بين الرماد والهوى هكذا عنونت قراءتي في قصيدة(منظف المداخن)
للشاعر التونسي Hamed Hadji
—————-
تصدير
في عالم الشعر، قد لا تكون المفردة هي كلّ شيء، بل ما يُدار حولها من صمت وإيحاء هو ما يمنح النصّ عمقه الحقيقي… هذا ما تفعله قصيدة (منظف المداخن ) التي تنبثق من عنوان مفارق لتيمتها الظاهرة، فتغدو منذ البدء حقلا مفتوحا على التأويل… هنا، لا يُبنى الحبّ على نغمة التصريح، بل على طبقات من القهر، والانتظار، والكتمان، تجعل من العاشق شبيها بمن يغوص في سخام المداخن لينظّفها، دون أن يرى الضوء خفاش يتنقَل على الظُلم
في رحـــاب القصيدة
1. العنوان المقترح:
(منظف المداخن )العاشق المهمَّش بين الشعر واللوحة –
⸻
2. الملخص:
في هذه القراءة أقف عند قصيدة (منظف المداخن )التي تستبطن تجربة وجدانية تتقاطع مع رمزية طبقية واجتماعية، حيث يظهر العاشق لا بوصفه بطلا رومانسيا، بل كعامل مهمَّش يؤدي فعل الحبّ كما يؤدي عمله: بصمت، واحتراق داخلي، وخجل من التعبير. العنوان المستعار من لوحة للفنان الروسي فيرس زورافليف (1875) يقدّم مدخلا بصريا يؤسس لتناصّ دلالي عميق بين النص الشعري والصورة، ويكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية لهذه التجربة. تسعى هذه القراءة إلى تفكيك العلاقة بين التشكيل الشعري والبصري، وطرح أسئلة حول صورة العاشق في هامش الحب والواقع…
⸻
3. المقدمة:
لطالما كانت العلاقة بين الفنّ والشعر علاقة خصبة، حيث يعيد كلّ منهما تمثيل العالم بلغة مختلفة، لكنّها تتقاطع في المعنى، وفي قصيدة (منظف المداخن ) تبرز هذه العلاقة بشكل خاص، إذ يستعير النص عنوان لوحة للفنان الروسي فيرس زورافليف، ليؤسس منذ عتبته الأولى لصورة مغايرة للعاشق ليس هو المترف والممتلئ بالعاطفة، ولا المتأنّق بالبوح، بل هو شبيه بالعامل المنسيّ في عمق المداخن، يكدح في العتمة ليرتّب نيرانـا لم تشتعل بعد. ..ومن هنا تنبع إشكالية هذه القراءة: كيف يتحوّل العنوان من مرجع بصري/اجتماعي إلى مفتاح تأويلي؟ وكيف تُبنى صورة العاشق المهمّش في النص بوصفه كائنـا على حافة الحب والحرمان؟
⸻
4. عرض وتحليل النص
المحور الأول: بنية الصوت العاشق – من الغنائية إلى الانكسار
يحمل الصوت الشعري في هذه القصيدة طابعا وجدانيا غنائيا في ظاهره، لكنه سرعان مايتحطّم على صخرة الانكسار الداخلي…فالعاشق هنا لا يبوح بثقة، بل يهمس:
(وَأفاتِحُها الحُبّ… أجنحُ للبوح والهمسات وتذبيلةَ الجفن والمُقَلِ…)
إنه لا يصرّح، بل يستأذن الحضور في الهامش، يهمّ بالدخول في المعنى دون أن يكلّف نفسه طرق الباب بقوة… وتزداد هذه الهشاشة حين يقرن صوته بصوت الزهر وهو يستجدي النوء، أو الصبّ حين يتوق إلى الغزل ،هكذا يتخذ الصوت العاشق شكل الاحتياج لا الامتلاك، والرغبة لا الوصال ؟ولعل بالنسبة له الاتصال في الانفصال…
وفي مقطع دالّ آخر:
(ولو أنّ لي نفسًا، لاستعرتُ مزامير داوود…)
يتحوّل التمني إلى اعتراف بعدم القدرة والعجز ،فالشاعر يدرك أنّ حبه أعمق من صوته، وأوسع من إمكاناته، وهو ما يعمّق الانكسار في الذات الناطقة، ويجعل من الغنائية مجرد غطاء هشّ على جمر داخلي حارق،
وبهذا نلاحظ أن الصوت الشعري لا يُبنى على يقين، بل على سؤال معلق
هل ستصل الرسالة؟ هل سيسمعها أحد؟
وهو ما يقود إلى المحور الثاني
⸻
المحور الثاني: العنوان كعتبة دلالية وتناص بصري
العنوان (منظف المداخنة)يُعدّ عَتبة دلالية غنية تفتح أمام القارئ العديد من الاحتمالات التأويلية — هو لا يتوقف عند كونه مجرد وصف لحرفة أو مهنة، بل يحيل إلى رمزية اجتماعية وثقافية تتقاطع مع صورة العاشق في القصيدة… فـالصبي في لوحة فيرس زورافليف يعمل في المداخن، حيث الظلام والضيق، تماما كما يعمل الشاعر العاشق في خياله وفي قلبه يكدح بصمت، يحاول الوصول إلى حبه ولكنه أسير عالم لا يسمح له بالتعبير الحرّ عن مشاعره..
