في مثل هذا اليوم30 مارس1814م..
بريطانيا تدخل مع بقية الدول الحليفة إلى باريس بعد هزيمة نابليون بونابرت.
ندلعت حرب التحالف السادس (بالفرنسية: Guerre de la Sixième Coalition)(مارس 1813-مايو 1814)، أو كما تُعرف في ألمانيا باسم حرب التحرير (بالألمانية: Befreiungskriege)، بين تحالف مكون من النمسا وبروسيا وروسيا والمملكة المتحدة والبرتغال والسويد وإسبانيا وعدد من الولايات الألمانية والتي تمكنت أخيرًا من هزيمة فرنسا، ووضعت نابليون في المنفى في جزيرة إلبا. بعد الغزو الفرنسي الكارثي لروسيا في 1812 انضمت القوى القارية إلى روسيا والمملكة المتحدة والبرتغال والثوار في إسبانيا الذين كانوا في حرب ضد فرنسا بالفعل.
شهدت حرب التحالف السادس معارك كبرى في لوتسن وباوتزن ودريسدن. كانت معركة لايبزيغ (والتي تُعرف أيضا باسم معركة الأمم) أكبر معركة في تاريخ أوروبا حتى وقوع الحرب العالمية الأولى. في النهاية أدت نكسات نابليون في روسيا وألمانيا إلى سقوطه. أعاد الحلفاء تنظيم قواتهم، وتمكنوا من دفع نابليون خارج ألمانيا في 1813 ثم غزوا فرنسا في مارس 1814. هزم الحلفاء ما تبقى من الجيش الفرنسي واحتلوا باريس وأجبروا نابليون على التخلي عن العرش والنفي. أحيا الحلفاء الملكية الفرنسية ذات الحكم المطلق إذ سلموا الحكم إلى ولي عرش آل بوربون فيما يعرف باسم استعادة بوربون.
لم تضع الحرب حدًا للحروب النابليونية، إذ هرب نابليون من المنفى وعاد إلى حكم فرنسا مرة أخرى ليُشعل حرب التحالف السابع في 1815 والتي لم تدم سوى مائة يوم.
د كانت معركة 1814 إحدى أكثر معارك نابليون براعة من الناحية الإستراتيجية، لكنها أيضاً كانت واحدة من أكثرها خسائر وأخطاء بسبب ندرة التعزيزات العسكرية. وقد وقع بلوخر بدوره في كثير من الأخطاء، لكنه كاد لا يكون عُرضة للهزيمة أو قلة الموارد بسبب كل هؤلاء الجنرالات المعارضين لنابليون الآن أو بعد ذلك. وكان شفارتسنبرج أكثر حذراً، وكان هذا في جانب منه لطبيعته الخاصة، كما كان في جانب آخر منه لأنه كان يصحب القيصر إسكندر والامبراطور فرانسيس الثاني.
وأدّت بعض الانتصارات المبدئية التي أحرزها نابليون إلى إفراطه في الثقة (ثقة لم تكن في محلّها). لقد أسر رجال بلوخر وهم يتناولون طعامهم أو ينعمون بقسط من الراحة في برين (29 يناير 1814) وكادت قواته تأسر بلوخر نفسه. وتراجعت قوات بلوخر، لكن نابليون كان حكيماً فلم يتعقّبه لأن جيشه (أي جيش نابليون) كان قد خسر 4,000 مقاتل، كما لم يكن أمامه (أي نابليون) إلاّ مجال ضيق للهرب: لقد كان البروس يقتربون منه وسيوفهم مُصْلته، عندما أقدم الجنرال جورجو على إطلاق النار على تابعه الذي تجاوز حده فأرداه قتيلاً. وحزن نابليون بسبب الدمار الذي أحدثته المعركة في المدينة وفي مدرستها الشهيرة التي تلقى فيها تعليمه وتدريبه العسكري، ووعد بإعادتهما (المدينة والمدرسة) إلى ما كانتا عليه بعد طرد الغزاة من فرنسا.
