافورة
فاحتا من شدة الشوق والكلف
ان استدعاء المبدع لحاسة الشمّ يشي بأنه غير قادر على الإمساك بها ولا الحديث معها فهو يشتمّ رائحتها الزكية (مسكة / كافورة) عن بُعْد.
هذا البعد يثير بكاءه وحزنه فيقول:
ووحدي كسقاء أحمل روحي
ودمعي تقاطر بالدرب..
سقاء يمشي بأجفانه قربة وبأعماقه عتمة الدرّ في صدف
وباستخدام صورة شعرية حسية استعارها من مهنته كسقاء (بأجفانه قربة) يقابل المبدع بين ظاهره وباطنه بين عينيه وبين أعماقه وبين ما يعيشه وبين ما يشعر به:
لئن كان ظاهره بكاء ونحيب(بأجفانه قربة) ففي أعماق قلبه شعور دفين لا أحد قادر على معرفته.. إن ما يشعر به نحو الحبيبة شعور كبير بالحبّ.
وما يحز في نفسه أنها تمرّ في وقت واحد في وقت الغروب وهو وقت يشي بالنهاية نهاية انتظاره فطوال النهار هي بعيدة عنه محلقة في الفضاء.
ان المبدع يُفارق بين حريتها في السماء وبين مكوثه بالأرض بين استقراره وبين ترحالها.
وفي هذا الاطار من الترحال يُسٍرّ الوجع وألم البعْد والوصْل والشغف فيتوجّه اليها قائلا:
وأناديك : يا طائر البر قل لي:
أمثلي, بطيّ جواك انقباض وحزن؟
أعندك ما ذقت من ألم البعد والوصل والشغف؟
كأني بالمبدع يستجدي عطفها عليه وهو يكشف عن حزنه العميق لبعدها
وأكثر من ذلك هو يريد أن تشاركه لوعة البعد التي يعيشها ليطمئن قلبه.
إنه يريد أن تشاركه مشاعره لعلها تحنّ عليه و اليه.
إن المبدع تتقاذفه عدة متضادّات:
– استقراره وترحالها
– بكاؤه وعدم اكتراثها.
– انشداده للأرض و تحليقها بالسماء
– سجنه مع حزنه وحريتها.
كل هذه المتضادات تجعله يشي لنا بحقيقة مرّة:
– انها ضعفه وقوّتها.
ان ضعفه جعله يتشبث بكل ما يوحي اليه بها ويحميها من كل من يسعى الى أذيتها بل ويغار على اسمها حتى أنه بات يخشى البوح به.
وفي هذا المعنى يتناص المبدع مع نزار قباني في قوله:
أنا عنك ما أخبرتهم لكنهم// لمحوك تغتسلين في أحداقي.
أنا عنك ما كلمتهم لكنهم// قرؤوك في حبري وفي أوراقي
للحب رائحة وليس بوسعها// أن لاتفوح مزارع الدراق
أما مبدعنا حمد حاجي فيقول:
وأحسد كل الأسامي
في حضرة النادهين اذا ما ذكرن
أغار على اسمك واسمك ..عشاق..عناق كاللام بالألف..
واسمك أوشك أفضحه
وأحاول كتمانه فيفوح..
كأنه نشر زهر وينثال في كف مقتطف
تتحوّل الحبيبة الى طيف يمرّ في سهاده وأرقه ويباركها فتخضبها جدته ويمنع عنها ازعاج الصغار والصيادين من الناس فيقول :
تمرين طيفا بموعده.. في السهاد..
وأطلب من جدتي أن تخضب منك الجناحين
ما أقتل الحب ما لم يكن بالوعود يفي
لكنك تأتين رافلة في الصبابة والشهد واللهف
فأمنع عنك الصغار وطيشهمو في الزقاق..
وألا يناوشك الترب والصائدون بالطوب وبالخزف.
ويدعم هذا المشهد بتلك اللوحة المصاحبة التي من خلالها يتطلع الأطفال اليها.
=== يتبع ===
=== يتبع ===
ويختم المبدع بقفلة تتناغم مع هذا الحب الكبير اذ لا حيلة له الا الوفاء لحبها وقد أقسم على ذلك قائلا:
أحبك جدا وأقسم بالله والرسل والصحف
أحبك ما مرّ طيفك أو حام طير الخطاطيف بين الديار
ولن أتراجع عن حلفي.
