كفاءة السؤال الشعري وقيمته المعرفية والجمالية
مراجعة في مقولات الناقد والشاعر الأديب علي الامارة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في كتابه (حين يتكلم التراب) قراءات نقدية ص 117
يقول علي الإمارة في معرض حديثه عن تجربة الشاعر ماجد الشرع في ديوانه (حرائق التكوين)
“اقترن الشعر بالسؤال كواحد من ثيماته الدلالية أو الفكرية او الفلسفية وبالتالي الانزياحية التي تساهم في اشعاعه الفني والتعبيري”
كيف نحلل هذا القول ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال هو أداة الوعي البشري الأولى ومحرك أساسي في تطوره، وهو ما يجعل اقترانه بالشعر، كما يرى علي الإمارة، تجسيدًا لتلك العلاقة الجوهرية بين الفكر واللغة. فالشعر هو فضاء تأملي ينبض بالسؤال، الذي يمنحه بعده الفلسفي والانزياحي، حيث يتحرر من أنماط التفكير التقليدي ليعيد تشكيل المعنى. إن السؤال في الشعر لهو كسر للمألوف، وانتقال من المعرفة الثابتة إلى القلق الفكري، وهو ما يفتح المجال أمام المتلقي ليشارك في عملية إنتاج الدلالة بدلًا من تلقيها بشكل جاهز. بهذا المعنى، فإن كفاءة السؤال تكمن في قدرته على تفكيك المسلمات، وإعادة تشكيل التصورات، بحيث يجعله أداة جوهرية في تطور الوجود البشري، لأنه يحفز التأمل والتجديد والبحث عن الحقيقة. ومن هنا، فإن القيمة الوجودية للسؤال في الشعر ليس فقط في وظيفته المعرفية، بل في كونه مسارًا للتجربة الإنسانية التي تتجدد عبر التساؤل المستمر، حيث لا يكون الجواب غاية نهائية، بل نقطة انطلاق لسؤال جديد، مما يخلق ديناميكية فكرية لا تنضب.
إنه أداة معرفية وجمالية في آنٍ واحد، تمتلك قدرة على إثارة الدهشة، زعزعة اليقين، وتوسيع أفق المعنى. جدواه تكمن في جعله الشعر أكثر انفتاحًا، وأكثر قدرة على مساءلة الوجود، وتحويل اللغة إلى فضاء تأملي وجمالي لا نهائي.
المرجعيات الفلسفية والفكرية التي تدعم هذا القول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتأسس القول بأن “الشعر اقترن بالسؤال” على مرجعيات فلسفية وفكرية متعددة، أبرزها:
– الفلسفة السقراطية والديالكتيك الأفلاطوني: سقراط كان يؤمن بأن السؤال هو مفتاح المعرفة، وهو ما انعكس على الفكر الأفلاطوني الذي رأى في التساؤل جوهر البحث عن الحقيقة. الشعر، في هذا السياق، يمكن أن يُفهم باعتباره محاولة دائمة لاكتشاف جوهر الوجود والأسئلة الكبرى التي تحيط به.
– الفلسفة الوجودية (كيركغارد، هايدغر، وسارتر): يرى الوجوديون أن الإنسان كائن متسائل بطبعه، وأن وعيه بالوجود يتجسد في تساؤله عن معناه ومصيره. الشعر هنا ليس مجرد تعبير عن المشاعر، بل هو شكل من أشكال التأمل الفلسفي في معنى الحياة، الموت، الحرية، والعدم.
– نظرية الانزياح في النقد الأدبي (رومان جاكوبسون، جان كوهن): يرى جاكوبسون أن الشعر يتجاوز الوظيفة الإخبارية للغة نحو البعد الانزياحي، أي أنه ينحرف عن المألوف، وهذا الانزياح قد يكون في شكل استفهامي، إذ إن الأسئلة تخلق تشويشًا دلاليًا يدفع القارئ إلى البحث عن إجابات وتأويلات متعددة.
– الشعر والفكر الصوفي (ابن عربي، الحلاج، النفري): في التصوف، السؤال هو أداة لاكتشاف الذات الإلهية والعلاقة بين الإنسان والمطلق. قصائد المتصوفة مشبعة بالسؤال، لأنها تتعامل مع المعرفة بوصفها تجربة لا تكتمل، بل تتجدد مع كل سؤال جديد.