واندفع شفارتسنبرج فلم يكن لديه وقت للتفكير، لدعم بلوخر، فوجد جنود نابليون المنتصرين وهم يكادون يكونون محاصرين بمائة ألف جندي نمساوي وبروسي وروسي في لاروثيير (أول فبراير) فلم يكن لدى نابليون سوى خيار واحد هو أن يحارب، فقاد المعركة بنفسه. وكانت المعركة تكاد تكون متعادلة (لم يحقق أي من الطرفين انتصاراً حاسماً)، لكن تعادل الفريقين المتقاتلين في الخسائر كان كارثة بالنسبة إلى الفرنسيين الذين قادهم الإمبراطور منسحباً إلى تروي Troyes، وقرر بلوخر ألا يتبع شفارتسنبرج في حذره، فانفصل عنه بقواته وقرر مواصلة طريقه إلى باريس عبر المارن بينما يتابع النمساويون طريقهم على طول السين. وكانت قوات الحلفاء واثقة من النصر حتى إنها أجرت الترتيبات لتتلاقى عند القصر الملكي في الأسبوع المقبل.
وبعد أن أتاح نابليون لجيشه الجريح أسبوع راحة أسند جانباً منه إلى قائده فكتور وأودينو لإعاقة تقدم شفارتسنبرج، وتقدم هو نفسه (نابليون) على رأس 60,000 مقاتل عبر مستنقعات سان جون كطريق مختصر إلى شامپوبير . وهناك لحقوا بمؤخرة قوات بلوخر، وقاد مارمون القوات الفرنسية في نصر حاسم (10 فبراير)، واندفعت القوات الفرنسية فالتقت بعد ذلك بيوم بقسم من جيش بلوخر عند مونتميريال، وكان كل من نابليون وبلوخر حاضرين في المعركة، لكن مارمون أثبت مرة أخرى أنه بطل المواجهة، ففي 14 فبراير التحمت القوتان في معركة أكبر في فوشامب ، وقاد نابليون جيشه الذي أصبح الآن أكثر ثقة – إلى النصر. لقد فقد بلوخر في غضون أربعة أيام 30,000 من رجاله. وأرسل نابليون 8,000 أسير ليتم عرضهم في باريس لرفع الروح المعنوية للمواطنين الفرنسيين.
وعلى أية حال فإن شفارتسنبرج كان في هذه الأثناء يلاحق قوات أودينو وفيكتور حتى كاد يصل إلى فونتينبلو. لقد أصبح في إمكان الجيش النمساوي البروسي القيام بهجوم شامل كي يصل مع الإمبراطوريْن إلى باريس في غضون أربعة أيام. وصُدِم نابليون بهذا التعزيز الذي محق كل انتصاراته فترك مارمون لمواجهة بلوخر الذي اعترت قواته الإرهاق (على الأقل)، واندفع جنوباً على رأس 70,000 من قواته والتقى بأحد جيوش الحلفاء في مونترو بقيادة ڤيتگنشتاين وهزمه (18 فبراير) وتمركز في نانجي وأرسل كلاً من فيكتور وأودينو لمهاجمة قوات شفارتسنبرج من الجناحين والمؤخرة. ووجد شفارتسنبرج أن قواته في وضع خطر من ثلاث جهات ففكر هذا القائد النمساوي أن الوقت قد أصبح مناسباً لعرض الهدنة على نابليون، الذي أجاب أنه يستطيع الموافقة على وقف إطلاق النيران في حالة واحدة وهي أن يضمن الحلفاء ما عرضوه في فرانكفورت والقاضي بضمان حقوق فرنسا في حدودها الطبيعية.
وتشاور الحلفاء في هذا العرض الذي يعني انسحابهم إلى ما وراء الراين وأنهوا المفاوضات، ولم يضعوا في اعتبارهم عرض نابليون، وأكدّوا تحالفهم لمدة عشرين عاماً أخرى في شومون في 9 مارس، وتراجع شفارتسنبرج إلى تروي وكان لايزال معه 100,000 مقاتل.