انه بوح صريح بالوفاء الأبدي لحبها بشهادة الله والرسل والصحف.
وفي هذا الاطار من الثنائيات التي يعيشها :
– استقراره وترحالها.
– بكاؤه وعدم اكتراثها لأنها لا تستطيع تغيير طبيعتها الحياتية والتي تكيّف وجودها في الترحال الدوري.
– انشداده للأرض و تحليقها بالسماء.
– سجنه مع حزنه وحريتها.
وفي المقابل هو وفيّ لحبها الكبير وفاء أبديا مُقْسِما على ذلك ليجعل الله والرسل والصحف شاهدين على وفائه لحبّها الكبير.
ولعلها تبادله الوفاء بعودتها الدورية الى نفس العش(بين أحضانه) وهي ترفل “في الصبابة والشهد واللهف” .
وهذا الوفاء لنفس المكان والصبابة التي ترفل فيها سيُطفِئان عطش الحبيب السقاء ويجعلانه يرتوي بالماء الذي يحمله في القِرَب.
ولعل هذا ما جعله يصنع من حبه أسطورة ..إنها “أسطورة الحب والوجع والوفاء”.
وفي هذا الاطار ما رأي المشاكس عمر دغرير؟
2 – المشاكس عمر دغرير بين الحب والوجع والوفاء:
أ – العنوان :
أسند المشاكس عنوانا لقصيدته “ستظل تعيش بلا هدف” وهو يهمّش فيه تجربة المبدع الأسطورية مع حبيبته السنونوة.
ب – التحليل للقصيدة:
لقد لعب المشاكس على المكان فجعله مدنيًّا (وسط الطريق) ليجعل المبدع يلعب دورا كشرطي مرور ليستوقف سعدى التي لم تقف له.
ودور الشرطي مشحون بشيء من الغلظة ما قد يجعل المبدع صلبا
ومن هنا هل يتناغم المشاكس مع المبدع في ثنائية الحب والوجع فيقول:
كما شرطي مرور
كنت اعترضتها وسط الطريق
وأمرتها بالوقوف, غير أنها لم تقف
وكنت اندفعت خلفها سكرانا
تلاحق عطرها طول الوقت
وتهذي باسمها بصوتك المقرف
لئن كان المبدع يشكو بُعْد حبيبته (السنونوة) التي تعيش الترحال وتعود بصفة دورية كل ربيع ففارق بين استقراريته و ترحالها الدوري ومن ثمّ كان وجع الفراق وألم انعدام الوصل الدائم سببا في وجعه.
فان المشاكس قد لعب على المكان الذي جعله ثابتا ولكنه أيضا لعب على شخصية المبدع فجعلها سببا في عدم التواصل بين الحبيبين.
وهذا الوجع جعل المبدع يبوح بحاجته اليها وحبه لها فيقول:
تقول :أيا سعدى أحتاجك جدّا
فلا تتركيني وحيدا
فقد أضيع وأنتهي في المنعطف
أحتاجك جدا كما أحتاج لقطرة ماء
تطفئ عطش الفؤاد
فاقبلي أعذاري وكذا أسفي
وفي هذا السياق قد جعل المشاكس المبدع يعيش ازدواجية المشاعر بين الحب والوجع كما المبدع تماما ولئن اختلفت الاسباب.
لئن كان سبب الوجع موضوعيا لدى المبدع السقاء وهو دورية عودة السنونوة وعدم استقرارها وترحالها الدوري .فان المشاكس قد جعل سبب وجع المبدع ذاتيّا وكامنا فيه بسبب ادمانه على الخمر الذي تشمئز من رائحته سعدى .
وبين السبب الموضوعي والسبب الذاتي بون شاسع :
– السبب الموضوعي قد يجعل الحبيب يلتمس للحبيبة أعذارا ولن يفرّط فيها.
– السبب الذاتي قد ينفّر الحبيبة من حبيبها .