العنوان هنا يتحول من مرجع حرفي إلى محمل سيميائي يشير إلى أكثر من مجرد حرفة مهنية فـ {منظف المداخن }يصبح رمزا للذات المنكسرة، التي تسعى لتنظيف الرماد في قلبها، آملة أن تجد بصيصا من النور أو بقعة ضوء في مكان معتم•••وهنا يمكن أن نرى التوازي بين الصبي العامل والعاشق المهمّش —كلاهما يتحرك في فضاء موصد، وكلاهما يسعى إلى المستحيل بعيد المنال…
ومع هذا التناص بين القصيدة واللوحة، يأتي العنوان ليكشف لنا الشرخ الطبقي الذي يعاني منه العاشق، ويُظهر التفاوت بين حالته النفسية والحالة الاجتماعية التي تَحكمه، في هذا السياق، يبرز التشبيه الرمزي، فالعاشق لا يعبر عن شغفه بوضوح وعلنا بل يشبه الصبي في اللوحة الذي يعمل في الظلام، في انتظار
رقعة النور في نهاية يومه الشّاق المتعب…
⸻
المحور الثالث: التهميش النفسي والاجتماعي – صراع العاشق مع واقعه
في قصيدة (منظف المداخن)تتضح العلاقة المعقدة بين الحب والفقر، بين الرغبة والعجز—فالعاشق ليس فقط مهمشا اجتماعيا في ذاته، بل في علاقته بالحب أيضـا حيث يُعبّر عن هذا بوضوح في قوله:
{وما أبلد العاذلين
وما أروع الحب عند اللقاء
وما أقبح الجوع والفقر والبؤس بالرّجُلِ}
هذه الأسطر تكشف عن التوتر بين الرغبة والواقع، وتبين أن العاشق يتخبط بين محدودية إمكانياته العاطفية وحاجاته الإنسانية•••في حين أن مشاعره تطلب التحرر والبوح، فإن واقعه المادي يفرض عليه الصمت ويجعله مكبلا عائدا دائما إلى العجز أمام الزمان والمكان ،الفقر هنا لا يقتصر على المال فقط، بل يمتد ليشمل الفقر العاطفي، مما يُضاعف من أزمة الشخصية الشعرية…
العاشق، الذي يسعى إلى لفت انتباه المحبوبة، يواجه صمتا داخليا وواقعا اجتماعيا مقيدا، مما يجعل من هذه العلاقة معادلة غير متوازنة، مختلةلذا سيظل الحلم دائما غير قابل للتحقيق ،وفي عداد المستحيل…
⸻
المحور الرابع: مجاز العاشق – بين الأمل واليأس
القصيدة تقدم لنا العاشق ككائن متأرجح بين الأمل واليأس، وبين النشوة والألم. يشير الشاعر إلى هذا التوتر النفسي بتوظيفه المجاز بشكل مميز نجد صورا مثل:
{ولو أن لي نفسا، لاستعرتُ
مزاميرَ داوودَ…/
بعض نَواغِمِ مَطْرَبِهِ الجَزِلِ..}
هنا، يعبّر الشاعر عن رغبة عميقة في الانفجار، في أن يُعبّر عن مشاعره بأعلى صوت، لكنه لا يملك الوسيلة. اختياره لمزامير داوود يعكس رغبة روحية عارمة في التواصل، في إسماع صوته كما كان يسمع أنبياء العهد القديم، إلا أن هذه الرغبة تصطدم بالواقع الذي يفرض عليها الكبت و التراجع…إن استخدام مزامير داوود لا يعدو كونه مجازا للهروب إلى (مثالية)التعبير، والتمني لامتلاك صوت قوي يحطّم صمت العاشق المكسور…
وإذا أضفنا إلى هذا أن القصيدة مليئة بالصور المجازية الأخرى مثل:
{وما أبلد العاذلين
وما أروع الحب عند اللقاء
وما أقبح الجوع والفقر والبؤس بالرّجُلِ}