وراح نابليون يلاحقه بحذر على رأس 40,000 مقاتل. وفي هذه الأثناء علم أنّ بلوخر أعاد تكوين قواته وتشكيلها وأنه راح – مرة أخرى – يشق طريقه إلى باريس على رأس 50,000 مقاتل، فترك (أي نابليون) كلاً من أودينو ومكدونالد وإتين – موريس – جيرار – لمناوشة قوات شفارتسنبرج وعاد برجاله من السين إلى المارن، ودمج بين قوات مارمون ومورتييه على أمل الإيقاع بقوات بلوشر (بوخلر) عند نهر آسن حيث لا يمكن للقوات البروسية أن تهرب إلا من فوق جسر سواسون، لكن جيشين آخرين من جيوش الحلفاء(50,000 مقاتل) تحركا من الشمال وانقضا على جسر سواسون، وأرهبا القائد الفرنسي على تسليم الجسر والمدينة، فعبرت قوات بلوخر الجسر وأحرقته (بعد العبور) وانضمت إلى القوات المنقذة (بكسر القاف) فأصبح إجمالي عدد القوات 100,000، وتعقبهم نابليون على رأس 50,000 وقاتلهم بشكل غير حاسم في كرون ولاقى الهزيمة في معركة شرسة استمرت يومين في لون Loan (في 9-10 مارس).
وترك نابليون كلاً من مارمون، ومورتييه لمواجهة بلوشر (بلوخر) وراح مرة أخرى ينتقل من مواجهة عدو إلى مواجهة عدو آخر، وفي أرسى – سير – أوبى (في 20 مارس) بدأ حرباً عنيفة مجنونة بمن بقي معه (20,000) مع جيش شفارتسنبرج (90,000 من الجنود الأقوياء) وبعد يومين من المذابح والحرب البطولية اعترف بالهزيمة وعبر الأوبي لإتاحة مكان ملائم لجيشه المستنزف كي يستريح.
لقد أصبح نابليون مرة أخرى على وشك الانتهاء. لقد أصبح حاد المزاج لتوتر أعصابه واعتلال جسده وراح يوبخ ضباطه بشكل غاضب مع أنهم خاطروا بحياتهم من أجله في حرب إثر حرب. لقد حذّروه ذاكرين أنه لن يتلقى تعزيزات عسكرية أخرى من أمة تعبت من العظمة وتلبّستها اللامبالاة. وراحت الحكومة التي تركها وراءه في باريس – حتى أخوه جوزيف – ترسل له مناشدات لإبرام السلام بأي ثمن.
وفي حالة اليأس هذه قرر نابليون أن يخاطر بكل شيء بالقيام بهجوم آخر يتسم باستراتيجية خيالية. سيترك أفضل جنرالاته لإيقاف تقدم قوات الحلفاء على قدر ما يستطيعون، ويتجه هو (أي نابليون) بقوات غير كثيرة العدد إلى ناحية الشرق ويحرر الجنود الفرنسيين المحتجزين في الحصون الألمانية على طول نهر الراين، وبهؤلاء الجنود المتمرسين على القتال بالإضافة لكتيبة (كتيبة نابليون) المزوّدة بالمدافع يقطع خطوط مواصلات العدو ويمنع عنه المؤن، ويهاجم مؤخرة حراساتهم ويجبرهم على عدم متابعة تقدمهم، فيمكن بذلك أن تستعيد باريس روحها المعنوية العالية بفضل شجاعته فتبني دفاعاتها، وتتحدّى غزاتها. وفي لحظة أكثر تعقلاً أرسل نابليون تعليمات إلى جوزيف مُفادها أنه إذا كان التسليم وشيكاً فإن على الحكومة أن تصحب ماري لويز ، وملك روما (ابنه إلى مكان آمن وراء نهر اللوار حيث يمكن تجميع كل القوات الفرنسية المتاحة لخوض معركة أخيرة.
