ضريبة الثأر
بقلم:ماهر اللطيف
ككل يوم بعد أداء صلاة العصر طيلة شهر رمضان المبارك، يجلس حفيدي الصغير “عثمان” – الذي لم يتجاوز سنه عقدا من الزمن – أمامي في فناء بيتنا العتيق في انتظار قدوم والده – ابني – ليعود به إلى بيته الذي لا يبعد عنا إلا بعض الأمتار، ويطلب مني أن أروي له حكاية من حكاياتي.
وكان يلح على ذلك يوميا، فيقبلني بحرارة من خدي ويدي ورقبتي وكتفي وغيرها، ويستجديني وهو يقول ” برحمة جدتي “، ثم يضع كرسيه أمامي وينتظرني حتى أبتسم، أفتح ذراعي ليقوم مسرعا فأحضنه وأقبله، ثم يعود أدراجه إلى مقعده متى تتحرك شفتاي وتنطلقان في العرض بتسلسل وترتيب للأحداث والوقائع – بعد تفكير تفتيش في ذاكرتي ونبش في أغوار الماضي البعيد والقريب -.
فأعلمته أني سأقص عليه اليوم حادثة وقعت لي منذ أكثر من نصف قرن، لكنها تعيش في داخلي كأنها حدثت الآن، ولن تنمحي من فكري وقلبي وجسدي مادمت على وجه الأرض (وعثمان يتابعني بشغف وانتباه شديد وهو يبتلع ريقه) لما لها من مخلفات وعوائق وسلبيات نالت مني إلى اليوم وغدا.
فقد كنت شابا في سن المراهقة، لم أبلغ بعد سن العشرين، وكنت أقطن في حي شعبي معروف في المدينة بمروق أهله عن القانون وانتهاجهم القوة والفوضى والعنف وغيرها من الصفات السلبية منهجا للحياة وطريقة للعيش.
وكنت كذلك من هواة أفلام الرعب والعنف مثل بروس لي وفان دام وغيرهما، وكنت دائما ما أقلد حركاتهم و أفعالهم حتى خُيّل لي أني مثلهم في القوة والسرعة ومباغتة “العدو” والنيل منه بسرعة.
و صادف وقتها أن تشاجر أبناء حينا مع أبناء حي مجاور معروف أيضا مثلنا بالعنف والقسوة وغيرها…، فتطورت الأمور إلى أن أضحت “حرب عصابات” بيننا، فكثر العراك وسفكت الدماء مرارا وتكرارا، بل زهقت روح أحد شبان الحي الآخر بعد أن طعنه ابن حينا بسكين في قلبه (وقد تحمس عثمان وبدأ يتفاعل مع سردي ويتململ من هنا وهناك، يتحرك ذات اليمين وذات الشمال، …).
وبعد أيام قليلة من حادثة القتل تلك، كنت في وسط المدينة مع فيلق من أترابي ظهرا نمرح ونلعب، نقلق المارة ونعاكس الفتيات، نستعرض عضلاتنا على الشباب الذين نمر بهم – وكنا نتأسف ونعتذر من كبار السن حين ينهوننا عما نفعل، وننسحب من الموقع دون أن ننبس بكلمة -، فإذا بنا نتقابل مع ثلة من أبناء الحي المقابل وكانوا يحملون في أيديهم عصيا وسيقان كراسي حديدية وبعض الأسلحة البيضاء(فصمتت قليلا لأبتلع ريقي وأمسح العرق الذي شرع في التصبب على جبيني وأطرافي، حين نهض عثمان مسرعا ومسكني من يدي بقوة وهو يطلب مني مواصلة الحكي وعدم التوقف)، فتسمرنا في مكاننا ونال منا الخوف والقلق بما أننا غير مسلحين ولا مهيئين لمثل هذا اللقاء. (وعثمان يقف ويجلس، يتحمس ويخاف، يبتسم ويرتعد…)
فاقتربوا منا وهم يزمجرون، يسبون ويشتمون، يتوعدون ويقسمون أنهم سيثأرون منا ويقتلوننا أجمعين دون رأفة أو رحمة ليفرضوا “العدل فوق الأرض” كما قالوا واعتقدوا.
