عيسي نعيم و مسرحية الحبكة.
عوني سيف ، القاهرة ، ابريل ٢٠٢٥.
أشكر الاستاذ عيسي نعيم ، على دعوته لي ، لحضور مسرحية الحبكة، على مسرح النيل ، الذي نحبه، مسرح المركز الكاثوليكي للسينما.تحت رعاية الأب؛ بطرس دانيال ، الذي يدعم كل ما هو مفيد للمسرح المصري و الساحة الفنية المصرية.
أولاً:
التعريف بالاستاذ عيسي نعيم ، هو مؤلف و مخرج مسرحي، له أعمال مسرحية تصل إلى أكثر من مائة عمل مسرحي ، و له روايتان تم نشرهما من قبل .و هو مؤسس فرقة “حبر سري” المسرحية.
ثانياً:
مسرحية الحبكة تعتبر من المسرح التجريبي الذي ظهر مؤخراً في عالم المسرح، مسرح تتميز رواياته باختلاف واضح عن المسرح التقليدي. فالرواية في المسرح التجريبي تعتمد على شخوص ليسوا من فترة زمنية واحدة. المؤلف يتنقل كما يريد بين الحقب الزمانية لما يخدم افكار النص ، أو ما يريد أن يقدمه.
فالشخصيات كما قدمها ، الاستاذ عيسى نعيم ، من بينها الفيلسوف اليوناني أرسطو ، و الملكة المصرية حتشبسوت و أسرة مصرية معاصرة.هذا يوضح ميزة هامة في المسرح التجريبي ، و هي أن رواية النص لا تسير بشكل خطّي مثل الروايات التقليدية. بل بها قفزات جانبية تخدم الرؤية الشاملة.
تميز نص مسرحية الحبكة بكثير من الاسقاطات من التاريخ أو الأدب ، و من هذه الاسقاطات ، برزت وجهة نظر المؤلف و رأيه فيما يحدث في المجتمع من تغيرات حديثة طرأت عليه، أخلاقية أو اجتماعية.
ثالثاً:
ملاحظاتي عن المسرحية .
* دلالة أسماء الشخصيات:
ـ صابر ، هو رب أسرة مصرية ، الأب الذي يعشق التاريخ ، و هو يعبر عن أصالة المصري. دلالة الإسم ، أن المصري صابر على كل ما تعرض له ، لكنه لا يفقد حبه لبلاده ، و وطنيته لا تنقص أبداً.
ـ تحية، الأم في هذه الاسرة، من خلال إسمها قدّم الاستاذ عيسي نعيم تحية لكل أم مصرية.
– الاولاد ، نجيب ، قاسم، صفية ، نجلا ، في هذه الأسماء خلط المؤلف بين الأصالة و الحداثة باستخدام اسم حديث ، نجلا ، بين أسماء لها دلالات لقامات مصرية كانت و مازالت مؤثرة في المجتمع المصري. وهذه الدلالات توحي لنا بعلو المستوي الثقافي لدي المؤلف.
* ظهر في بداية العرض ، أن أسرة صابر تشاهد فيلم “في بيتنا رجل” عن رواية الأديب المصري إحسان عبد القدوس. ظهرت وطنية صابر في تعليقاته أثناء مشاهدة الفيلم و عدم قبوله لفكرة الخيانة و عبر صابر عن المؤامرة التي تحاك ضد هذا الوطن منذ عصور ماضية و قال في جملة حوارية ” فيه مؤامرة بتحصل من زمان”
يرد ابنه نجيب الذي يستنكر فكرة المؤامرة ” كفاية يا بابا ، طلعتنا معقدين”
هنا يطرح المؤلف ، عيسي نعيم ، فكرة المؤامرة على المتلقي ، و يحث المتلقي على التفكير.
و هذه أيضاً ، خاصية من خصائص المسرح التجريبي ، حيث أن مؤلف النص يحث المتلقي على التفاعل و التفكير في القضايا التي يطرحها النص.
* لفت نظري أيضا ، كمتذوق للأدب ، اسقاطات من روايات نجيب محفوظ أثناء حوار الأسرة ، و هذا يدل على ثقافة المؤلف و أصالته كمثقف مصري .تناص هذه الجمل الحوارية مع عبارات لاديب عالمي ، غني عن التعريف ، استخدمها الاستاذ عيسي في استدعاء مشكلات المجتمع فى ستينات و سبعينات القرن الماضي و مقارنتها بمشكلات معاصرة في مجتمعنا الحالي.
* شخصية عدنان.
عروبة الاسم ربما توحي بمساعدة دولة ما لقوي الشر. تمثل شخصية عدنان دور قوى الشر التي تريد محو ذكريات الوطن المصري و استبدالها بقيم غريبة عن هذا التراث الأصيل.
شخصية عدنان تريد التحكم في شباب الوطن و إفساد القيم لديه.و يريد تشويه التاريخ و سرقة المخطوطات التي يحتفظ بها صابر ( استاذ التاريخ )، يريد محو الأصالة التاريخية و استبدالها بقيم أخلاقية سلبية ، عارضة و طارئة على المجتمع المصري.
* في مشهد قاع الحضارة:
يؤكد الاستاذ عيسي نعيم ، على ما ذكرته في وصف شخصية عدنان و ما يطمح له.
يقول صابر : كله إلا التاريخ. يخاطب عدنان ،
: انا مش فاهم ، انت رجل اعمال ، ولا دكتور تجميل
ولا دجال.
هنا، صابر يقف ضد قوى الشر التي تدّعي الخير لكن لهم اغراض مدسوسة لإفساد المجتمع و شبابه.صابر يريد الحفاظ على المجتمع المصري من خلال الحفاظ على تاريخ الحضارة المصرية و توعية الشباب بما كنا عليه في عصور سابقة. يريد صابر زرع الإنتماء و الهوية اللذان يقودان لنجاح المجتمع.