وبينما كان نابليون يقود قواته المندهشة شرقاً، راح الحلفاء يوماً بعد يوم يحطمون مقاومة بقايا الجيش الفرنسي، ويتحركون ليقتربوا أكثر فأكثر من نهاية رحلتهم الطويلة. وبقي فرانسيس الثاني عند ديجون Dijon غير راغب بالمشاركة في إذلال ابنته، وكان فريدريك وليم الثالث معتدلاً كالعادة، إذ شعر أنه ثأر لتحطيم جيشه وتمزيق بلاده وإبعاده منفياً عن عاصمته، أما إسكندر فقد كان فخوراً متوتراً فلم يعد يجد سعادته في المذابح اليومية، ونظر إلى نفسه باعتباره قد أنجز ما وعد به في ڤيلنا من تطهير روسيا ممّن دنّس موسكو وحرر أوروبا من جنون القوة ممثلة في هذا الكورسيكي (نابليون).
وفي 25 مارس قام مارمون ومورتييه بمحاولة يائسة لوقف تقدم الحلفاء عند لافير – شامبنواز على بعد مائة ميل من باريس، فحارب الفرنسيون بشجاعة منقطعة النظير مع أن قواتهم كانت نصف قوات العدو، حتى أن إسكندر نفسه تقدم إلى ساحة المعركة وأمر بإيقاف هذه المذبحة غير المتكافئة وصاح قائلاً: أريد إنقاذ هؤلاء الشجعان “Je veux Sauver ces braves وبعد انتهاء المعركة أعاد المنتصرون إلى الجنرالات المهزومين خيولهم وسيوفهم(29). وانسحب مارمون ومورتييه إلى باريس استعداداً للدفاع عن العاصمة.
ووصل بلوخر وشفارتسنبرج إلى ضواحي باريس في 29 مارس، وأصيب المواطنون الباريسيون بالذعر بسبب أصوات قذائف المدافع، وفرار الفلاحين إلى المدينة، وأصاب الذعر أيضاً 12,000 من أفراد الميليشيا الذين كان معظمهم غير مسلحين سوى بالرماح، وهم مدعوون الآن لمساعدة الجيش الفرنسي المقيم في باريس بشغل حصون العاصمة والتمركز فوق تلالها. وكان جوزيف يتوسل إلى الإمبراطورة الوصية على العرش منذ مدة لمغادرة العاصمة على وفق ماكان نابليون قد وجّه به، وقد امتثلت الإمبراطورة الآن للطلب لكن ليجلون قاوم إلا أن جلبة المعركة التي أصبحت وشيكة، جعلته يذعن.
وفي 30 مارس بدأ الغزاة البالغ عدد جنودهم 70,000 هجومهم الأخير، فراح مارمون ومورتييه على رأس 25,000 مقاتل يبذلان كل ما في وسعهما من جهد للدفاع عن المدينة التي لم يفكر الإمبراطور الفخور (نابليون) أبداً في تحصينها، وانضم إلى القوات المدافعة عدد من المحاربين القدماء وضحايا الحرب وطلبة مدرسة البوليتقنيَّة والعمال وغيرهم من المتطوعين. وراح جوزيف يراقب المقاومة إلى أن أدرك أنه لا جدوى منها وأنها قد تدفع الغزاة إلى دك المدينة (باريس) بالمدافع، وهي مدينة عزيزة على أثريائها وفقرائها على سواء. ورغم أن إسكندر قد يتصرف تصرف المعزّى المواسي المحسن، إلا أن الجنود القوزاق قد يستعصون على السيطرة، ولم يكن بلوخر بالرجل الذي يمنع كتائبه البروسية من الأخذ بثأرها كاملاً. لكل هذا فقد حوّل جوزيف سلطاته إلى المارشالات وغادر المدينة ليلحق بماري لويز والحكومة الفرنسية في بلوا على نهر اللوار. وبعد يوم من المقاومة الدموية وجد مارمون ألا جدوى من استمرارها فوقَّع وثيقة استسلام المدينة في الساعة الثانية من صباح 31 مارس سنة 1814.
في وقت لاحق من هذا الصباح دخل إسكندر وفريدريك وليم الثالث وشفارتسنبرج على رأس 50,000 جندي رسمياً إلى باريس، فحيّاهم الناس بحقد صامت لكن القيصر هدّأ من روعهم بتكرار التحية وإظهار شيء من المودّة(03). وعندما انتهت المراسم بحث عن تاليران في شارع سان فلورنتين. وطلب منه النصيحة لإحداث تغيير منظم في الحكومة الفرنسية. واتفقا على ضرورة انعقاد جلسات السينات مرة أخرى، وأن يضع دستوراً وأن يعيّن حكومة مؤقّتة. واجتمع السينات في أول أبريل ووضع دستوراً يضمن الحريات الأساسية وعيّن حكومة مؤقتة اختار تاليران رئيساً لها، وفي 2 أبريل أعلن السينات عزل نابليون.
