تذكر وفراق
بقلم: ماهر اللطيف
مسكتُ كفَّي يديها بلين وحنان شديدين، فشبكت أصابع يدي في أصابع يدها تحت وطأة صوت الكمان الذي كان صاحبه يعزف أحلى الألحان وأعذبها من موزارت، إلى بيتهوفهن، فباخ وشوبن وغيرهم، ولجب الأمواج وطبطبتها تزعزع قلوبنا وتطربها وتلهمها المشاعر الجياشة وتحيّر فيها ما نام أو ارتخى من جرّاءِ هذا المشهد الرومانسي المشهود في هذه الليلة الرمضانية المباركة التي تشهدها رمال شاطئ مدينتا الساحلية الجميلة أقمنا حيث- نحن وجل السكان – مائدة إفطار جماعية على نخب الجميع بمن فيهم الفقراء والمساكين واليتامى وغيرهم، فكان المنظر ساحرا لا تجده حتى في الأحلام أو في مدينة أفلاطون الفاضلة.
وكانت النجوم تضيء موائدنا وتضفي عليها مسحة إضافية من الجمال والروعة والإبهار رغم تكاثر أصوات الأطفال من هنا وهناك ونباح بعض الكلاب ومواء قلة من القطط التي حضرت هذا الموكب البهيج، إلى أن خُيّـل لي أني في جنة من جنان الأرض.
فاقتربت منها قليلا وجذبتها نحوي برفق حتى كاد شعرها الأسود الحريري الطويل يغرق في محتويات الصحون وهمست في أذنها بكل رقة وحنان كيلا ينصت إلى همسنا أي كان ممن كانوا بجوارنا – عائلات – يمنة ويسرة وخلفنا وأمامنا، وقلت لها :
– أ تذكرين يا حبيبتي (وقد ركّزت جيدا مع همسي)؟ التاريخ يعيد نفسه حقا.(أصمت قليلا لأستمد أنفاسي وأتنهد بقوة من أعماقي)اييييه….كانت ليلة جميلة ورائعة فعلا. أليس كذلك؟
– (متعجبة ومستغربة، رافعة حاجبيها ومغلقة شفتيها للتعبير عن الدهشة وقد احمر وجهها)ما خطبك يا علي؟ ما الحكاية و ما قصة تلك الليلة؟
– (مقاطعا وقد علا صوتي قليلا، مبتسما وقابضا على كفيها بشدة إلى أن طلبت مني الكف عن ذلك وهي تتألّم) تلك الليلة المشابهة لهذه التي قضيناه سويا منذ خمس سنوات خلت، حين اتخذنا من نفس هذا المكان مجلسا وقمنا بمثل هذه الحركات تقريبا، و قلت لك أول مرة أني أحبك فتغيّرت ملامح وجهك وتلعثمت في الكلام وارتعش جسدك، (وهي تجذب يديها بقوة ويحمرّ وجهها وتتغير ملامح وجهها فجأة) وأني سأتقدم إلى خطبتك بعد العيد، وها نحن والحمد لله متزوجان منذ أكثر من أربع سنوات
فلم تتركني أواصل كلامي، بل وقفت في غفلة مني، اقتربت قليلا وصفعتني على خدي الأيمن صفعة قوية كدت أفقد السمع على إثرها وتركتني وأخلت المكان وهي تزمجر وتصيح وتقول بأعلى صوتها “لن تر وجهي بعد اليوم أيها الخائن، سأعود إلى بيت أبي، سأطلب الطلاق فورا كلفني ذلك ما كلّف….” وغيره من الكلام الذي لم أسمعه بحكم ابتعادها عن المكان وكثرة ضجيج الحضور وتعاليقهم تجاه ما شاهدوه وحضروه من “دراما هيتشكوكية”…
وفجأة، ضربت كيف يدي على جبيني بقوة حتى احمرّ وتسبب في ألمي وأنا أقول بصوت عال “كم أنا أحمق وغبي، سفيه ومتحايل، أناني وكاذب…..يا الله !!!! ما هذا التخلف والغباء”.
فقد تذكرت أني حديث الزواج من منى ولم نتمم الشهر الأول بعد من هذا الارتباط، فنحن لا زلنا في “شهر العسل”، وقد أقسمت لها طيلة أيام الخطوبة أني لم أرتبط بغيرها من قبل رسميا، وأن كل علاقاتي بالجنس الآخر كانت مجرد علاقات عابرة – وهي ليست المرة الأولى التي أكذب عليها في هذا الصدد وقد نبهتني مرارا من تبعات هذا التصرف الأرعن بعد أن رأتني مرة أخاطب غيرها وأبادلها اللمس والهمس وعبارات الود وغيرها، وادعيت أنها قريبتي لتكتشف بعدها أنها كانت صديقتي-.
كما أني أخفيت عنها حكايتي مع “زهرة” التي خطبتها وكدنا نتزوج لولا أن العوائق المادية وكثرة طلباتها وشهواتها وغيرها حالت دون ذلك – أما سبب اخفاء هذا المعطى فيعود إلى أن منى ترفض الارتباط بكل من كانت له علاقات متعددة ومتشعبة بالإناث -، وهي التي قضت معي تلك الليلة التي تذكرتها مع زوجتي منذ حين، فكانت ذكرى الفراق والطلاق رغم جمالية المكان ومن فيه وهذا الجو الرومانسي الفريد من نوعه في أواخر هذا الشهر الكريم…