*الملكة حتشبسوت:
استحضار شخصيتن للملكة حتشبسوت. حتشبسوت المزيفة تريد تشويه الماضي و الحقيقية. لكن حتشبسوت الحقيقية التي وصفتها أحدي بنات صابر بالنعومة و الصلابة هي تمثل طبيعة المرأة المصرية.هنا يعود النص بالتلاقي بالتاريخ مرة أخرى يبرز من خلالها الأستاذ عيسى فكرة معاد تكرارها في النص و هي قيمة الأصالة و العراقة مقابل قيم مستحدثة ظهرت مؤخراً في المجتمع.
*في مشهد آخر ، يلقي المؤلف الضوء على ظواهر سلبية في المجتمع ، باتت واضحة للعيان، من خلال شخصية محيي الدين بتاع الرز و اخصائي تنمية بشرية. محيي الدين شخصية تُظّهر عبثية بعض من يدعون التخصص في مجال التنمية البشرية و يقدمون مشورات للشباب بدون علم و بدون فائدة حقيقية، و ذلك واضح من دلالة الإسم و وصفه “بتاع الرز”
ـ على النقيض ، في نفس المشهد ، شخصية الفيلسوف اليوناني “أرسطو” يظهر كشخصية جانبية لكن مفيدة جداً ، يتكلم عن القيم الإنسانية و الأخلاقية التي يحتاجها أى مجتمع. ظهور شخصية مثل أرسطو ليس غريب كما وضحت سالفاً على المسرح التجريبي. هنا الاستاذ عيسي نعيم يوجه الأنظار للقيم الأخلاقية الإيجابية ، الثابتة، منذ عصر أرسطو حتي الآن ، لكن هذه القيم أصاب بعضها العطب بسبب الميديا الحديثة التي تجرف بعض الشباب إلى طريق اللهو، و أطاحت ببعض الأسر و أدت إلى تفكك ما، حدث في المجتمع.
* شخصية ام عدنان:
هي شخصية سلبية ، تعتبر مصدر غفلة للأسرة المصرية ، كأسرة صابر. و تعتبر أيضاً من قوى تزييف الحقائق. هي أيضا في النص ، شخصية مضافة لشخصية عدنان . هنا يؤكد المؤلف بشكل ضمني على فكرته و هي وجود قوى الشر و يجب أن نعي التعامل معها بشكل جيد و لا نتأثر بما تحدثه من إرباك في حياتنا.
* مشهد الثائر ١٩١٩.
هذا المشهد يعتبر فلاش باك عن فكرة التخوين.احد الشخصيات يتهم شخص وطني بإنه مدعي الوطنية و سوف يتعاون مع الإنجليز. فكرة التخوين موجودة بالفعل و البعض يتهم البعض الآخر ، و هذه الفكرة كانت واضحة في جمل الحوار بالمشهد.
و هنا الاستاذ عيسي يلقي الضوء على المشكلة و يترك الباقي على المتلقي.
*مشهد الحقيقة:
تعود أسرة صابر تجتمع معاً، بعد محاولات تمزيقها من قوى الشر المتمثلة في عدنان و أمه. و هنا يظهر المؤلف رمزية المفتاح الذي يمتلكه صابر ، و كان سبب طمع قوى الشر فيه. هذا المفتاح رمز الأصالة و التاريخ اللذان يحتفظ بهما صابر ، و هناك قوة جعلت الأسرة تعود بعد تمزيقها ، و هذه القوة تتمثل في الحفاظ على المفتاح و عدم التفريط فيه.
ـ ما لفت انتباهي أيضاً ، تناص جملة حوارية على لسان صابر مع جملة قالها السيد المسيح.” لا تبكوا علي ، ابكوا على انفسكم ، و خافوا على انفسكم”
هنا يوضح المؤلف من خلال شخصية صابر خوفه على جيل الشباب بسبب ما يعانيه و ما سوف يعانيه من مشكلات.
* و أخيراً :
من خصائص المسرح التجريبي، و قد ذكرت ذلك في بداية المقال، استحضار شخصيات رمزية. هنا الاستاذ عيسي يستحضر شخصيات مثل الموهبة و العلم و الاختراع . و تشدق المؤلف من خلال شخصيات الموهبة و العلم بفترة الستينات و السبعينات في المجتمع المصري ، هذه الفترة التي أنجبت رموز مازلنا و سنظل نحتفي بها.
و هنا تناص ضمني مع رواية ” ارض النفاق” . يظهر من خلال التناص أن البعض في المجتمع يرفض القيم الايجابية. و أضاف المؤلف أن هناك من يقف بروتينية جامدة ضد اختراعات الشباب أو مصير تفكيرهم الإيجابي و اختراعاتهم.
تقول شخصية الاختراع: انا متهم بفعل فادح في طريق العلم.
و هنا النص يدعو لمساندة شباب المخترعين بشكل ضمني.
* * نهاية القول:
مسرحية الحبكة للمؤلف و المخرج ، عيسي نعيم تمثل المسرح التجريبي و بها اسقاطات عدة تتحدث عن ما نريده من المجتمع أو ما يرنو له الطبقة المثقفة الواعية. تحدث النص عن مشكلات معاصرة ، و عن حلول من وجهة نظر المؤلف ، و هذه الحلول كلها مشروعة و هي الرجوع للقيم الأصيلة و إلى أسس الحضارة المصرية التي كانت و مازالت تعلم العالم.
مسرحية جميلة و ممتازة و نتمني المزيد من النجاح للمؤلف و المخرج ، عيسي نعيم و فرقته المسرحية ، حبر سري.