لقد كان نابليون في سان ديزييه على بعد 150 ميلاً من باريس عندما وصلته الأخبار (27 مارس) بأن الحلفاء يحاصرون باريس، فانطلق بجيشه في الصباح التالي، وبعد ظهر اليوم نفسه تلقى رسالة عاجلة أكثر أهمية: حضور الإمبراطور أمر ضروري إن كان راغباً في ألا تستسلم عاصمته للعدو. لا يجب تضييع لحظة واحدة. وترك نابليون جيشه عند تروي وامتطى حصانه طوال معظم الأميال المتبقية رغم آلامه، واقترب من باريس (13 مارس) وأرسل كولينكور إلى باريس على أمل أن يحثّ هذا الروسي إسكندر على عقد تسوية.. وواصل الإمبراطور (نابليون) طريقه راكباً حصانه إلى فونتينبلو مخافة أن يُقبض عليه إِنْ – هو – دخل المدينة (باريس)، وفي مساء اليوم نفسه تلقى رسالة من كولينكور: لقد خاب مسعاي(. وفي 2 أبريل علم أنه نُحِّي عن العرش، ففكّر للحظة كم هو شيء يدعو إلى السرور أن يترك العرش. لقد قال: إنني لستُ معلّقاً بالعرش. لقد وُلدت جندياً. إنه يمكنني أن أكون مواطناً دون تذمّر. لكن وصول جيشه الذي كان عدده 50.000 مقاتل لمس الوتر المناسب في طبيعته، فأمر أن ينصب هذا الجيش خيامه على طول إيسون (أحد روافد السين) استعداداً لأوامر أخرى، وقاد مارمون إلى هذا المعسكر ما تبقى من الجنود الذين كانوا يدافعون عن باريس.
وفي 3 أبريل استعرض نابليون الحرس الإمبراطوري في ساحة ميدان فونتينبلو، وقال لهم: لقد عرضت على الإمبراطور إسكندر سلاماً لا يتحقق إلا بتضحيات جسام.. لكنه رفض.. إنني في غضون أيام قليلة سأذهب لأهاجمه في باريس. هل أعوّل عليكم؟ وفي البداية لم يجيبوه لكن عندما سألهم: أأنا على صواب؟ أجابوا: عاش الإمبراطور! هيا إلى باريس. وراح رماة القنابل ينشدون نشيدي الثورة في أيامها الأولى: نشيد الانطلاق، ونشيد المارسيليز.
وكان الجنرالات متشكّكين. لقد وجدهم في اجتماع خاص معارضين لعودة البوربون، لكنهم أيضاً كانوا غير متحمسين لبذل محاولة لإخراج الحلفاء من باريس. وفي 4 أبريل دخل المارشالات (ني وأودينو ومونسي وليفيبفر) غرفة نابليون دون دعوة منه وقالوا له إنه ما دام السينات (مجلس الشيوخ) قد عزله فإنهم لا يستطيعون أن يتبعوه في هجوم على القوات المتحالفة والحكومة المؤقتة، فقال لهم إنه سيقود الجيش بدونهم، فردّ عليه نَيْ بحسم: إن الجيش سيطيع قادته فسألهم نابليون ماذا يريدون منه، فأجاب نَيْ وأودينو: التنازل فكتب نابليون تنازلاً مشروطاً يترك بمقتضاه العرش لأبنه تحت وصاية ماري لويز. وأرسل كولينكور، ومكدونالد ونَيْ إلى باريس لتقديم هذا العرض. وفي الطريق توقفوا عند معسكر إيسون لاستشارة مارمون فراعهم أن وجدوه قد شرع في التفاوض مع شفارتسنبرج حول شروط تسليم المدينة.
