دراسة نقدية لنصّ : المحاكمة
للأديب : مهاب حسين مصطفى /مصر
بقلم: الكاتبة والناقدة أ/ سميّة الإسماعيل
سورية
Sumaya Al Essmael
البنية السردية والرمزية في قصة المحاكمة: قراءة تأويلية في ثنائية العدالة والفقد
مقدّمة تعريفية بالنصّ
تكشف قصة “المحاكمة “عن بنية سردية محكمة تمزج بين الشكل المسرحي والرمزية المكثفة، وتُعيد طرح أسئلة كبرى حول العدالة والهوية والحق والخذلان. عبر مقاربة تأويلية للمكان والشخصيات واللغة، نجد أن القصة تُدوّن لحظة من وجدان أمة بأسرها، لحظة يختلط فيها صوت المطرقة بصدى الفقد.
الدراسة:
بهدف تحليل البنية السردية والرمزية في قصة “المحاكمة”، واستجلاء تمثلات العدالة بوصفها مفهومًا معلّقًا، مقابل الفقد باعتباره واقعًا راسخًا. تسعى قراءتي إلى تفكيك العناصر السردية والرمزية للكشف عن التوتر بين الحلم الجمعي في “العدالة” وواقع “الفقد” الفردي والوطني.
البنية السردية – التقطيع المشهدي والتوازي المكاني
تعتمد القصة بنية سردية تقوم على التقطيع المشهدي، حيث تُروى القصة من خلال مقاطع متتابعة، كل منها يركّز على مشهد أو زاوية شعورية مختلفة. ويتجلى ذلك في الانتقال السلس بين ثلاثة أماكن محورية:
*المحكمة: فضاء يُفترض أن يكون للعدل والحسم، لكنه هنا مكان للتأجيل والانتظار، أقتبس:
“رفع القاضي المطرقة وأخفضها محدثا جللا… متى ينطق، متى؟”.
*المنزل الآيل للسقوط: يمثّل الوطن بنسيجه المتشقق، المثقل بالإرث، والمهدد بالانهيار، أقتبس:
“أبي يقول: المنزل قديم، لابد من ترميمه… أقول في شرود: البناء الجديد أفضل أم التنكيس؟”.
*المقبرة: موقع الحقيقة العارية، حيث تتجلى الفجيعة والفقد دون مواربة، أقتبس:
“تقول أمي بعينين أذبلتهما الدموع: هل يضيع دم الشهيد؟”.
هذا التوازي المكاني لا يقوم بوظيفة الزمان الخطي، بل يشكل بنية نفسية لطبقات الشعور الجمعي؛ الانتظار (المحكمة)/الاضطراب (المنزل)/ الحزن والتساؤل (المقبرة).
الرمزية – من الشخصيات إلى الأمكنة
بمسح قراءاتي متعمّق للنصّ نلاحظ أنه محمّل برموزٍ كثيفةٍ تؤدي وظيفةً تأويليةً، يمكن إسقاطها على واقعنا المعاش بأبعاده الاجتماعية و السياسية؛ من أبرزها:
*القاضي: رمز للسلطة، وللعدالة الغائبة أو الملتبسة. هو الصوت المنتظر الذي تتعلّق به القلوب قبل الأنظار. لكن…نطقه ليس حكمًا، بل تخلٍ صريح!! أقتبس:
“قالها بلهجة حازمة قاطعة: استمروا.. استمروا. ثم انصرف”.
هذه النهاية المفتوحة تحوّل القاضي إلى رمز للخذلان المؤسسي، تؤثث للفوضى وتعري واقعًا سياسيًا واجتماعيًا.
*الأم: رمزٌ للأمومة الثكلى، رمز للأرض، و للوجدان الجمعي الجريح، الممتد من الفرد إلى الأمة: أقتبس
“تمسك أمي وجهي بكلتا يديها وتتمتم: مازلت أشتم رائحة أنفاسه فيك”.