– الفكر التأويلي (هرمنوطيقا غادامير وريكور): يرى التأويليون أن النص الشعري يفتح إمكانيات لا نهائية للتفسير، وهذا يتناسب مع كونه قائمًا على السؤال الذي يفتح أفق الدلالة ويمنع إغلاق المعنى في تأويل واحد.
مدى دقة هذا القول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول بأن “الشعر اقترن بالسؤال” دقيق إلى حد بعيد، ولكنه ليس قانونًا مطلقًا. فالشعر يمكن أن
يكون أيضًا إجابة، أو حالة وجدانية مغلقة لا تحتمل التساؤل. ومع ذلك، نجد أن معظم التجارب
الشعرية الكبرى، منذ الإلياذة وحتى الشعر الحديث، تتضمن أسئلة كبرى حول الوجود والمصير،
مما يجعل السؤال أحد أهم ثيماته الدلالية.
لكن هناك استثناءات، فالشعر الغنائي التقليدي مثل القصائد الكلاسيكية التي تركز على الغزل أو المديح قد لا تحمل هذا الطابع التساؤلي. غير أن الشعر الحداثي، كما عند إليوت، والسياب، وأدونيس، وحتى محمود درويش، يكاد يكون قائمًا بالكامل على السؤال، سواء كان سؤالًا فلسفيًا أو وجوديًا أو حتى سياسيًا.
وهو نفسه (على الامارة) في ديوانه هواجس أصحاب الحسين أعاد السؤال بشتى الصيغ
القيمة المعرفية للسؤال في الشعر: بين المعرفة والجمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال في الشعر يحمل قيمة مزدوجة، معرفية وجمالية، تختلف شدتها تبعًا لطبيعة النص وتوجهه الفني والفكري. يمكن تحليل هذه القيمة من خلال محورين رئيسيين:
1. البعد المعرفي للسؤال في الشعر
السؤال، بوصفه أداةً للبحث والاستقصاء، يحمل قيمة معرفية واضحة في الشعر. وهذه المعرفة ليست تقريرية أو علمية، بل هي ذات طابع تأملي وإشكالي، حيث يسهم السؤال في:
– كشف الغموض الوجودي: في الشعر الفلسفي والوجودي، يكون السؤال وسيلة لكشف المساحات المجهولة من الذات والعالم، كما في شعر إليوت أو أدونيس.
– إثارة الشك والقلق المعرفي: بدلاً من تقديم إجابات نهائية، يعمل السؤال على زعزعة اليقين وفتح النص على تعددية التأويلات.
– الانفتاح على التجربة الإنسانية: عندما يتساءل الشاعر عن الحب، الزمن، الموت، الحرية، فإنه لا يقدم معرفة مغلقة، بل يوسع أفق التجربة الإنسانية تجاه هذه الموضوعات.
2. البعد الجمالي للسؤال في الشعر
إلى جانب دوره المعرفي، يشكل السؤال عنصرًا جماليًا يمنح النص طاقة تعبيرية وانزياحية، تتجلى في:
– خلق التوتر الفني: السؤال يفتح فضاءً للانتظار والترقب
– تعزيز الإيقاع والتكرار: بعض الأسئلة الشعرية تتكرر بطريقة تمنح النص إيقاعًا موسيقيًا كما في قصائد محمود درويش التي تعتمد على التكرار الاستفهامي.
– إنتاج صور شعرية مكثفة: السؤال في الشعر لا يكون مجرد استفسار بل يتحول إلى استعارة أو كناية تعمّق الدلالة
الجدوى من السؤال الشعري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان الشعر في جوهره بحثًا مستمرًا عن المعنى، فإن السؤال فيه يحقق عدة وظائف جوهرية منها تفعيل القارئ وتأويله والهروب من نهائية ويمنع السؤال الشعر من الوقوع في دوغما نهائية، ويبقيه مفتوحًا للتعدد والتجدد. ومنها تمرده على الأطر التقليدية فالشعر الذي يسأل لا يخضع ليقينيات جاهزة، بل يسعى دائمًا إلى تفكيكها وإعادة تشكيلها ومنها دمج الفلسفي فمن خلال السؤال، يستطيع الشعر أن يكون مجالًا لحوار بين الجماليات والفكر العميق.
حيدر الأديب