وفي تلك الليلة (4-5 أبريل) قاد مارمون رجاله البالغ عددهم 11.000 عبر تخوم المدينة بعد أن قبل تماماً شروط شفارتسنبرج المتساهلة. وفي 5 أبريل أحاط قادة الحلفاء كولينكور علماً بأنهم لن يتعاملوا منذ الآن مع نابليون إلا إذا تنازل عن العرش دون قيد أو شرط وفي هذه الأثناء أرسلوا جنوداً لتطويق فونتينبلو لمنعه من الهرب.
وخفّف إسكندر من وطأة هذه الإجراءات القاسية بأن حمى باريس من السلب والنهب، كما قام بزيارات وديّة لكل من ماري لويز، وجوزفين، وهورتنس. لقد كان الروسي هو الأكثر تحضّراً من بين الفاتحين. لقد حثَّ زملاءه على أن يوقِّعوا معه معاهدة فونتينبلو التي تقدم لنابليون جزيرة في البحر المتوسط كسجن فسيح ينعم فيه بسماء إيطالي مشمس ودخل يأتيه من فرنسا. وفيما يلي النص الأساسي لهذه الاتفاقية:
صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون من ناحية وأصحاب الجلالة إمبراطور النمسا.. وإمبراطور كل روسيا، وملك بروسيا يتعهدون بالأصالة عن أنفسهم وكل حلفائهم..
مادة (1): يتخلَّى صاحب الجلالة الامبراطور نابليون بالأصالة عن نفسه وأخلافه وذريته وكل أفراد أسرته عن كل حقوق السيادة في الإمبراطورية الفرنسية.. وفي كل المناطق الأخرى.
مادة (2): يحتفظ صاحبا الجلالة: الإمبراطور نابليون والإمبراطورة ماري لويز بألقابهما ورتبهما طوال فترة حياتيهما. ويحتفظ أيضاً كل من: أم الأمبراطور وإخوته وأخواته وأبناء إخوته وأبناء أخواته وبنات إخوته وبنات أخواته – أينما حلّوا بألقابهم الملكية.
مادة (3): جزيرة إلبا التي اختارها صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون كمقر ستبقى خلال حياته ولاية منفصلة يتملكها ويكون له فيها حق السيادة الكاملة، وهي ملك له.
وعلاوة على ذلك سيقدّم للإمبراطور نابليون عائد سنوي مقداره 2.000.000 فرنك كمِلْك خالص له من الخزانة الفرنسية يحوّل منها 1.000.000 للامبراطورة. (المفهوم أن الحلفاء سيدفعون هذا المبلغ مع إضافته إلى ديون فرنسا).
ووقع نابليون هذا الاتفاق في 13 أبريل كما وقع تنازله الأول عن العرش ومن ثمّ وقّعه الحلفاء. لقد كان نابليون يتطلع إلى كورسيكا لتكون منفى له لكنه علم أنه لن يُسمح له بذلك لأن كورسيكا حاضنة للثورة (مهيّأة لها)، فكانت إلبا Elba هي اختياره الثاني. ولم يُسمح لماري لويز باصطحابه إلى إلبا، وكانت قد حاولت اللحاق به في فونتينبلو، لكن الحلفاء حالوا بينها وبين رغبتها كما أن نابليون – بدوره – لم يشجّعها على القدوم إليه. وفي 27 أبريل غادرت مع ابنها رامبول قاصدة فينا، وكان هذا على غير رغبتها.
وربما يكون نابليون قد أَثْناها عن القدومِ إليه لاعتزامه الانتحار. لقد لاحظنا فيما سبق أن الدكتور يفا قد أعطاه قنينة سُم عند عودته من روسيا، وفي ليلة 21-31 أبريل ابتلع محتويات القنينة، ويبدو أن السّم كان قد فقد مفعوله فعانى نابليون لكنه شفي واعتراه الخجل كثيراً لهذا، فراح يبرر استمرار وجوده على قيد الحياة بأن اقترح على نفسه كتابه سيرته الذاتية التي تقدم القصة من وجهة نظره والتي تحتفي بأعمال الشجعان الذين قاتلوا معه.
