170 ميغابايت
كانت ليلة مطلية بصمت خادع، والرياح الباردة تهب من وتر الشمال كأنها أوجاع حنين ربابة. تمس كتفيه العاريين، فيقشعر جلده، وتنطلق نبضات كل خلية في جسده كأنها تستجيب لهباتها، وكأن الريح لا تلامس جلده فقط، بل تغوص عميقًا في روحه.
لم يكن يدري لماذا تهاجمه تلك الرعشة كلما وجد نفسه أسير السكينة.
كلما أغمض عينيه بحثًا عن طمأنينة، تراءت له في الأفق. وجهها المضيء، المكلل بهالة نور لا يشبه نور الأرض، كان يملأ فضاء خياله. عيناها تشبهان مرآتين تعكسان عوالم غامضة، وكأن خلفهما سرًا أزليًا لم تُكتب له نهاية. كانت تظهر كحسناء من زمن الأبيض والأسود، تخطف الأنظار كقمر مكتمل.
همس لنفسه:
“من تكون؟ ولماذا أراها في كل مرة يتم بدر في أفق ترقبي؟”
لم يكن يعرف إن كانت ملاكًا، أم ذكرى بعيدة تنتمي لطفولة نسيها، أم ربما شيطان قصيدة، أم وجه ليلة محفوفة بكوابيسها.
في تلك الليلة، عندما استسلم للنوم، وجد نفسه في عالم آخر. لم يكن الحلم عاديًا. الأشياء من حوله كأنها ظلال متحركة، والأفق مليء بالنجوم التي تهتز كنبضات قلب. في وسط هذا المشهد، وقفت هي. لم تكن صورة، بل كيانًا حقيقيًا. مدت يدها نحوه وقالت بصوت مبحوح كوتر يرتجف:
“إنك تبحث عن إجابة وكأنك تسعى خلف ما خبأه سندباد في إحدى الحكايات!”
سألها، بصوت اختنق فيه الحيرة:
“وما جدوى السعي، إن كان علي بابا قد سرق كل ذهب الحكايات؟”
استيقظ فجأة، وقلبه ينبض كأنه على وشك الانفجار. كانت كلماتها محفورة في ذهنه كالنقش على الحجر. لم يفهم معناها، لكنه شعر بجرح قديم ينزف داخله من جديد.
في ركن البيت القديم، تذكر لعبه كتاجر صغير مع أقرانه بنقود من حصى، وتذكر عرس بنت الجيران والزفة الكاذبة. ومع كل خطوة، كانت ذاكرته تتقلب أمامه كطيات كتاب قديم، تنبسط كأفعى موسى، تلتهم سوادها وبياضها.
تساءل في نفسه:
“هل هي الطمأنينة المفرطة التي تعلن الرحيل؟ أم أن الحقيقة التي أسعى إليها ستمنحني الراحة، أم ستفتح أبوابًا من الأسرار التي لن أستطيع إغلاقها؟”
وفي تلك اللحظة، رنت نغمة إشعار:
“انتهت خدمة الإنترنت: 170 ميغابايت.”
مبارك إسماعيل حمد – السودان