المثقف بين النقد والانتقاد: وكينونة الوعي من عدمها..!
مما لا شك فيه أن المثقف هو المرآة العاكسة لحالة المجتمع وضبط آلياته وإلا سيكون كمن ينفخ في العصا ويتخيلها آلة للنفخ الخشبي، والمثقف كما درسوه لنا الا أن أصبحنا واحد منهم هو الذي يحمل على عاتقه مسؤولية تفوق بكثير الأمانة التي حملها الإنسان في وقت أيتها الجبال، أجل هي توجيه الرأي العام أولا وأخيرا، فحين نعجز عن تحقيق هذا المبتغى النبيل، ونعجز عن تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية برؤية نقدية واعية فتلك الطامة الكبرى على اعتبار أن على المثقف القيام بما لا يقدر عليه لا السياسي ولا المتخصص في أجناسية أدبية كما يقول جيرار جينيت في كتابه:
” أشكال” وبالضبط في مقال من كتابه يحمل اسم: les raisons de la critiquepure-أسباب النقد الخالص. إلا أن هذه المكانة تجعله في كثير من الأحيان هدفًا للنقد والانتقاد وقد اسميه : ميتا-نقد métacritique، وهما أمران يجب التطرق اليهما بعمق ويتعلق الأمر كما نعلم سواء من السلطة، أو الجمهور، أو حتى من زملاء له في الفكر والثقافة. فما الذي يجعل إذن وبعيدا عن الحساسيات المجانية المثقف موضعًا لهذا الجدل الدائم سيما في زمن التفاهة الثقافية التي أتت على الاخضر واليابس؟ وما الفرق أيضا بين النقد البناء والانتقاد الهدام حيث بدأ يغيب الأول ليتلي الثاني العرش ويا ليت العرش أسقطه على أم رأسه؟
فالمثقف كما كنت أتصوره وكما أصبح عليه اليوم من كاريكاتير فجة، جعلنا كل هذا نتساءل بدهشة ما بعدها دهشة وبوصفه ناقدًا ومُنتقدًا..!
ولعل ثمة حقيقة لا يمكن التنكر لها أن أول ما يميز المثقف الحقيقي هو قدرته على ممارسة النقد الموضوعي، سواء تجاه المجتمع أو السلطة أو حتى التيارات الفكرية السائدة؛ وهل يا ترى ممكن تحقيق هذا المراد الذي يصطلح عليه بحكمة أنها أعز ما يطلب في زمن كنا ننتظر منه المثالية التي يرنو إليها المثقف؛ ما دامت وظيفته تتجلى فيما يطرح من تساؤلات جوهرية، وقظرته على تفكيك المسلمات، عازما استجابة لضميره عن كيفية البحث عن الحقيقة بمعزل عن المصالح الضيقة – السقطة التي لا يمكن اغفالها ومع ذلك فرضت وجودها-؛ لكن في المقابل، فإنه لا يمكن له أن يسلم من النقد والانتقاد، وهي ظاهرة صحية شريطة أن لا تتحول إلى علة تجعله يكنس ويكنس بمكنسة قديمة، إذ يُنظر إليه اليوم أحيانًا كمزعج أو معارض لمجرد المعارضة، أو حتى متعالٍ على الواقع، وصفات شتى تلصق به لصقا وقد يكون في حل منها إن علا وإن سفل كما يقول الفقهاء. وإذا كان الأمر كذلك، إلا يجوز لنا أن نطرح سؤالا مشيرا مفاده:
لماذا يُنتقد المثقف إذن؟
– في هذا الإطار، يجب التطرق إلى ظاهرة غريبة تتمثل في تصادمه مع السلطة الى درجة تجعله في قبضتها بكل الأشكال الممكنة من الملاحقات والمغريات، ففي العديد من الدول التي لا تتوفر فيها شروط الدموقراطية، وأخص بالضبط خاصة تلك التي تفتقد حرية التعبير، حيث يُنظر إلى المثقف ومن هذه النافذة كناقد مهدد ويجب محاربة او محاولة تطويعه لواقع الحال. والادهى من كل عذا فهو الذي يوعي ويسلط الضوء على مواطن الخلل في أي بلد كان من كان، وهو الذي يدعو إلى التغيير ومناهضة القوى الرجعية التي ترى في مثل هؤلاء التنويريين قبسا من النور، مما يجعلهم عرضة للتهميش أو التشويه والزج بهم في غياهيب السجون.
وعلى هذه الشاكلهة ومن يصب في مصبهم التوعوي التنويري، رب سؤال يجب أن نطرحه بوضوح بل التطرق إليه على المستوى التنويري، وكيف ينظر إليهم من قبل الجماهير الشعبية.
