“براعة المزج بين التأريخ ومكونات السرد”
“الخطوط المتوازية.. تقنيّة تشيخوفيّة”
“المسيح الأندلسي”أنموذجاً
__________________________________________
رواية” المسيح الأندلسي ” تقع في ٣٦٠صفحة للروائي السوري “تيسير خلف” صادرة عن منشورات المتوسط…
تتألف من ٦ أجزاء وكل جزء مكون من ٥ أو ٦ فصول معنونة،
★تقوم فكرتها العامة وعقدتها على تأصيل وتأريخ فترة من أحلك الفترات في الحضارة الإسلامية في بلاد الأندلس، ألا وهي فترة مابعد سقوط الدولة الإسلامية، فقد مرت الأحداث على الحالة المزرية للمسلمين مابعد السقوط من حيث تضييق الخناق عليهم، والقتل والتنكيل بهم، ومحاولة طمس هويتهم الدينية والثقافية “ارتداد عن الدين /تحول إلى المسيحية”
★الإعدامات والموت تحت التعذيب، ومحاولات الاحتيال على الحكم هناك بالتظاهر باعتناق المسيحية لإبعاد الشبهات والتدرج في المناصب الدينية المسيحية- تماشياً مع الوضع- حتى الوصول أحياناً إلى الأساقفة والقساوسة والكهان، لدفع الأخطار المحدقة…
★ابتدأ الأستاذ تيسير روايته بمقدمة كتبها عن مصادره وأبحاثه حتى يلم بكافة خيوط حبكته الروائية، فقد فسر فيها الأسماء والأماكن والشخوص والتي بعضها حقيقي مثبت في كتب ومراسلات شتى، وذلك ألزمه البحث بجد وجدية والتنقيب والمقارنة بين المصادر ليقارب الحقيقة أو يكاد، وهذا الاجتهاد الواضح والبحث ماهو إلا دلالة عظيمة على تفوق الموضوع وثراء السرد الذي كان مقنعاً في كافة مفاصل الرواية، من الناحية التوثيقية التأريخية، وكذلك من الناحية الفنية…
★كتب روايته من مدينة اسطنبول التركية، ومعظم عقدة وأحداث الرواية وحلولها جاءت في اسطنبول أيضاً، حيث استأثرت بالأحداث الهامة وبعض حلول التساؤلات الهامة هذا عن الفكرة العامة.
أما فيمايخص الأفكار الثانوية والتي أثّرت وأثرت، مهّدت وأثّثت لكلّ الأحداث بالتعاون مع الشخوص
★الصناعات التي كانت متطورة ثريّة عند المسلمين ، من تطريز وصباغة وحياكة بالإضافة إلى الخطوط العربية المستأصلة والمتنوعة بين بلاد المسلمين ومن ثم الطبابة والتداوي، وهذا خصّ به أهم شخوص الرواية
الشخصية الرئيسية “عيسى بن محمد ” الخط والترجمة والثقاقة العامة الواسعة
فيروزة ووالدتها إيبرو “الصباغة والتطريز والحياكة والمنسوجات…
بالإضافة إلى شقيقها من والدها ووالدها أيضاً
والد البطل “الاهتمام بالطبابة والتداوي والاكتشافات الطبيية بالإضاقة للترجمة وسعة الاطلاع…
★المذاهب الإسلامية والتاريخ والفنون والعمارة وفنون الطبخ ووو “وقد تم إبرازه بجمال أخاذ في كل مفاصل الرواية من حيث “السرد والوصف”
الشغف إلى حب العلم والاطلاع والفخر بكل التراث العربي والإسلامي من خلال الحفاظ على الإرث القديم ومحاولة نقله على الرغم من التشويش المعتمد والسرقة والخطف والقتل والذي كان يمارسه النظام الغبي الكنسي بحق المسلمين آنذاك في تلك الفترة من خلال الطمس المتعمد للحضارة وسرقتها بترجمتها وأخذها عنوةً من أصحابها الحقيقيين “المسلمين” وظهر ذلك في فترة الأسر الطويل الذي وصل إلى درجة الاستعباد “ل عيسى بن محمد في دير لغاية الترجمة وأخذ كل التراث ونقله لهم”
★إبراز حالة الحب العذري الشريف الذي يتماثل ويتطابق مع مُثلنا العربية والإسلامية
“العلاقة الجميلة بين عيسى وفيروزة” والعلاقة التي كانت سابقاً بين والده ووالدته، بينما أظهر الفسوق في مجتمعات الغرب من خلال الدلالة على العلاقات غير الشرعية وتبريرها ومحاولات إظهارها كضرورة وكأمر صحيح كونه معتاد في أروقة القصور وبين الطبقات النبيلة، بالإضافة للإلماح عن حالات الشذوذ الجنسي والتصريح به من خلال “الكاهن لازارو وعيسى”
★القدرية أو مايسمى بالحظ وقد ظهر كنسق أفقي في الرواية ربط خيوطها من خلال عدة عوامل
بدايةً
* “دخول عيسى إلى الإسلام بوصيّة من والدته لخاله”
*التقاء عيسى بوالده غير مرة دون أن يعرفه
* سفر عيسى وفيروزة في البحر، ثم غيابهما معاً وبنفس المدة الزمنية “استعباد” وكلٌ منهما لمهمة، ثم التقاءهما عدّة مرات في الطريق دون أن يعرفا بعضهما وهذه الخيوط التي رُبطت بإحكام “عملت القدرية أو الحظوظ فيها”
العدو لأحدهما وأقصد البطلين عيسى وفيروزة ، هو عدو لكليهما “قاتل والدة عيسى بوشاية هو ذاته قاتل والد فيروزة بوشاية أيضاً…