*المنزل المتصدّع: يمثل الوطن، أو الإرث التاريخي المشوّش، ويفتح سؤالًا جدليًا عن العلاقة بين الهدم والتجديد:
“أبي يقف وسط صالة المنزل… يحيره تضارب رأي المختصين… يخاف من سطوة صاحب البيت ونيته المبيته”.
*الشهيد: أيقونة الفقد النبيل، الضحية التي يبقى دمها يستصرخ، لكنها في هذا العالم المشحون بالفوضى، تطرح الأسئلة ولا تنال جوابًا: أقتبس
“هل يضيع دم الشهيد؟”.
ثنائية العدالة والفقد
يحمل النص في عمقه سؤالًا وجوديًا مزدوجًا: أين العدل؟ ما مصير الدم المراق؟
ويظل هذا السؤال معلقًا كما المطرقة التي لم تُنزل الحكم، بل فقط أحدثت “جَلَلًا”.
في هذا السياق، يصبح الفقد أمرًا ملموسًا (الشهيد، الأم، المقبرة)، بينما العدالة تغيب في البُعد التجريدي، أو تُختزل في انتظار فارغ.
اللغة والأسلوب
يستخدم الكاتب لغة مشبعة بالإيقاع الداخلي والتكرار الدرامي، كما في:
“متى ينطق، متى؟”
“أمي تبكي… أمي تتساءل… أمي تقول”.
هذا التكرار يخلق إيقاعًا شعوريًا موحدًا، ويدفع القارئ إلى الإحساس بثقل اللحظة، وامتداد الانتظار.
النهاية المرتقبة – المفارقة في سقوط المحكمة وصعود الأسئلة
ينتهي النص دون حكم، لكنه يفصح عمّا هو أكثر من الحكم: الإدانة الرمزية للمؤسسة، نأي النفس، شيوع الفوضى وترك الشعب في مواجهة ذاته:
“فيما ترك القاعة في مشاحنات وتبادل اتهامات وعراك لاينتهي”.
نهاية تُنهي المحكمة، وتبدأ بها فصول أزمة أعمق: أزمة مجتمع لا يسمع فيه القاضي، ولا يُنصف فيه الشهيد.
النّص:
#المحاكمة
رفع القاضي المطرقة وأخفضها محدثا جللا..
اشرأبت الأعناق وتطلعت العيون من محاجرها.. تجمدت الطيور في عنان السماء، وتساءل الجميع:
– متى ينطق، متى؟.
****************
الجموع تتوافد على قاعة المحكمة، مابين أشخاص معممين، يرتدون القفاطين والجبب، يرتلون الأدعية والأناشيد.
رهبان مع صلبانهم يترنمون بالأهازيج، وفتية يركضون في خفة ونشاط، يتحدثون في الجوال.
رهط من الناس في حلل سوداء ورباطات عنق أنيقة ونظارات سوداء. ينتحون جانبا من القاعة، يراقبون مايحدث في حذر.
نسوة يتلحفن السواد يتقدمن..
يتوسطن الجمع ويأخذن في النحيب بصوت مسموع..
الأخبار تتوالى والبرقيات تنهال من كل بقاع الأرض..
– متى ينطق.. متى؟.
***************
أمي تبكي أمام صورة أخي الشهيد..
تحتضن ملابسه، تنام على سريره وتستيقظ مذعورة في منتصف الليل، وهي تهتف باسمه.
مازالت أوراقه على المكتب ونظارته الطبية. جهاز “اللاب توب”، قلمه الرصاص، دعاء السفر، حقيبة جلدية نصف مفتوحة.
تمسك أمي وجهي بكلتا يديها وتتمتم:
– مازلت أشتم رائحة أنفاسه فيك. ***************
القاعة مزدحمة.. النسوة الملتحفات بالسواد بدأن في العويل. والأشخاص المعممون يبدلون أدعيتهم بغناء خفيف منغم.
رجال غلاظ أشداء..
بملامح خشنة، وشوارب كثيفة متهدلة، يطوقون القاعة بهراواتهم الخشبية ونصالهم المسنونة، يجوبون بنظراتهم الجامدة أرجاء القاعة.
