بين ضوء العمر وظلال الذكرى
رومانسية الحنين وبهاء الذاكرة
قراءة نقدية رومانسية حديثة
في قصيدة: “من وحي أغنية:
بالأمس كنت بالعشرين”
للشاعرة المغربية : لطيفة الغراس
الناقد الدكتور عبدالكريم الحلو
بإمكانكم قراءة القصيدة هنا:
https://www.facebook.com/share/p/14DUzuQZhiB/?mibextid=wwXIfr
مقدمة:
* في هذه القصيدة، تمسك الشاعرة لطيفة الغراس بريشة الحنين وتلوّن بها مشهدًا شفيفًا من الذاكرة والأنوثة الناضجة، لتجعل من “العشرين” أيقونة وجدانية لا تُحاكم بالزمن بل تُستعاد بالشعور، وتُستثمر بالحكمة.
1. الغنائية الرومانسية وتوهّج الذاكرة :
* عنوان القصيدة “من وحي أغنية” لا يأتي عبثًا، بل يُحيل القارئ إلى مساحة الغناء الداخلي، إلى الإيقاع الخفي الذي يسري في الذاكرة، فالعشرين هنا ليست رقمًا بل نغمة. تقول:
بالأمس كنتُ بالعشرين
هل ضاع عمري؟
ذاك وجدانٌ أشبه ببارقة
تنير ذاكرة النسيان
* إنها لا تندب العشرين، بل تُعيد تشكيلها كضوء، كـ”بارقة” لا تنطفئ، تُشرق في الذاكرة كلما هدّدها الغياب. وهذا موقف رومانسي محض، يرى في العمر ذكرى مشبعة بالعطر، لا حسرة على ما مضى.
2. المرأة والعمر : مصالحة رومانسية
* في كثير من التجارب الشعرية، يتخذ العمر عند المرأة طابعًا وجوديًا مؤلمًا، لكنه هنا يتحوّل إلى مصالحة رومانسية. فالشاعرة تقول:
لم يضع عمري
فقد نسجته طيلسانا
وبسطته حولي
وكان طريقي في الظلام
الصورة هنا تحمل إشعاعًا داخليًا :
* العمر ليس ماضٍ ضائع، بل نسيجٌ يُدفئ الذات، ومسارٌ يُضيء الحياة. المرأة في النص تتحدث بصوت من “عاش” لا من “ندم”، وتُلبس سنواتها طيلسان العزة والامتلاء.
3. الصورة الشعرية وتأنق العبارة
* لطيفة الغراس تُتقن رسم الصور الشعرية التي تكتنز دفئًا أنثويًا، ولعل من أجملها:
“وبشَعرٍ غير فاحم
كان له لون الشعاع
واليوم بلون الضياء..”
* هذه الصورة تُعيد الاعتبار لشيب الشعر، لا بوصفه ذبولًا، بل تحوّلًا من شعاع إلى ضياء، من ضوء خارجي إلى نور داخلي. إنها صورة رومانسية تُبارك النضج لا تخشاه، وتحتفل بالتحوّلات الجمالية.
4. الحب الحاضر في العطر
* وتبلغ الرومانسية ذروتها
حين تُفصح الشاعرة عن أمنية خجولة:
“لإمرأة في العشرين
عدا واحدة، أن أشتم
عبيرًا من ورودي
وأنتَ من عدَّ ورودي
وجمّلتَ عطرها بالكلمات..”
* إنه الحبيب الشاعر، الذي لم يُعطها وردًا فقط، بل أعطاها شعور الورد، وصاغ لها العطر بالكلمة. الحب هنا لا يُقال مباشرة، بل يُشمّ، يُلمَح، يتسرّب من مسام اللغة. وهذه سمة رفيعة في الرومانسية: أن لا تقول “أحبك”، بل تجعل القارئ يحسّها.
الخاتمة:
* قصيدة “من وحي أغنية” هي مقطوعة رومانسية دافئة، تتكئ على الحنين لا لتبكيه، بل لتبني عليه حضورًا ناعمًا مليئًا بالكرامة الأنثوية.
* الشاعرة لطيفة الغراس تكتب بأنوثة ناضجة لا تستجدي العشرين، بل تحوّلها إلى مرآةٍ يُضيء فيها الضياء الجديد.
* هي قصيدة تُقرأ بالقلب، وتُشمّ كالعطر، وتُقال همسًا كما يُقال الغزل حين يكون صادقًا ورفيعًا.
