النقد الشكلاني ومنهج تفسير الكتاب المقدس
بقلم الدكتور خالد بلمصابيح
أستاذ المقاربات النقدية المعاصرة
ليس المقصود بالنقد الشكلاني هنا نقد الشكلانيين الروس فحسب ، وإن كان الشكلانيون يشكلون بلا شك أهم روافد هذا النقد ، بل المقصود به مجمل النقد الغربي الذي تشكل منذ بدايات القرن العشرين وإلى حدود يومنا هذا ، والمعروف بالنقد “النصي “، أو ” المحايث ” ، والذي سعى نحو دراسة الأدب من الداخل وليس من خارجه .
لقد كان النقد الأدبي قبل ظهور الشكلانيين الروس ، بداية القرن العشرين ، نقدا خارجيا يعتمد معايير مستمدة من خارج النص الأدبي ، ومعنى بدراسة سيرة المؤلف ، ونفسيته ، ومحيطه الاجتماعي ، وعندما ظهرت الشكلانية ، كان من أهم المبادئ التي قدرتها، هو وضع العمل الأدبي في مركز الاهتمام ، ورفض كل المقاربات الخارجية ، حيث أصبح موضوع ما سمي ” علم الأدب ” ليس هو الأدب ، وإنما ” الأدبية ” ، كما عبر عن ذلك احد أبرز رواد هذه المدرسة رومان جاكبسون ….
ويربط كثير من الباحثين العرب والغربيين ، بين هذا النقد الشكلاني ومنهج تفسير الكتاب المقدس الذي أرسى معالمه #سبينوزا ؛ فقد دعا إلى دراسة الكتاب المقدس دراسة ” علمية ” باعتماد معايير مستمدة من داخل النص نفسه
، معتمدا في ذلك على المبدأ البروستاني المعروف ” الكتاب وحده” ، ورفض اللجوء إلى آراء آباء الكنيسة والتراث المسيحي(١)
وفي هذا السياق ، يؤكد سبينوزا بأن طريقة سابقين في قراءة الكتاب المقدس التي اكتفت بمحاولة التوفيق بين تأملات أفلاطون وأرسطو وبين الكتاب المقدس ، دون الاستناد إلى أي نظرية ، هي التي جعلته يعقد العزم على إعادة فحص الكتاب المقدس من جديد ، بعيدا عن الأحكام الكسبقة ، وبدرية كاملة ،
و وضع ” منهج جديد ” للتفسير، مستمد من نصوص الكتاب المقدس نفسه .
يقول : ” لذلك عقدت العزم على أن أعيد من يد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء ، وبدرية ذهنية كاملة ، وألا اثبت شيئا من تعاليمه أو أقبل ما لم أتمكن من استخلاص بوضوح تام منه . وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة .” (٢) وتتمثل أهمية هذا المنهج عند سبينوزا ، في قدرته على تحرير قارئ الكتاب المقدس من كل أحكام اللاهوتيين المسبقة ، وجعله يميز بين ما هو ” بدعة ” من وضع البشر ، وبين ما هو إلهي (٣)
ويشبه هذا المنهج ، الوحيد والصحيح في نظره ، المنهج المتبع في تفسير الظواهر الطبيعية ، فهو مثله يقوم على الملاحظة ، وجمع المعطيات ، والاستنتاج . وفي هذا يقول : ” ألخص هذا المنهاج فأقول : إنه لا يختلف في شيئ عن المنهج الذي نابعه في تفسير الطبيعة ، بل يتفق معه في جميع جوانبه ، فكما أن منهج تفسير الطبيعة يقوم أساسا قبل كل شيئ على ملاحظة الطبيعة ، وجمع المعطيات اليقينية ، ثم الانتهاء منها إلى تعريفات الأشياء الطبيعية ، فذلك يتحتم علينا في تفسير الكتاب أن نحصل على معرفة تاريخية مضبوطة ، وبعد الحصول عليها أي على معطيات ومبادئ يقيني، يمكننا أن ننتهي من ذلك إلى استنتاج مشروع لفكر مؤلفه الكتاب.” (٤)
ويستخدم هذا المنهج إلى ثلاثة مبادئ أساسية ، هي : لغة أسفار الكتاب المقدس ، وتجميع آيات كل سفر وتصويرها حسب موضوعات أساسية محدودة ، ثم الفحص التاريخي للكتاب . غير أن أهم هذه المبادئ وأولها ، هو محاولة فهم ” طبيعة وخصائص اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس والتي اعتاد مؤلفوها التحدث بها . وبذلك يمكننا فحص كل المعاني التي يمكن أن يفيدها النص حسب الاستعمال الشائع . ولما كان جميع من قام بالتدوين ؛ سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد ، عراقيين، فلا شك أن معرفة اللغة العبرية ضرورية قبل كل شيئ ، لا لكي نفهم أسفار العهد القديم المكتوبة بهذه اللغة فحسب ، بل لكي نفهم أيضا أسفار العهد الجديد . فهذه الأسفار الأخيرة ، مع أنها قد انتشرت بلغات أخرى ، إلا أنها مملوءة بالتعبير العبرية.” (٥)
ويرى البازعي أن هذا المنهج القائم على النقد الداخلي للنصوص قد أثر بشكل كبير في النقد الغربي الحديث لدرجة يصعب معها فهم هذا النقد دون العودة إلى سبينوزا (٦) وتتضح خطورة هذا التأثير أكثر إذا علمنا أن سبينوزا ” يدعم اتجاهين متعاطسين تماما، الأول يدعو إلى عقلانية صارمة وعلميه يقيني في تناول الظواهر ، ومنها الظاهرة الأدبية ، والآخر يدعو إلى موقف شكوكي ونسبي لا يثق بقدرة العقل ولا بمصداقية العلم أو مفهوم الحقيقة نفسه. الاتجاه الأول هو ما نجد في تيارات نقدية حديثة مثل الشكلانية الروسية بأنواعها والبنية والتحليل النفسي الفريدي والماركسية التقليدية وما يتصل بها من واقعية ؛ بينما يتمثل الاتجاه الثاني في تيارات ما بعد البنيوية مثل الذرائعية الحديدة والتاريخانية الجديدة والتفكير التحليل النفسي اللاكاني وما إليها.” (٧)
(١) من أبرز الباحثين الغربيين كريستوفر نوريس ، صاحب كتاب : Spinoza and thé Orrigins of Modern Critical Théorie. Basil Black wel .Oxford, 1991
(٢) رسالة في اللاهوت والسياسة ، سبينوزا ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة والنشر ، بيروت ، ط٤ ،١٩٩٧، ص ١١٧
(٣) المرجع نفسه ،ص٢٤٢
(٤) المرجع نفسه ، ص ٢٤٢
(٥) المرجع نفسه ، ص٢٤٤
(٦) المكون اليهودي في الحضارة الغربية ، سعد البازعي ، م س ، ص١٥٩
(٧) المرجع نفسه، ص ١٦