وفي 16 أبريل كتب وداعاً لجوزفين: لا تنسِ هذا الذي لم ينسَكِ ولن ينساكِ أبداً وماتت جوزفين بعد ذلك بشهر (29 مايو)، وفي 19 أبريل ودّع خادمه الخصوصي كونستانت (قسطنطين) وحارسه الشخصي روستا (النص مملوكة Mameluke) وفي 20 مايو ودّع جنود حرسه القديم الذين كانوا قد بقوا معه إلى النهاية:
أيها الجنود وداعاً، فطوال عشرين عاماً كنا فيها معاً كان تصرفكم مثالياً محققاً لكل رغباتي. لقد كنت أجدكم دوماً على طريق العظمة.. فبكم وبالرجال الشجعان الذين لا زالوا مخلصين كان يمكنني أن أقود حرباً أهلية لكن فرنسا ساعتها لن تكون سعيدة. إذن كونوا مخلصين لملككم الجديد، وكونوا مُطيعين لقادتكم الجُدد ولا تتخلوا عن وطنكم المحبوب.
لا تندبوا حظِّي، فسأكون سعيداً إذا علمت أنكم سعداء. ربما مِتُّ.. لكنني إن كنت قد رضيت بالحياة فليس إلاّ لاستجلاء مزيد من عظمتكم. سأكتب عن الأمور العظيمة التي حققناها.
لا أستطيع أن أعانقكم واحداً واحداً، لكنني سأعانق جنرالكم تعالَ يا جنرالي لأضمك إلى قلبي. أحضر لي العُقاب (النسر) لأعانقه أيضاً (النسر هو شعار الحرس). آه يا عقابي (نسري) العزيز، ربما تجد هذه القُبلة التي أقدمها لك – صداها لدى الأجيال القادمة. وداعاً يا أولادي، سيتمنى لكم قلبي دوماً أحسن الأماني. لا تنسوني!(83).
واختار أربعمائة من الحرس ليصحبوه إلى جزيرة إلبا. ودخل العربة مع الجنرال برتران الذي سيظل معه إلى النهاية وصحبه أربعة من ضباط الحلفاء للتأكد من غرضه – روسي وبروسي ونمساوي وإنجليزي، كما صحبته حامية فرنسية صغيرة لحمايته. لقد كان في حاجة إلى حماية في أثناء مروره في بروفنس حيث كان السكان كاثوليكا متعصبين كما كانوا موالين للملكية على نحوٍ ما فراحوا يوجهون له الإهانة في أثناء مروره. وفي أورجون بالقرب من آرل رأي تمثاله مشنوقاً، وهدّدته الجماهير، وأمرته أن يقول عاش الملك فامتثل للأمر تماماً كما سبق للثوار أن أجبروا لويس السادس عشر على الهتاف للثورة. وبعد ذلك تنكَّر بارتدائه حلّه رسمية وعباءة قدمهما له الضباط النمساويون والروس. وارتفعت روحه المعنوية في 26 أبريل عندما وجد أخته پولين في انتظاره في لي لوس Le. لقد تركت الريڤيرا الفرنسية وتخلت عن دعوة إلى روما، ومكثت في بيت ريفي صغير وكتبت إلى فيليس باكيوشي إن الإمبراطور سرعان ما سيمر من هنا وأنا راغبة في رؤيته لأعبر له عن عواطفي، فأنا لم أكن أحبه كامبراطور وإنما لأنه أخي ورفضت أن تعانقه وهو متنكر، فأزاح عن نفسه ملابس التنكر وراح ينعم بإخلاصها ووفائها طوال أربع ساعات.
وفي 27 من الشهر نفسه واصل الطريق إلى فريجو وهناك (في 28 أبريل) حيّته السفينة البريطانية (أندونتد – ومعناها الشجاع أو الجسور) بإطلاق إحدى وعشرين طلقة من مدافعها، وأبحر قاصداً إلبا، وحاول طوال الأشهر التسعة التالية أن يتعامل مع هذا السلام الذي اتسمت شروطه بالسذاجة.!!!!!!!!!