تقييم نقدي فني وشعري للقصيدة
1. البناء الفني:
* القصيدة بنيت على وحدة شعورية متماسكة، تدور حول فكرة مركزية هي المصالحة مع العمر والاحتفاء بالنضج، دون أن تفقد غنائية الذكرى أو حميمية التجربة. السرد الشعري انساب في تصاعد هادئ، حافظ على توازن الصورة واللغة.
2. اللغة الشعرية:
* لغة القصيدة راقية، حسّاسة، ناعمة دون ترهل، وشفافة دون فجاجة. جاءت المفردات مشبعة بالإيحاء، وابتعدت عن الابتذال أو المباشرة. كل كلمة كانت في موقعها الطبيعي، ما يدلّ على حسّ لغوي مرهف.
3. الصورة الشعرية:
* القصيدة تنبض بصور شعرية جديدة ذات طابع رومانسي، مثل “شَعر بلون الشعاع”، و”طيلسان العمر”، و”العطر المصنوع بالكلمات”. وقد خدمت هذه الصور الفكرة العامة للنص وأضفت عليه جمالًا داخليًا.
4. التوهّج العاطفي والوجداني:
* القصيدة تمثل ذروة النضج العاطفي، وتكشف عن ذات أنثوية متصالحة مع ماضيها وحاضرها. لم تقع الشاعرة في فخ النواح على العمر، بل تجاوزت ذلك إلى بناء حالة وجدانية تحتفي بالأنوثة كامتداد روحي لا كزمنٍ بيولوجي.
5. الموسيقى الداخلية والإيقاع:
* رغم أن القصيدة نثرية، فإنها احتفظت بإيقاع داخلي ناعم، ينبع من التكرار الدلالي (“بالأمس كنت بالعشرين”)، والتوازن الصوتي بين العبارات، مما منح النص موسيقى وجدانية لطيفة.
* قصيدة “من وحي أغنية: بالأمس كنت بالعشرين” نصّ شعري ناضج، يحمل من الحنين ما يكفي لإشعال الذاكرة، ومن الحكمة ما يكفي لتبرير كل لحظة في رحلة الحياة.
إنها قصيدة أنثى لم تخسر الزمن، بل حولته إلى نضجٍ يتفتح كالعطر في قلب الكلمة.
تقييم الشاعرة: لطيفة الغراس
1. الحس الإنساني والرؤية الشعرية:
* تتمتع الشاعرة برؤية شعرية ناضجة وعميقة؛ فهي لا تنظر إلى الشعر كحرفة بل ككائن حيّ ينبض بذاكرة أنثوية واعية. في قصيدتها، تسير الذات الشاعرة على خيط رفيع بين الحنين الهادئ والفخر المتزن، لتُقدم نموذجًا شعريًا لأنوثة متصالحة، واعية، ومتوثبة بالإحساس.
2. الصدق الشعوري والشفافية:
* أجمل ما في شعر لطيفة الغراس هو صدقه. لا تزيف التجربة، ولا تلبس قناعًا بلاغيًا متكلفًا. تقول ما تعيشه، وتكتبه كما يُحسّ، وليس كما يُتوقع منها. وهذا هو جوهر الشعر الإنساني الخالص.
3. البناء التعبيري والأسلوبي:
* أسلوب الشاعرة بسيط، لكنه محمّل بالدلالات العميقة. لا تسعى إلى التعقيد اللغوي أو الغموض المجاني، بل تختار الكلمة الواضحة المُفعمة بالتأثير، ما يمنح نصها طابعًا إنسانيًا قادرًا على الوصول إلى القارئ بمباشرة راقية.
4. الانتماء إلى تيار شعري:
* تنتمي الشاعرة إلى المدرسة الشعرية الوجدانية الحديثة، التي ترى في الشعر امتدادًا لنبض الحياة اليومية، لا قفزًا على الواقع ولا انقطاعًا عنه. وتتمكن بمهارة من خلق توازن بين الذات والموضوع، بين الأنوثة والتجربة، بين الذاكرة والحب.
* لطيفة الغراس شاعرة تمتلك خصوصيتها، وتكتب من قلب أنثى تعرف كيف تُحوّل الزمن إلى قصيدة، والوجدان إلى نور. لا تحتاج إلى صخب لغوي لتُبهر، بل تكفيها ومضة شعور، أو جملة صادقة، أو نَفَسٌ دافئ من ذاكرة العشرين.
* إنها شاعرة ذات صوت هادئ، لكنه عميق الأثر، طويل المدى، ومليء بعطرٍ إنساني لا يُنسى.
الدكتور عبدالكريم الحلو