سؤال التّراث والهوية في الفكر العربي المعاصر بين جدليّتي الخصوصيّة والكونيّة
بقلم الدكتورة لى طبيب
الحلقة الأولى
يُعَدُّ سؤال التراث والهوية من أكثر القضايا إلحاحًا وتعقيدًا في الفكر العربي المعاصر، حيث يتداخل فيها التاريخ مع الواقع المعاش والمستقبل المأمول، يمثل التراث بمختلف مكوناته الثقافية والدينية والتاريخية، العنصر الأساسي الذي يستند إليه العرب في تحديد هويتهم والانطلاق نحو تحقيق الذات الجماعية، ومع تزايد تحديات العولمة والتحديث، أصبح البحث في التراث والهوية موضوعًا محوريًا
يشغل الكثير من المفكرين والباحثين العرب، في هذا السياق تتباين الرؤى حول كيفية التعامل مع التراث والهوية، فهناك تيار يدعو إلى الحفاظ على التراث كجزء أصيل من الهوية العربية، مؤكدًا على ضرورة حمايته من طغيان الثقافات الأجنبية وتأثيرات العولمة، وعلى الجانب الآخر يظهر تيار آخر يطالب بإعادة قراءة التراث قراءة نقدية، بهدف التخلص من العناصر التي تعيق التقدم والتحديث. من خلال هذه النقاشات يتضح أن سؤال التراث والهوية في الفكر العربي المعاصر ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو جزء من البحث عن الذات وإيجاد موقع مناسب في العالم المتغير.
وفي ظل هذا الوضع المحكوم بالتوتر والاضطراب والرهبة من العولمة وظهور الصراعات التي تؤطرها الإيديولوجيات المتصارعة في التعامل مع خطاب التراث/الهوية، كان لابد من الفصل في هذا الموضوع انطلاقا من إعادة إنتاج وصياغة سؤال التراث في علاقته بالهوية والعولمة باعتبارها حتمية تاريخية لابد منها، وسعيا منا للوصول إلى مفهوم منفتح للتراث يتجاوز الفلسفات الجامدة والعقيمة ويبنى على حلول ترضي جميع الأطراف.
اهتمامنا بقضية التراث/الهوية وضعنا أمام إشكاليات لعل أبرزها:
– كيف قرأ الفكر العربي المعاصر خطاب التراث والهوية؟
– هل فقد التراث شرعيته أمام سلطة العولمة؟ أم مازال يملك ذلك البريق؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات التي طُرحت في إطار موضوع شاسع ومتشعب، تم بناء الدراسة على مجموعة من الفرضيات من بينها:
– إعادة قراءة التراث بعيون نقدية تساعد في تحقيق التقدم والتحديث دون فقدان الهوية.
– التفاعل الإيجابي مع الثقافات العالمية يمكن أن يؤدي إلى إثراء التراث العربي بدلاً من طمسه.
– التراث يحتوي على عناصر مرنة يمكنها التكيف مع متطلبات العصر الحديث.
في إطار ما تقدم تهدف دراستنا الراهنة إلى:
– تحليل وتقييم النظريات والمواقف المختلفة المتعلقة بالتراث والهوية في الفكر العربي المعاصر.
– اقتراح استراتيجيات لإعادة صياغة التراث العربي بما يتوافق مع متطلبات العصر الحديث.
– تقديم رؤية متوازنة تجمع بين الحفاظ على التراث والانفتاح على العالمية.
ولكي يحقق البحث أهدافه المرجوة اقتضت الدراسة أن تستند على المقاربة الفكرية؛ التي من خلالها يمكن تقديم فهم أعمق وأكثر شمولية لمسألة التراث والهوية في الفكر العربي المعاصر.
المبحث الأول التراث والهوية: قراءة في المفاهيم
المطلب الأول:مفهوم التراث:
التراث هو مجموعة من المعارف والممارسات والمعتقدات التي تنقلها الأجيال عبر الزمن، وتشمل جوانب ثقافية، اجتماعية، دينية، وفنية. كما يتنوع التراث بين مادي وغير مادي، بين ما هو مكتوب وما هو شفوي، وبين ما هو رسمي وما هو شعبي. علاوة على أنه مرآة للماضي ووعاءً يحمل قيم الهوية الجماعية لأمة أو ثقافة معينة، لكنه لا يتوقف عند كونه مجرد موروث ثابت، بل هو عملية حية تتمثل في التفاعل المستمر بين الماضي والحاضر.
وبالتالي فقد مر على العديد من المفاهيم التي حاولت مقاربته ومن بين هذه التعاريف تعريف المفكر(محمد عابد الجابري)؛ الذي عرف التراث بأنه:« بمعنى الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، وهو المضمون الذي تحمله هذه الكلمة داخل خطابنا العربي المعاصر ملفوفا في بطانة وجدانية إيديولوجية» (الجابري محمد عابد، 1991، صفحة 23) يوضح(الجابري) من خلال هذا المفهوم أن التراث بوصفه منظومة متكاملة تشمل الأبعاد الثقافية والفكرية والدينية والأدبية والفنية، مما يبرز شموليته وامتداد تأثيره في مختلف مجالات الحياة، ويشير إلى أن الخطاب العربي المعاصر لا يتعامل مع التراث كمجرد ماضٍ ساكن، بل يضفي عليه طابعا وجدانيًا وإيديولوجيًا، مما يجعله أداة للتفاعل مع الحاضر ورؤية المستقبل؛ هذا التعريف يُظهر كيف يمكن للتراث أن يصبح ساحةً للصراع الفكري أو الانتماء الثقافي، فهو ليس مجرد نقل للماضي، بل إعادة تشكيله بما يتماشى مع تطلعات الحاضر.