طفل صغير يسأل أباه وهو يمسك ذيل جلبابه المقلم الواسع:
– متى ينطق يا أبي.. متى؟. ****************
صور الأجداد معلقة على الحائط..
يعفرها التراب الناضح من الشروخ..
أبي يقول:
– المنزل قديم، لابد من ترميمه.
أقول في شرود:
-البناء الجديد أفضل أم التنكيس؟.
يقول مدرسي في الفصل وهو ينهال بعصاته على أحد التلاميذ:
– فات وقت الإصلاح.
وتتساءل أمي في خوف:
– البيت سيقع اليوم أم غدا؟..
سؤال لا أجد له إجابة.
**************
القاعة مزدحمة..
الجو حار لايطاق..
الهمهات تسري بين الجمع، الهتافات تخمد حينا وتشتعل حينا آخر .
أشخاص بسحنات أجنبية وعيون خضراء وزرقاء.. يدخلون القاعة في حذر. يحملون أجهزة تصوير، يمسكون بخرائط ملفوفة بعناية. .ثم يبدأون في فردها..
الكل مشغول يترقب..
يثبتون أعينهم على المنصة العالية الخالية. يقرأون اللافتة المعلقة خلفها .
– العدل أساس الملك.
وينتظرون!.
***************
أبي يقف وسط صالة المنزل..
يرمق الشروخ التي تتسع يوما بعد يوم، يحتار في طريقة الإصلاح وتوقيته . يحيره تضارب رأي المختصين، نصائح الأقارب، مشورة الجيران.
يخاف من سطوة صاحب البيت ونيته المبيته.. يمسح التراب عن صور الأجداد. يقول لي.. وهو يتأهب لصلاة الفجر:
– جدك كان يملك جوادا في عصر صلاح الدين..
وسيفا في عهد طارق ..
وقلبا في عهد..
ترى في أي عهد هذا؟.
أما الآن !!.
**************
الجمع يتزاحمون على مندوبي الصحف والمجلات. ووكالات الأنباء وقنوات التلفاز الموجودين داخل القاعة..
ليجروا الأحاديث والمقابلات.
لغط وصياح وهمهمات وكلمات تتصاعد في نشوة محمومة.. مع فلاشات أضواء الكاميرات .
أحد المراسلين يشيح بيديه متسائلا في عصبية:
– متى سينطق؟.
****************
مقابر العائلة فسيحة .
تقوم علي يمين المدخل دكة أسمنتية، تتسع لجلوسنا جميعا.. أنا وأمي وأبي. تقول أمي بعينين أذبلتهما الدموع:
– هل يضيع دم الشهيد؟.
أقول وأنا أتذكر.. إحدى قصائد صلاح عبد الصبور:
– غدا يروي الأرض الجدباء.. فتثمر نبتا طيبا تشتهيه الأنفس.. يحمل لنا فأل الطالع.
يغمرني المكان بعبقه ونشيحه الأبدي. استشعر أنفاسه.
أقوم أنثر الخوص والزهور على قبره وأوزع “الرحمة” على النسوة والصبية المتزاحمين من حولي.
تؤرقني كلمات أمي.. “هل يضيع دم الشهيد؟”.
تلازمني وساوس لا أفلح في قهرها.
أتذكر لطفه وأدبه ومداعباته، وشجاره أيضا.. أتساءل:
– أترى سنعرف طعم البهجة من بعده؟.
***************
رفع القاضي المطرقة..
خفت الضجيج..
توقفت الحركة تماما داخل القاعة. انطفأت أنوار الكاميرات.
تعلق الجميع بشفتيه..
قالها بلهجة حازمة قاطعة:
– استمروا.. استمروا.
ثم انصرف ..
فيما ترك القاعة في مشاحنات وتبادل اتهامات وعراك لاينتهي.
م. مهاب حسين /مصر.
تحياتي للأديب : مهاب حسين مصطفى