الشخوص في الرواية
_________________
*عيسى بن محمد/خيسوس “الشخصية الذكورية الأساسية المحركة للأحداث والتي أثثت وكانت الراوي في معظم الأقسام ”
*يقابلها “فيروزة “الشخصية الرئيسية الأنثوية والتي ارتبطت بالبطل في كافة المفاصل وعن طريق علاقة الحب البريئة بينهما ربطتت خيوط الرواية وحاكتها بمهارة رائعة
*والد ووالدة فيروزة
*والد عيسى”محمد بن أبي العاص” والذي لم ينكشف إلا في الختام وبحبكة رائعة أظهرته أحياناً عدو إلى أن تكشف بمهنية روائية مشوقة
خالة عيسى”إيزابيلا”البارعة في الطبخ الأندلسي، وخاله وزوج خالته وابن خاله…
والكثير من الشخوص التي مرت تباعاً وربطت وساهمت وأثثت
…………………
براعة الحبكة الثنائية والتنقلات الحدثية
_______________________________
القصد بالحبكة الثنائية هو التصاعد الحدثي مابين الشخصيتين الرئيسيتين، الشخصيّة الذكورية “عيسى بن محمد /خيسوس” من حيث التصاعد الدرامي بنسقٍ ثابت ركّز على الحوادث التي مرت به، مروراً بمقتل أمه على يد محاكم التفتيش وبوشاية خسيسة من “الشخصية الشريرة الثابتة “خيرونيمو راميريز/سليم أفندي”
ومن ثم الأحداث التي تجاوزها صعوداً وهبوطاً ابتداءً بتلقيه حلقات العلم الديني الاسلامي على يد جماعته ومن ثم التناحر بين جماعتين لهما أهداف مختلفة ومن ثم خطفه واستعباده في ترجمة ونقل “كنوز الكتب العربية الإسلامية في محاولة كبيرة لطمس تلك العلوم وسرقتها وتجييرها للغرب وبسرية كاملة، ولاحقاً النجاة من الأسر والعودة وكل هذه الأحداث تضافرت بشكل فُسّر فيما بعد مع نفس الطريقة الدرامية للشخصية الأنثوية “فيروزة”والتي سافرت ثم اختطفت مع أمها وقتل والدها عن طريق “ذات الشخصية الشريرة لكن باسم آخر”سليم أفندي” “العدو واحد”
الاختطاف والاستعباد جرى مع الشخصية الأنثوية في نفس الفترة وهذا التضافر البنيوي الهيكلي أثث بطريقة درامية دراماتيكية تشويقية رائعة لهذه الرواية حيث التقيا في بعض الأمكنة وفي مفاصل الرواية …
وجدت أن الروائي المثقف الذكي أحسن توظيف ثقافته في التضفير ووصف الأمكنة والاستفادة من ذلك في تلميع الفكرة وإضافة الرتوش كالجواهر في العقد “من ذكر أطايب الطعام العربي الأندلسي وبالوصفات والأسماء والمقادير”وذكر الخطوط العربية وفنون التطريز والحياكة ومهارة الثقافة والفنون الإسلامية في تلك الحقبة ”
ثم ذكر حوادث عرضية لكنها كانت ذات قيمة من خلال وصف جشع وطمع الغربي ومحاولة الاستغلال والاسترقاق حتى النهاية”من الملكة في حادثة اختطاف فيروزة/ومن الشخصية التي خطفت عيسى وجعلته يصل الليل بالنهار في الترجمة واللقراءة وبدون رحمة”، ذكر الجندرية هنا “ظهر من خلال حب الشخصية التي رافقت البطل خلال أسره وتعلقت به حتى ظهر ذلك جليا وأدى إلى انتحارها بعد ذلك “حب رجل لرجل/المثلية والشذوذ” ومن ثم تم الاستفادة من اسمها في رحلة الثأر الأخيرة
…
الخط المتوازن المتوازي “البطيء تقنياً “والمؤثث بطريقة تراكمية ظاهرياً جعلت الفصل الختامي وبكل أجزائه يكشف رويداً رويداً كل المفاصل الروائية في جسد الرواية الجميل والذي كان يتشارك مع فيروزة في نقابها كما في البداية ومن ثم كشف بالتدريج عن كل مجهول وفسر كل معلومة،
هذه التقنية المتعبة للكاتب والمشوقة للقارئ تبرهن عن جدارة وكياسة هذا النمط بالإضافة لمهارة واتزان وثقافة الروائي والذي لاحظنا منذ الصفحات الأولى أهمية كل معلومة كتبت فتتبعنا بنهم وانتظرنا التفسير وسعدنا بالنهاية
دلالة البرج وأهمية الربط بين الأديان والذي ذكر على لسان شخصية الأب المحب الطبيب المثقف والذي كانت شخصيته ثابتة ومتكاملة ومحبة “وجد ابنه وأورثه المحبة والتسامح والاعتدال دون تطرف أو تبعية، أعطاه ثقاقته وعصارة تجاربه برمزية البرج والكتب والرسائل”
نهايةً أقول:
★هذه رواية كبيرة، صُرف فيها الكثير من الجهد والوقت، وكتبت بعبقرية وبثنائيات مميزة جعلت من القارئ مشاركاً في فك الرموز، ببساطة جعلته قارئ بمشاعره كلها “الغضب والترقب والتفكير والبحث وذرف الدموع والتأسي والتأثر ومن ثم الرّاحة في النهاية ”
تهانينا للكاتب الجميل، عمل متقن يستحقّ التنافس ويستحق الفوز أيضاً، سعدت بالقراءة
تمنياتي بالتوفيق
ريم محمد
سورية