#قراءة_رواية
قراءة في #رواية_دانشمند
للكاتب الأستاذ : أحمد فال الدين
من موريتانيا
وهي من ستمائة صفحة
القراءة:
________
وقد تقف جملةٌ بين ناظريك ووعيك فتقطع الطريق عليهما !
ما أنت فاعل بين كاتب حصيف وعالم زاهد يسأل:
منَ الميت!
القاتل أم المقتول؟
أليس أن تنفع بلادك بعلمك أفضل من أن تمنعه عن الحكام والناس بالزهد!
لعنة الدول جواسيسها يلبسون ثياب أبنائها يأكلون من طعامها و كالسوس ينخرون عظامها إلى أن تتآكل وتنهار.
للنصوص الباذخة رهبة تلقٍّ غريبة رهيبة
تنقذ قارئها من اللاشيء الذي قد يعتريه
فتجذبه رواية من ستمائة وثلاثين صفحة يصبح أسيرها وأسير أحداث متلاحقة تطفو بين الحقيقة والخيال فلا يستطيع ولا يحاول البحث فيما إذا كان ما يسرق الوعي فانتازيا أم واقع ممكن؛ لعل كليهما معاً يعبُران الآن نقاط التقاء بين ذاك الزمان وأعلامه وعلومه و ما نحن فيه اليوم؛ فأي نقش وأصباغ وألوان أتقن رسمها في رواية كاتبٌ حاذقٌ واسع الفكر من موريتانيا؛ وأي مرآة هي النفس وأي شخصيات حررها من الجمود وبثها الروح والحركة وبالتالي الحياة.. وماذا يفيد أن يكون جزءٌ من وعيك ذاك الماضي البعيد..
جمع الكاتب بلغة عالية وبصيرة متّقدة تاريخ أبي حامد (دانشمند الحكيم العالم) الغزاليّ العابد الزاهد الذي عاش حياته باحثاً كاتباً ثم هارباً من ضجيج التكريم والمكانة والمجد وقد شعر بأن إغراءات الحياة أبعدته عن الله وهو الراغب بالزهد والعلم والدين فمن مرحلة:
# الطفل اليتيم الفقير القلق المتأمل المجتهد في طلب العلم على يد أساتذة أجلاء أهمهم الجويني والصوفي أبي عليٍّ الفارمذي إلى:
# مرحلة المتفوق المتحدّث المتمكّن من علم الكلام وعلم المنطق والفلسفة؛الفقيه المفوّه ..
“يمكن الجمع بين تربية العقل ورعاية حق العلم، والمغبونُ من عجز عن الجمع بينهما؛ والفروض تختلف باختلاف الناس؛ وما كلٌّ معذوراً بالسكوت.”
في هذه المرحلة
عاش الغزاليُّ السّمو والتّرف الفكريّ من خلال مناظرات فقهية أجاب فيها على أسئلة في شتى مجالات الحياة الدينية والدنيوية.. تطورت علاقته مع الأمراء وقادة الجند ونال مكانة مميّزة بين طلابه ومُريديه وحقّق سمعة واسعة في الأرجاء والأمصار. كتب كتباً كثيرة في الفقه وأمور الدين منها المنخول ، البسيط، الوجيز، خاتمة المختصر ونقاوة المعتصر، المنتحل في علم الجدل، مآخذ الخلاف، لباب النظر….وغيرها وغيرها.. خلال هذه المرحلة
# أدرك استغراقَه بمباهج الحياة وأحس ببعده عن الله؛ فراح يبحث عن ذاته وعلاقتها بخيط الحياة الرفيع دل على ذلك التقلبات في الفكر والمعتقد في شك وإضطراب نظرته إلى نفسه و إلى الآخر :من أنت! من هو الآخر !
أية شياطين تتغلغل قرب الشواطئ خِفية بحجة أنها ترشد الحاكم! لاأحد لايتأثر بإغراء السلطة والجاه..
” كل كتاباتي كانت للفوز على الأقران وطلب المكانة بين الناس” غادر مكان إقامته في بغداد زاهداً متقشفاً في الطعام واللباس قاصداً دمشق حيث لا يعرف أحداً، لكن سمعته سبقته فلم يتمكن من العيش متخفياً كما يريد ؛ غادر إلى القدس في رحلة إهانة النفس من جديد بأعمال حقيرة وضيعة..هناك عرفته الشيخة الشيرازية المعلمة النابهة الذكية اللبقة وحاورته
× كي نعرف ذاتنا؟ يعرفنا الآخر! لابد أن تمر النفس بظروف الحياة الكثيرة
×يخرج الغزاليّ من حيرته حول نفسه إلى حيرته من نفوس من حوله.
×ما هذه البئر الحالكة النفس
×انما القوة العمل
×هكذا لقاءات الكبار تخاطر ثم كبر وقيمة وفكر لا حدود لاتساعه
واقترحت عليه العودة إلى الكتابة والتأليف ومساعدة الناس في تجاوز ظروفهم السيئة خاصة أن البلاد تتعرض لهجوم محتمل من الصليبيين.