– توقعات الجمهور: وبدون مجازفة قد تذكر ونحن نتطرق “لقدسية” الناقد فلمجتمع ينتظر من المثقف أن يكون صوتًا للحق والعدالة لان بفعل النقد والانتقاد انتعشت الشعوب وآمنت بريادة الناقد سيما وقد اقتيد الى السجون ضدا على أفكاره في دول العالم الذي لم تتشبع الشعوب بفعالية دور المثقف، أما حين لا تتوافق آراؤه مع توجهات معينة وغاليا هذا هو بيت القصيد في مقالنا هذا، فإنه يتعرض لانتقادات حادة، خاصة من التيارات المحافظة أو الشعبوية والسياسية احيانا سيما حين تحولت هذه الاخيرة إلى مجرد فقاقيع صابونية تفتضح امورها في الاستحقاقات بأبعادها الايديولوجية. وغالبا ما يبرر هؤلاء السياسيين الذين يلعبون على أكثر من حبل إرضاء لمن سيتقاسمون معهم كعكعة الانتخابات؛ هنا أيضا تظهر ما عشناه وبعد هذا العمر الطويل من التجارب الانتخابية، إلى أن أصبحنا نتكلم عن الخلافات الفكرية.
– فالخلافات الفكرية: حتى داخل الأوساط الثقافية، هناك تباين في الرؤى والمواقف، مما يجعل المثقف وزملائه عرضة للنقد من زملائهم، سواء لأسباب أيديولوجية أو لاختلافات في المناهج الفكرية. وقد لا يختلف اثنان على النقد من المقومات والآليات التي لا يمكن تصورها في حل مما يجري في الساحات حيث الكلام عن النقد بصفة عامة والنقد بتجلياته التي غالبا ما تعيد لنا التساؤل عن نوعين من النقدين متلازمين ولا يمكن تغيب واحد منهما وإلا سنكون في حل من النقد الموضوعي الذي يجب أن تبنى عليه الدموقراطية بتشكلاتها المختلفة.
فالكلام عن النقد البناء مقابل الانتقاد الهدام يحتم علينا كما سبق أن تبنينا الوسطية؛ وهنا بالضبط علينا من الضروري التمييز بين النقد البناء، الذي يهدف إلى تصويب الأخطاء وتعزيز الفكر ، وجعل الانسان فعلا يستشعر أنه يعيش بالفعل في فضاءات ديموقراطية، وهو أعز ما يطلب في زمننا هذا الذي وأدوا فيه النقد الفعال لغرض في أنفس المرضى؛ والطبع فإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ وبالمقابل نجد الانتقاد الهدام والذي لا يمارسه الا العدو لنفسه والعدو للمجتمع وللعالم الذي حقق ما لم يحققه هو. ومن المضحك الباكي أن الذين يسعون إلى ترسيخ هذه الظاهرة السلبية من الانتقادات غالبا ما تجرهم جرا إلى محاولة التشويه والإقصاء بل المتابعات الفجة الى حدود التصفية الجسدية ولنا في هذا الامر امثلة من المخجل ءكرها ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين. فالنقد الحقيقي والذي يصطلح عليه بالتقد الموضوعي غالبا ما يستند على الحجج والأدلة، بينما الانتقاد السلبي يكون غالبًا شخصيًا أو تحريضيًا. وفي هذا الصدد بالذات،
كيف يجب تعامل المثقف مع النقد؟
– أكيد على المثقف الحقيقي والمثقف الكاريزمي تقبل النقد البناء وهذا اقل ما يمكن الالتفات إليه في مقال يتطلب منا تطويره ربما وصولا الى انجاز كتاب يتعلق بهذا الموضوع، فالمثقف الحقيقي لا يخشى النقد يدبل بالنقد يجب أن يتنفس ما دام شعلة ونبراسا منيرا لبقية المواطنين، بل على المثقف من هذا الحجم أن يرى هذا النوع من النقد فرصة للنمو والتطور الشعوب وله أمثلة كونية تظهر له القضية والنقيض.
وليس غريبا على هذا النوع من المثقفين أن يكون مرجعا يسترد بها الناس لكونه:
– لكونه كما سلف الذكر التمسك بالمبادئ: رغم الضغوط والحصار، عليه أن يبقى المثقف مسؤولًا عن إيصال رسالته بوضوح وأمانة. ورب قائل يقول في هذا الإطار؛ كيف له.
– الابتعاد عن الجدل العقيم وعن الغوغائية التي لا تمت بصلة لما هو علمي أو بالأحرى يقارب العلمي ما دمنا نتكلم عن مجال يتعلق بالعلوم الانسانية، ولهذا يجب محاولته على التركيز على الفكرة بدلاً من الانجرار إلى صراعات شخصية لا ولن تفيده هو ولا الذي يتناقش معه نقاشا غوغائيا لا يليق بمستواه.
خاتمة
ورغم ما حاولنا الوقوف عنده في مقالنا هذا الذي نؤمن على أن علينا تطويره الى كتاب، سيظل المثقف عنصرًا أساسيًا في أي مجتمع يسعى إلى التقدم، ودوره لا يتوقف عند حدود التحليل بل يمتد إلى التأثير والتغيير. وكما سيظل دائمًا في مرمى وهدف النقد والانتقاد، وعلى هذا الأساس، فإن هذا جزء من دوره ورسالة التنوير التي يحملها.
*- د.عبد السلام فزازي جامعة ابن زهر أغادير المغربية