والمشاكس يدعم رأيه قائلا:
وكانت حذرتك مرارا من شرب الخمرة
لأن رائحة الرجل السكير
تشعرها بالاشمئزاز والقرف
ثم يضيف المشاكس سببا آخر يجعل سعدى تنفر من حبيبها المبدع وهو الخيانة فيقول:
وسعدى كما طائر السنونو
تحتاج الى الحرية ومهما ابتعدت
فهي تعود لنفس العش في السقف
وتهوى من يهواها كما هي
وتكره الخيانة والنفاق
وترفض العيش بوجه مختلف
=== يتبع ===
=== يتبع ===
ولئن باح المبدع بقيمة الوفاء الأبدية لحبيبته السنونوة لان ترحالها هو خارج نطاقها وداخل في طبيعتها الحياتية وهي تبادله الوفاء بعودتها الى نفس العش رافلة في الصبابة.
فان المشاكس قد سلب المبدع قيمة الوفاء بسبب ادمانه على السكر والخيانة و لعب على الشخصية ليحوّل قيمة الوفاء ويصف بها سعدى الوفية لعش الزوجية وفاء السنونوة الى عشها عند عودتها الدورية في الربيع بحثا عن الدفء العاطفي.
وفي هذا الاطار يضرب المشاكس مثل انسجام الذكر والأنثى من الخطاطيف
كناية عن المبدع وسعدى وهو انسجام عاطفي تفرح له سعدى وتتمناه
بيد ان المشاكس لا يخفي عنّا نبرته المتهكمة من المبدع والحزينة على سعدى باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على التمني والتمني هو طلب المستحيل
فيقول:
يجيء الربيع
وتعود الخطاطيف الى أعشاشها
فتفرح سعدى وتفتح أبواب كل الغرف
وتفرح أكثر حين ترى الذكر والأنثى
يتراقصان فوق حبل الغسيل
ويملآن البيت بالشوق والشغف
وكم تمنت ان تراك مثل الخطاف
وفيا لبيتك
وشاعرا ينحت أجمل اللحظات بالأحرف
وكأني بالمشاكس يندب حظ سعدى ويرثي لحالها لأنها لم تجد في زوجها المبدع لا حبيبا عاطفيا ولا زوجا وفيّا ولا شاعرا يحرّك مشاعرها ويثيرها بأحرفه.
ولئن ختم المبدع قصيدته بقفلة متفائلة جعلته وفيّا لحبيبته السنونوة الوفية لنفس عشها رغم ترحالها وعدم استقرارها.
فان المشاكس قد ختم قصيدته بقفلة متشائمة بعلاقة المبدع بسعدى حين جعله غير قادر على تحقيق ما تتمناه سعدى في اخراج بيتهما من الظلمات واعادة الدفء لقلبيهما فيقول:
ويخرج البيت من الظلمات
ويُعيد الدفء لقلبين تاها
في الهنا والهناك بلا هدف
وفي هذا السياق هل أن المشاكس يحمّل قلب سعدى كما يحمّل قلب المبدع مسؤولية التيه في الهنا والهناك بلا هدف؟؟؟:
– يحمّل المشاكس سعدى المسؤولية داخل البيت (الهنا) لحبها وصبرها على المبدع دون جدوى ووفائها له دون هدف لأنه لا يعير ذلك أهمية ولا يكترث لها بأفعاله في ادمانه على الخمر والخيانة.
– يحمّل المشاكس المبدع المسؤولية خارج البيت (الهناك) لعدم اكتراثه بسعدى لإدمانه على الخمر والخيانة وهما كبيرتان يعاقبه الله عليهما رغم الاعتذار من سعدى (فاقبلي أعذاري وكذا أسفي) .
وبالتالي فالقفلة تجعل القصيدة تتسم بسمة الدائرية بربط العلاقة بين القفلة والعنوان.
وخلاصة القول فان كلا من القصيدتين محكومة بشعوريْ الحب والوجع بيْد أنهما اختلفتا في قيمة الوفاء:
– لقد كان المبدع حمد حاجي وفيا لحبيبته السنونوة وفاء أبديا ومُقسما على ذلك ليجعل الله والرسل والصحف شاهدين على وفائه الأبدي لحبها لأن حبيبته السنونوة تبادله هذا الوفاء بعودتها الى نفس العش (بين أحضانه) رافلة في الصبابة حتى وان كانت عودتها دورية.
– أما المشاكس عمر دغرير فقد سلب المبدع قيمة الوفاء بسبب إدمانه الخمر والخيانة وجعل قيمة الوفاء سمة من سمات أخلاق سعدى هذه السمة التي لم يكترث بها المبدع ممّا وصَمَ حياته “بلا هدف”.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة حبا ووجعا ووفاء.
بتاريخ 26/ 25 2025