فما كان من أترابي إلا أن أطلقوا أرجلهم إلى الريح وفروا هاربين بسرعة، ليتركوني وحيدا في ساحة الوغى هذه مع هؤلاء “المحاربين الشرسين”، فحاصرني الجمع وبدؤوا في السخرية مني ومن هذا الموقف السخيف الذي وضعني فيه أصدقائي، ثم شرعوا في السب والشتم وحتى هتك الأعراض.
فعارضني عثمان بحماسته المفرطة وقد استقام واقفا وهو يقوم بحركات رياضتي الكاراتيه حينا والتيكواندو حينا آخر (وهو يمارس هاتين الرياضيين منذ أشهر قليلة في أوقات فراغه) وهو يبتسم ويصيح بأعلى صوته حتى قدم عمه “عبد العزيز” مسرعا مستفسرا عما يحدث – وهو ابني البكر يعيش معي في هذا المنزل صحبة زوجته وأولاده الأربعة، يرعونني ويسهرون على راحتي وغيرها -. فقال بكل ثقة في النفس :
– أكيد أنك ضربتهم ضربا مبرحا يا جدي وطرحتهم أرضا (وقد استعان بحركات قتالية وتجسيد مشاهد تؤيد خطابه)
– (ضاحكا رغم الألم) بكل تأكيد بني، فجدك قوي مثلك.
– (متحمسا ومتشوقا) أرو لي كيف نلت منهم أيها البطل
فابتسمت، مسحت على شعره بلين، وطلبت منه الجلوس والهدوء وعدم إزعاج عمه وأهله كشرط أساسي لأكمل القص، فما كان منه إلا أن طبق الأوامر بسرعة وجلس وهو جِدّ منتبه لقولي.
فقلت له أني طلبت منهم عدم التهور في مرحلة أولى والرجوع إلى الجادة، قبل أن أستنجد بالمارة الذين لم يستطيعوا إنقاذي من براثن هؤلاء الوحوش المسلحين، فاستبسلت حين لم يعد لي من حل، فضربت من ضربني واستعنت بمهاراتي التي ذكرتها لك سلفا، فطرحت أرضا من طرحت ولكمت من لكمت، وركلت من ركلت، وضربت بالرأس رأس أحدهم حتى كاد يغمى عليّ من الألم قبل انفجاره وتهاطل الدماء مدرارا من الرأسين.
ثم صمتت قليلا لأسترجع أنفاسي وعثمان يستجديني ويطلب من أن أكمل الرواية وقد تغير لون وجهه وبدأ في الخوف الجزع – من مشهد الدماء- وهو ويرتعد ويبتلع ريقه، مما جعلني أبتسم ابتسامة عريضة وأطلب منه أن يقترب مني أكثر فأكثر وأحضنه وأنا أواصل السرد.
فأخبرته أني مازلت كذلك أضرب وأُضرَب، أدافع وأهاجم بكل شراسة، حتى ضربني أحدهم بساق كرسي حديدي على ركبتي اليمنى بوحشية مما جعلني أخرّ أرضا وأنا أصيح ألما، قبل أن يواصل ضربي بقسوة وعنف على ركبتي و أجزاء من جسدي إلى أن لم أعد أجد صوتا لأصيح به وأستغيث.
ومنها ضربني آخر بموسى على مستوى بطني وكاد يصيبني في رقبتي لولا أن منعه أحد المارة من هناك حيث مسكه من يده ودفعه إلى الوراء وهو يحذره من القتل المتعمد (وقد شعرت بدموع عثمان وارتعاش جسده وبكائه).
ثم فقدت وعيي ولم أدر ما الذي حدث بعد ذلك، ولم أستفق إلا في المستشفى وقد بُتِرت رجلاي من الفخذين، وأُجرِيت لي عملية على مستوى البطن وكمدت جروحي وأماكن الإصابات، وبت منذ تلك الواقعة مقعدا كما ترى يا بني.