دروس الحياة
بقلم :ماهر اللطيف
أنهينا أداء صلاة العشاء جماعة في مسجد المدينة الكبير ذات ليلة (ماطلت أتذكرها بتفاصيلها رغم مرور سنوات وسنوات)، وشرعنا في مغادرة المكان حين التقيت بصديق الطفولة مصادفة غاب عني ثلاثة عقود ونيف، فلم نتعرف إلى بعض بسهولة بحكم التغيرات التي اجتاحت مظاهرنا ومناظرنا وأجسادنا وغيرها.
وبعد تذكر الأسماء والأماكن والأزمنة ونحوها من الأحداث المشتركة التي كانت تجمعنا وتذكرنا بغيرنا من رفقائنا وأترابنا في الحياة والمدرسة وملعب المدينة أين كنا نتدرب مع جمعيتنا المحلية حقبة من الزمن، إلى جانب بعض المغامرات المشتركة التي كان معظمها يتعلق بمحاولاتنا التقرب من الجنس الآخر، اتجهنا صوب المقهى العتيق الذي يشهد على بعض أفعالنا وأقوالنا مع بقية “عصابة الطفولة والمراهقة” – كما كنا نطلق على مجموعتنا الضيقة -.
ثم، عدنا إلى الحاضر حيث أعلمني أنه يعيش وحيدا في بيت آيل للسقوط بعد رحيل زوجته عن هذه الدنيا وهجرة ابنه الوحيد إلى الضفة الأخرى من البسيطة حيث العمل والأمل ورفاهة الحياة ورغد العيش – حسب وصف صديقي- ونسيانه له مرة واحدة وعدم الاتصال به منذ أكثر من تسع سنوات كاملة، ومرضه ووهن جسده مما جعله يفقد عمله وبالتالي توازنه واستقراره وارتمائه في أتون الفقر والفاقة والمجاعة ومحاصرة الأمراض له بحكم عدم مقدرته على اقتناء الأدوية وعيادة الأطباء المختصين وغيرهم…
وبقينا نتجاذب أطراف الحديث من هنا وهناك – ولم ننتبه لسرعة حركة عقارب الساعة وتتالي الدقائق والساعات -، حتى أخبرني أنه يجاور ثريا من أثرياء المنطقة كان يعتني به من حين لآخر ويمكنه من حاجياته واحتياجاته قبل أن يموت ويوصي ابنه بحسن معاملته والاعتناء به وكأنه حيا.
إلا أن هذا الولد سرعان ما حاد عن الطريق وبدأ في التناسي والتجاهل والاحتقار، ووصل به الأمر إلى السب والشتم و حتى الركل والضرب وغيرها، مما جعل عبد الهادي صديقي يعتل أكثر فأكثر ويتحاشى ملاقاته و التقاطع معه.
وبعد فترة من الزمن، دق باب بيته بغتة وكان صديقي يتألم ويبكي بحرقة من جرّاءِ الأوجاع التي ألمت به كالعادة، فإذا هو ابن الثرى يحمل كيسا كبيرا رماه في وجه عبد الهادي بشدة وكان عبوس الوجه بعد أن شتمه ونعته بنعوت يرتعد لذكرها جسد أي عاقل، ثم صاح غاضبا “لولا وصية ذلك الرجل المقبور لما تعاملت معك أيها العجوز الركيك. خذ، كل وتلذذ ولا تشكرني، فهذه قمامتنا وفواضلنا أردت اهداكها بدل الحاوية حتى لا أزيد تلويثها….”ثم غادر بسرعة دون أن يلتفت أو يعتذر عما بدر عنه.
فأجهش عبد الهادي بالبكاء بحرقة شديدة وأحس بالذل والمهانة إلى درجة أنه دعا الله أن ينهي حياته لألا ينهيها هو بنفسه ويخسر آخرته كما خسر دنياه وخرج منها خالي الوفاض قسرا.
لكنه في المقابل، فكر مليا وعزم على رد الصاع صاعين واسترداد ولو جزء يسير من كرامته المهدورة، فأخذ الكيس بما فيه وأفرغه في حاوية المنطقة، قبل أن ينظفه بعناية شديدة ويقصد جِنان جار من الجيران – بعد أن استأذن صاحب البيت وأعلمه بكل شيء وخطته – وقطف مجموعة من الزهور والورود الجميلة ذات الروائح الطيبة ووضعها في الكيس، ثم اتجه صوب قصر من أهانه ودق الجرس ولم يرجع حتى قابله وجها لوجه – رغم رفض الخدم في البداية قبل اصراره على ذلك وقبول صاحب المكان لطلب الطارق-، فناوله الكيس وهو مبتسم الوجه ولم ينبس بكلمة، ثم قفل عائدا إلى منزله وقد شعر بالراحة والسكينة.
وماهي إلا دقائق حتى كان الثري أمامه في بيته وهو يتصبب عرقا، محمر الوجه ومتلعثم الكلام، مطأطئ الرأس ونابسا النطق وكأنه يهمس في أذن مخاطبه :
– معذرة والدي. (وهو يقترب رويدا رويدا) أتيتك عابسا، مزمجرا، صائحا، مستهينا بك….، فرجعت لي ضاحكا، هادئا، صامتا، محترما شخصي (مشيرا له بالصمت عندما أراد الكلام). أمطرتك بالأوساخ و الأدران، فأغرقتني بالورود والزهور
– (مقاطعا بكل ثقة في النفس) كل منا عامل الطرف المقابل بما في قلبه، بما شعر به وبما يأمل….
– (مقاطعا وقد انهمرت دموع عينيه مدرارا) كفى أرجوك فقد مزقت أوصالي وخرّبت أجزائي…. (ثم حضنه بقوة وشرع في تقبيله والتوسل إليه حتى يعفو عنه ويسامحه عما بدر منه)
ومن حينها، تغيرت الأمور تغيرا كاملا مع مرور الوقت والأيام ، فأعاد الثرى ترميم بيت عبد الهادي – بعد أن رفض هذا الأخير قبول العيش في منزل جديد آخر أهداه له هذا الثري -، وقام بالاهتمام به اهتماما كاملا على جميع الأصعدة، وها هو يهديه هذا اليوم عمرة في انتظار الترخيص له بالحج في القريب العاجل.