نلاحظ كيف يُستخدم الجوع والفقر كصور تمثل التحجيم والإعاقة…إن الفقر هنا ليس مجرد نقص مادي، بل هو فقر روحي وعاطفي أيضا ،و هذا التداخل بين الألم العاطفي والواقع الاجتماعي يضفي على القصيدة حالة من التمزق الداخلي، ما بين الرغبة في التعبير والاحتياج للتواصل مع الآخر، وبين الظروف التي تحدّ من هذا التفاعل
⸻
5. الخاتمة: بين الرماد والنور – شعرية الهامش وإمكانات التأويل
تستعرض هذه القصيدة تجربة العاشق المهمش الذي يغامر في عالم يرفض سماعه، وهو يطلب التواصل بأضعف أدواته: المجاز، الهمس، والأنين. العنوان (منظف المداخن )يقدم أبعادا رمزية تجعل من العاشق أكثر من مجرد كائنٍ عاطفي، بل رمزا للإنسان العادي الذي لا يتعدى دوره في الحياة إلا العمل في الظلام، في انتظار أن يبلغ الـنـور المنشود…
وفي هذا السياق، لم يعد الحب هو ذلك الشعور الرفيع المستمد من النقاء، بل أصبح سعيا أعمق ، وهو محاولة لإضاءة ما كان خافتـا كامنا في أرجاء النفس البشرية…
الشاعر من خلال قصيدته لا يتحدث عن مجرد حب بين شخصين، بل يطرح قضية إنسانية واسعة حول الكفاح الداخلي الذي يواجهه الفرد في محاولاته التعبيرية أمام بيئة قاسية وظروف اجتماعية تحدّ من إبداعه، حتى في أبسط تعبيرات العاطفة والفجوة بين العنوان وفلسفة القصيدة هنا تصبح أكثر وضوحا—العنوان يُظهر العاشق في إطار عمل فني حرفي، لكنه في الحقيقة عاطفي، لا يملك سوى الرماد ليحوله إلى نور…
⸻
نص القصيدة
منظف المداخن
وحتام أَفْجَؤُها..
وأفاتِحُها الحُبّ..
أجنحُ للبوح والهمسات وتذبيلةَ الجفن والمُقَلِ..
أمرّرُ صوتي شجيا بمسمعها،
حاجة الزهر للنوء…
أو حاجة الصبّ للغَزَلِ..
ولو أن لي نَفَسًا، لاستعرتُ
مزاميرَ داوودَ…
بعض نَواغِمِ مَطْرَبِهِ الجَزِلِ..
لقد ضجّ
من حولنا العاذلون…
فما أتعس الحب من غير همس ولا غزل
أرفرف حولي..
طروبا..
أليست تحوم مزقزقة عند أوكارها الطيرُ تشدو بلا كَلَلِ..
ومنتظرا كالعصافير تأتي..
وأحسبُ قلبي يدقّ بأضلاعها ..
وأظن النسيم على خدّها باقياتٌ من القُبَلِ ..
ولاشيء أهديه غيرُ الكلام..
المجاز..
وماذا أنا قائلٌ والرسالة لم تصل؟
أجيءُ إليها تعرّت ضلوعي
وقد عضني الشوق…
ما أقبح الخطو أمشي إلى باقيات من الطللِ
ولو أنّ مضغةَ قلبِيِ
ترتاح في راحتي وشواطئها
وتنام بكفيّ على الرحب والمَهَلِ
لَأهديتُها نَبْض قلبي وشريانَه ودماءه…
أوْ
لَتَقَاطَعَتِ الشهقاتُ تقاطع خطين بالرّمَلِ..
أحبُّ أواعدها
إنني في الصبابة مثل الغزال
ولكنْ بحضرتها كالجدار أتمتم كالجُعَلِ..
فما أبلد العاذلين
وما أروع الحب عند اللقاء
وما أقبح الجوع والفقر والبؤس بالرّجُلِ..
اللوحة المصاحبة بعنوان “منظف المداخن”، رسمها الفنان الروسي فيرس سيرغييفيتش زورافليف سنة 1875.
حمد حاجي
————-
الهوامش والمراجع
• فيرس زورافليف، “منظف المداخن”، 1875.
• “التحليل السيميائي في الأدب”، مجلة الدراسات الأدبية.
• أبو سعدة، محمد. “الصورة الشعرية: بين المجاز والتعبير”. القاهرة: دار الفنون 2016.
• كولن، ماري. “الفقر والعاطفة: قراءة في الشعر العربي الحديث”. لندن: دار الفكر 2020.
⸻
فائزه بنمسعود
Cuba/6/4/2025