وإلا فما الحاجة إلى علمه إن لم يفد به! تنتقل الرواية إلى
#مرحلة العودة إلى بغدادثم مسقط رأسه والعودة والتعليم والكتابة والحوارات العلمية والاجتماعية
فكتب في تشريح أمراض الأمة، وأخذ دور المثقف المؤثر في الهموم والعلل
أوضح أن سبب الفرقة هم رجال الدين وبالذات علماء الفقه.
استمر العالم
التزام الزهد بعيداً عن المناصب والحكام وإغراء المادة و الحياة الزائفة.
#قُتل مسموماً على يد أحد الجواسيس بناء على طلب الصبّاح وهو من الباطنية القادة.
إذن جمعت رواية دانشمند رحلة الغزالي من الولادة إلى الموت من الجهل إلى العلم مع بحث حثيثٍ عن ذاته القلقة المتوترة التي لم تعرف السكينة ولا الهدوء يوماً في عصر متنوع القوميات والطبقات واللغات متفاوت الوعي تحكمه رعونة القادة ومكائدهم وحبهم للسلطة والجاه ما ساهم في انتشار عيون وجواسيس وخونة مارقين ما أدى إلى تقويض حكمهم وضياع علومهم ومعارفهم ودمار مجتمعاتهم بعد صعود إلى ازدهار وعلم وحضارة…
في
القرن الرابع الهجري حيث العلمُ بطاقةُ عبور إلى الحياة المشتهاة والوعي المشتهى ؛غاصت المجتمعات المحيطة في مستنقع الجهل والفقر والانحطاط الإداري والسياسي
العلم وحده هو ما جعل المرء لا يجوع وهو في الوقت ذاته أبعد ما يكون ” العلم” عن مصدر الكسب والمادة..
هكذا أغنى الكاتب روايته بالخيال والصور والمشاهد حتى وضعنا امام عمل ضخم مشبع بالتفاصيل الدقيقة المتكاملة في الشخصيات والملابس والحركة وربط الحدث والمتغيرات وأسلوب التفكير بذاك الزمن في لغة مستقاة من البيئات المتنوعة التي عاش فيها؛ مماوثّق علاقة النص الروائي في وعي القارئ الناضج والحساس في الحين ذاته..
فكانت الدروب والمدن والأرياف والقادة والسلاطين والجواري والغلمان وروائح العطر والملابس والطعام والعفن…
والخيول والنزاعات واللهفة للمعرفة وتقدير العلم والعلماء
صدق من قال:
الرواية هي كتابة التّاريخ غير الرسمي أو التّاريخ المنسي لأنها تتغلغل في تفاصيل ينساها التّاريخ الذي ينشغل بتدوين الأحداث الكبيرة والأسماء العظيمة، وينسى تداعيات تلك الأحداث على الأرض والبشر الضحايا، الذين يعيشون في الظل بعيدا عن قيادة الحدث، كما أنّها تدون حياة الشخصيات المرمية على هامش الحياة والتاريخ وأعمالها، وما كان لنا أن نعرفهم لولا الرواية .وهذا ما أكده كارلوس فونتيس حين قال “أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله
استطاع خيال الكاتب بناء الحياة الاجتماعية والجغرافية دون أن يغفل عن مفارقة غريبة في تعامل الجميع مع الجواري والعبيد والغلمان بسوء ودونية متناسين قيم العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات التي تنبثق عن فكر الإسلام وثقافته السمحة.
مما وقفت عنده
دور المرأة الهام في بناء الرواية حيث لم تقف عند حدود التاريخ ولا الأماكن فكانت مؤثرةً في الحكم كما كانت فقيهة ومعلمة لأجيال من طالبات العلم وقد قدمها الكاتب كما جميع مفاصل الرواية بلغة ملفتة عالية
فحين وصف تركان خاتون زوجة السلطان قال:
كانت مفطورة على المشاعر الحادة والمشي على النتوءات، والإطلال من الأعالي المخيفة، واللعب بحدّ السكين؛ تتدخل في شؤون السياسة بالفطرة، وتمقت الرتابة والدّعة الخالية من التوتر كأنما خلقت لتقود الجيوش وتقيم الامبراطوريات وتخوض الدّماء في الحروب.
بينما يصف المعلمة الشيرازية وصفاً ظاهرياً عابراً ويبدع في محاورة ذكائها ورفعة أفكارها وعمق معارفها وتوظيف تلك المعارف عملاً يخدم الحياة
كذلك وصف حسّانة
وقال عن أم ابنتيه الجارية :خلوب”تأخذ بلباب العقول”
وهي جملة محتشدة المعاني
جمال وأخلاق وموهبة نادرة في الغناء
والبهلولة في دمشق..
رواية دانشمند محمد ابو حامد الغزالي ستجعلني، أبحث عن سيرة حياة علماء الشرق القديم بدءاً من بلاد السند إلى خراسان إلى بغداد و الشام وصولاً إلى القدس ثم الأندلس وشمال أفريقيا حيث أشرقت حضارة الفكر في جوهر الدين الإسلامي رغم وجود المذاهب والاختلاف بينها ومحاولات جمعها في المساجد والخانقاهات والمدارس العلمية
سيرة حياة وزهد ونسك تستحق المتابعه والقراءة لما تركت من أثر بالغ في القلب والعقل..
شكراً للكاتب الأستاذ: أحمد فال الدين
شكراً جزيلاً.
جدوى عبود
Jadwa S Ab