كما يؤكد (الجابري) على ضرورة التفريق بين الميراث والتراث؛ ففي الخطاب العربي الحديث والمعاصر، اكتسب مصطلح التراث دلالة مغايرة، وأحيانًا متناقضة، لمفهوم الميراث كما كان يُفهم في الاصطلاح القديم؛ فبينما يشير الميراث إلى التركة التي تُوزَّع على الورثة أو نصيب كل منهم فيها، أصبح التراث اليوم يعبّر عن الإرث الفكري والروحي المشترك الذي يوحّد العرب ويجعلهم امتدادًا لسلفهم، وهكذاإذا كان الميراث يرمز إلى غياب الأب وحلول الابن مكانه، فإن التراث أصبح في الوعي العربي المعاصر عنوانًا لحضور الأب في الابن، وتجسيدًا لامتداد السلف في الخلف، واندماج الماضي في الحاضر؛ بهذا المفهوم لا يُنظر إلى التراث كأنه مجرد بقايا من ثقافة ماضية، بل يُرى ككيان شامل ومتكامل يمثل العقيدة والشريعة، واللغة والأدب، والعقل والذهنية، والحنين إلى الماضي، والتطلعات نحو المستقبل. (الجابري محمدعابد، 1991، صفحة 24)
يعرف (حسن حنفي) التراث بأنه: « كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارات السائدة، فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات» (حنفي، 1992، صفحة 113) يقدم (حسن حنفي) في تعريفه رؤية شمولية للتراث، حيث يجمع بين كونه إرثًا ماضويًا وواقعًا حاضرًا متجددًا؛ فالتراث لا يُختزل في الماضي، بل يتفاعل مع الحاضر بمستوياته المختلفة ليشكل جزءًا من الوعي الثقافي والإنساني؛ هذا التعريف يعكس فهمًا عميقًا لديناميكية التراث، حيث يصبح إطارًا للتواصل بين الأجيال وأداة لتفسير الواقع وإعادة بنائه بما يخدم الحاجات المعاصرة.إضافة إلى أنه يرى أن التراث يتوزع على مستويات متعددة، منها التراث المادي والتراث المعنوي؛ فالتراث المادي وفقًا لرأيه يتمثل في ما يمكن جمعه وحفظه في المكتبات، والمخازن، والمساجد، والمنازل الخاصة، وهو تراث مكتوب سواء كان في شكل مخطوطات أو مطبوعات، ويتمتع بوجود مادي ملموس على مستوى أولي، وهو مستوى الأشياء. (الجابري محمد عابد، 1991، صفحة 14) يذهب (فهمي جدعان) إلى أنه من البداهة والسذاجة أن نردد مع الآخرين: التراث هو كل ما ورثناه تاريخيا؛ بل« أن التراث هو في كل الأحوال عمل أو انجاز إنساني خالص. فنحن لا نستطيع أن نتكلم على التراث إلا حين نكون بصدد مبدعات إنسانية، الإنسان فيها هو الصانع وهو السيد وهو المتمثل وهو المورث للآتي من بعده» (جدعان، 1985، صفحة 17) يركز هذا التعريف على البعد الإنساني الخالص في مفهوم التراث، حيث يتم تصويره كنتاج إبداعي صنعه الإنسان بمجهوده ووعيه، ليصبح انعكاسًا لقدرته على التمثّل والإبداع والتوريث. هذا الفهم يعيد للإنسان دوره المحوري في تشكيل التراث، بعيدًا عن كونه مجرد متلقٍّ أو حافظ للماضي. فالتراث هنا يُرى كعملية ديناميكية، تبدأ بالإبداع وتنتهي بالتوريث، مما يضفي عليه طابعًا حيًا يتجاوز الجمود، ليصبح قوة فاعلة في بناء الحاضر والمستقبل.
والتراث في أحد تعاريفه: «هو الموروث الثقافي والاجتماعي والمادي، المكتوب والشفوي، الرسميوالشعبي، اللغوي وغير اللغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب» (وتار، 2002، صفحة 21) يركز هذا المفهوم على شمولية التراث، حيث يجمع بين الأبعاد الثقافية والاجتماعية والمادية، مع التركيزعلى تعددية أنماطه؛ سواء كان مكتوبًا أو شفهيًا، رسميًا أو شعبيًا، لغويًا أو غير لغوي. يعكس ذلك نظرة متكاملة للتراث بوصفه وعاءً متنوعًا يحتضن مختلف أشكال التعبير الإنساني التي وصلت إلينا عبر العصور. هذه الرؤية تجعل التراث أكثر من مجرد ذاكرة تاريخية، فهو أيضًا رصيد حيوي متعدد الأوجه يساهم في تشكيل الهوية الثقافية والإنسانية.
…….. يتبع في الحلقة الثانية ……….